اطبع هذه الصفحة


قبس من نور النبوة

الثقة بالله

الدكتور. عبد الرحمن إبراهيم فودة
أستاذ الأدب المقارن بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة

 
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد..
أيها المستمع الكريم.. سلام الله عليكم ورحمته وبركاته, وأهلا بكم ومرحبا في برنامج ( قبس من نور النبوة)...

حلقة اليوم أيها الإخوة الكرام عن قصة من القصص النبوي الشريف، وما أجملَها من قصص, إنها قصة تؤكد ضرورة أن يشعر المسلم بالثقة المطلقة في جانب الله والكفاية به, والاعتماد عليه وحده، والاعتصام به في كل شئ ينوب الإنسان أو يصيبه, وأن على الإنسان أن يلجأ إلى الله سبحانه , ويتطلع إليه فهو القريب من عباده المعين لهم وحده, والقادر على كل شئ.
إنها قصة رجل يُقرض أخًا له مالاً, وهو مظهر من مظاهر الخير والمساعدة والتعاون على متاعب الحياة, وهذا المقرض يقدم ماله في ظرف صعب حيث لا شاهدَ ولا كفيل من الناس يكون دليلا له على ماله, ولكنه مع ذلك يقدم ماله راضيًا بالله شاهدًا وكفيلا ثقةً بالله واطمئنانًا إليه.
روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يُسلِفَه ألفَ دينار فقال: ائتني بالشهداء أشهدهم. قال:كفى بالله شهيدًا. قال: فأتني بالكفيل. قال: كفى بالله كفيلا.قال:صدقت.فدفعها إليه إلى أجل مسمى. فخرج في البحر فقضى حاجته, ثم التمس مركبا يقدم عليه في الأجل الذي أجّله فلم يجد, فاتخذ خشبة فنقرها, فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة منه إلى صاحبه, ثم زجج موضعها(1) ثم أتى بها إلى البحر ثم قال: اللهم إنك تعلم أني تسلفت من فلان ألف دينار فسألني شهيدا فقلت : كفى بالله شهيدا فرضى بك شهيدا, وسألني كفيلا فقلت: كفى بالله كفيلا, فرضى بك كفيلا, وأني جَهِدت أن أجد مركبا فلم أجد, وإني استودعتكها. فرمى بها في البحرحتى ولجت فيه, ثم انصرف وهو في ذلك يلتمس مركبا يخرج إلى بلده, فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركبا قد جاء بماله, فإذا بالخشبة التي بها المال, فأخذها لأهله حطبا , فلما نشرها وجد المال والصحيفة, ثم قدم الذي كان أسلفه فأتى بألف دينار. وقال: مازلت جاهدا في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركبا قبل الذي أتيت فيه. قال: هل كنت بعثت إليّ بشئ؟ قال: أخبرك أني لم أجد مركبا قبل الذي جئت فيه. قال: فإن الله تعالى قد أدى عنك الذي بعثت في الخشبة فانصرف بالألف دينار راشدًا".
مستمعي الكرام...
هذا المقترض يمثل المؤمن المضطر للاستعانة مع التستر حفظًا للكرامة.. والمقرِض يمثل المؤمن المحتاط يحب المواساة مع حفظ الحق حذرًا من اللَّيِّ والنكول..
أما الشهيد والكفيل فهو الضامن الذي لا ريب في وفائه.. إنه الله سبحانه وتعالى الملك الحق..
لقد بدأت القصة بعقدة وهي حاجة ذلك الإنسان إلى مال, وطلبُه من أخيه أن يقرضه, فطلب صاحب المال شهيدًا وكفيلا , ثم تتابعت الأحداث لتتحول العقدة من المقترض إلى المقرض.. فهو سيعطي قرضًا... ولكنه قرض بلا عقد, بل بلا شهيد أو كفيل .. ألا يدخل من هذه الثغرة عدو البشر إبليسُ ليزلزل العقيدة ؟
وتدرج الزمن في المُضِىّ.... وبدأت تلوح العقدة في جانب المقترض فهو يريد الوفاء بالعهد في زمن الوعد، يخرج يبحث عن مركب لكى يوصل المال إلى صاحبه فلا يجد، إنه يعيش أزمة إذ لا سفينة.. لا وسيلة... قلق وحيرة إنها مشكلة ولكن يأتي الحل..ألم يكن أشهد الله وكفله فرضى صاحب المال شهادة الله وكفالته, إذًا لِمَ لا يودع المال بأعين الشهيد والكفيل؟ أخذ خشبة وجوَّفها، ثم وضع الدنانير فيها وأحكم إغلاقها, ثم توجه إلى الله بالدعاء، فكان هذا هو الحل.. صَنَعَه واثقًا, وإن بدا في ظاهره ضربًا من المجازفة ماذا صنع الشاهد والكفيل؟
جمع بين المال والمقرِض بسرَّ من الإرادة محكم.. وإذا كان في طاقة البشر أن يبلغوا الرسائل, ألا يجب الإيمان بإبلاغها من الخالق الذي لا تدركه سِنة ولا نوم؟

أخي المستمع، من هذا الحديث نتعلم:
أن التعاون بين الناس على الخير والبر يثمر الخير دائمًا, ومن أهمه تفريج كربات المكروبين.
حرص المؤمن على الوفاء فيه حفاظ على صورته وصورة دينه في أعين الناس، فلقد تحرى المقترض وبحث عن الوسائل التي يوصل بها المال لصاحبه.
أن من أراد قضاء الدين أعانه الله عز وجل ووفقه.
طلاقة قدرة الله عز وجل, فهو سبحانه يفعل ما يشاء, وهو قادر على كل شئ, لقد وصل المال إلى صاحبه, في خشبة مهمله ملقاة, كان من الممكن ألا يُعِيرَها الرجل اهتمامًا, أو يأخذها حطبًا لأهل بيته, ولكن الله عز وجل يجري هذه الكرامة لأجل الرجل الذي صدق في نية السداد.
المقرِض يراقب الله عز وجل, ولا يستغل المقترِض, فلما وصله ماله, أخبر أخاه الذي جاء ليسدده له مرة أخرى بعد أن وجد مركبًا إليه.
تفويض الأمر لله عز وجل، والثقة المطلقة في جانب الله، والكفاية به سبحانه.

هذا وبالله التوفيق والله أعلم
وإلى لقاء في حلقة قادمة
حتى ذلك الحين أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه.
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته

-------------
(1) أى أحكم غلقه.
 

 عبد الرحمن  فودة
  • قبس من نور النبوة
  • الصفحة الرئيسية