اطبع هذه الصفحة


قبس من نور النبوة

التقـوى

الدكتور. عبد الرحمن إبراهيم فودة
أستاذ الأدب المقارن بكلية دار العلوم بجامعة القاهرة

 
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد، أيها المستمع الكريم، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأهلاً بكم ومرحبًا فى حلقة جديدة من برنامجكم "قبس من نور النبوة"

إذا تمكن الإيمان من القلب، ورسخت جذوره فى أعماق النفس، أثمر حالة من الحالات التى تفِجِّرُ الطاقاتِ الكامنةَ، والقُوى التى وهبها اللهُ للإنسان، فينبعثُ إلى الخير انبعاثَ المُحب، وينصرفُ عن الشر انصرافَ الكاره، ويكونُ شأنُه كما وصفه اللهُ سبحانه (ولكنّ الله حبب إليكم الإيمان وزينه فى قلوبكم، وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان) [الحجرات 7].

تلك الحالة هى التقوى، والتقوى تتضمن أصول الإسلام وقواعد الدين كما قال تعالى فى وصف المتقين (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون) [البقرة 3] ولما كانت التقوى جماعَ كل بر وخير، وأصلَ كل صلاح للأفراد والجماعات، كانت خير ما يتزود به الإنسان، يقول سبحانه (وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولى الألباب)
[البقرة 197].

لذا جاءت وصية النبى صلى الله عليه وسلم بالتقوى فى حديث حَلْقتنا هذه، حيث قال صلى الله عليه وسلم موصياً معاذاً وأباذر، والمراد الأمةُ كلُّها "اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن" رواه أحمد وأبو داود وهو حديث حسن.

أخى المستمع .. يشتمل الحديث على ثلاثة حقوق، حقِ الله، وحق النفس، وحق العباد. نتحدث فى هذه الحلقة عن حق الله عز وجل فى قوله صلى الله عليه وسلم (اتق الله حيثما كنت) يعنى فى خلوتك وجلوتك، فى شدتك ورخائك، فى عسرك ويسرك، فى منشطك ومكرهك، فى أى زمان أو مكان تتقى الله سبحانه وتعالى.
ومعنى التقوى ـ أخى الحبيب ـ هو الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.
ومن معانيها كذلك: ألا يراك الله حيث نهاك، وألا يفتقدك حيث أمرك. ومن معانيها: أن يطاع الله فلا يعصى، وأن يذكر فلا ينسى، وأن يشكر فلا يُكفر. وهى أيضاً أن تعمل بطاعة الله على نور من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك معصية الله على نور من الله تخاف عقاب الله.

والتقوى أخى الكريم هى وصية الله تعالى للأولين والآخرين، قال تعالى (ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله) [النساء 131]، وكم من نبى خاطب قومه بمثل قوله (أن اعبدوا الله واتقوه)[نوح 3].
وقد سئل أبو هريرة رضى الله عنه عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقاً فيه شوك ؟ قال : نعم. قال : فكيف صنعت ؟ قال : إذا رأيت الشوك عزلت عنه أو جاوزته. قال : ذاك التقوى.
ولقد أحسن من قال:
خَلِّ الذنوب صغيرَهـا وكبيرَهـا ذاك التُّـقَـى
واصنعْ كماشٍ فوق أرض الشَّوكِ يحذر ما يرى
لا تَحْقِرَنَّ صغيرةً إن الـجبـالَ مـن الحَـصَى

أخى المستمع .. لقد كان النبى صلى الله عليه وسلم يوصى أصحابه إذا أرادوا سفراً أوغزواً بتقوى الله، وسار على نهجه صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر وغيرهما ومن سار على الدرب فكانوا يوصون أحبابهم وأتباعهم بالتقوى..

كتب ابن السماك الواعظ إلى أخ له. أما بعد . أوصيك بتقوى الله الذى هو نجيُّك فى سريرتك ورقيبك فى علانيتك، فاجعل الله من بالك على كل حال فى ليلك ونهارك، وخف الله بقدر قربه منك وقدرته عليك. واعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره، ولا من ملكه إلى ملك غيره، فليعظم منه حذرك، وليكثر منه وجلك والسلام.

إذًا أخى الحبيب ..
إذا ما خلوتَ الدهرَ يومًا فلا تَقُلْ *** خلوتُ ولكنْ قُلْ علىّ رقيبُ
ولا تحسبنَّ الله يغفَلُ ساعةً *** ولا أن ما تأتى عليه يَغيبُ
والتقوى على ثلاث مراتب:
الأولى: التوقّى من العذاب المخلَّد صاحبه، وذلك بالتبرّى من الكفر، وعليه قوله تعالى (وألزمهم كلمة التقوى) [الفتح 26] فالمراد بها لا إله إلا الله محمد رسول الله.
والثانية: التجنب لكل ما فيه لوم ، حتى الصغائر
والثالثة : أن يتنزه العبد عن كل ما يشغله عن الحق، وهو المراد بقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) [آل عمران 102].
أيها المستمع الكريم .. يقول الإمام الغزالى رحمه الله .. إن التقوى كنز عزيز، فإن ظفرت به فكم تجد فيه من جوهر ورزق كريم ومُلك عظيم؛ لأن خيرات الدنيا والآخرةِ جمعت فيها.
وتأمل معى قول القائل:
من عرفَ اللهَ فلم تُغْنِه *** معرفةُ الله، فذاك الشَّقِى
ما يصنعُ العبدُ بِعز الغِنَى*** والعز كلُّ العز للمُتَّقـِى

وقول الآخر:
واتقِ اللهَ فتقوى الله مـا *** خالطت قلبَ امرئ إلا وَصَلْ
ليس من يقطع طُرْقاً بطلا *** إنما مـن يتقـى الله البطـل

وحسبك أن تعلم أخى الحبيب أن التقوى هى جماع أعمال البر الذى هو من أهم نتائج الصدق. قال تعالى (ليس البرّ أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكينَ وابنَ السبيل والسائلين وفى الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) [البقرة 177].

فسارع أخى إلى التقوى، إذ الفُرصة متاحة الآن، وما يُدرَكُ اليوم قد لا يدرك غداً.
تزودْ من التقوى، فإنك لا تدرى *** إذا جَنَّ ليلٌ هل تعيشُ إلـى الفجرِ
فكمْ من صحيحٍ مات من غير عِلَّةٍ *** وكمْ من عليلٍ عاش حِينًا من الدهرِ
وكمْ من صِغارٍ يُرْتَجَى طولُ عمرهم *** وقد دخلت أجسادُهم ظلمةَ القبرِ
وكمْ من فتى يُمسى ويصبح لاهيا *** وقد نُسِجَتْ أكفانُه وهو لا يدرى
وكمْ من عروسٍ زينوها لزوجها *** وقد قُبضت أرواحهم ليلة القدر
ألا هل من مشمر باحث عن سلعة الله الغالية، عن الجنة التى يقول الله فيها (إن المتقين فى جنات ونهر فى مقعد صدق عند مليك مقتدر) [القمر 54].

جعلنا الله وإياكم من المتقين وثبتنا على الإيمان
هذا، وللحديث بقية فإلى اللقاء.
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته
 

 عبد الرحمن  فودة
  • قبس من نور النبوة
  • الصفحة الرئيسية