صيد الفوائد saaid.org
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







وجاءت الهمسات

عبدالسلام بن سعيد الشمراني

 
من يسير سيراً حثيثاً له هدف قد أحاط به من كل مكان فقد يستغرقه هدفه ويضنيه سيره،ويغفل عن المتربص،والمطارد،ويؤنسه الحادي،فتتعب الراحلة،ويكسل الصاحب،ويتساقط بعض المتاع،والقائد يرى الهدف قاب قوسين أو أدنى،فيحث المسير،وينسى من وراءه،ويبرر سيره الحثيث المضني للراحلة والأصحاب،ببريق الهدف،وقرب الوصول،فيمد عينه للهدف،وينسى صخور الطريق،والتواءاته،وينسى أيضاً ملل النفس وإدبارها،فلربما صخرة طريق،أو حجر عثرة،تسقط القائد سقطة موجعة تعرقله عن السير زمناً طويلاً تتسخ فيه ثيابه المطهرة بلوثة الطين،وقد يأنس لرائحة الطين التي جبل منها وهي ما تزال تناديه ولن تزال،ولكن كان لا يجد هذه الثقلة وهو يسير،ثم قد لا تقف عند هذا الحد،بل أصحابه في السفر قد يتفرقون فمنهم من يواصل السير،ومنهم من يأخذ طريقاً آخر أسهل سلوكاً،وأكثر تمهيداً،مع عدم علمه أن ذلك الطريق يوصل إلى نهاية غير النهاية،وإلى هدف غير الهدف،وإلى غاية أخرى بعيدة كل البعد عن تلك الغاية التي كان يسير إليها،وقد يأنس البعض بالقعود،ويلتذ بالخضرة،ويقلب ناظريه ذات اليمين وذات الشمال فيما لم يكن يفعله من قبل.

وبعد أن يتعافى القائد من تلك الكبوة التي لم تكن في حساباته،ولم يعد لها عدتها،يجد العقد قد تناثر فيبقى يلملمه فترة زمنية أخرى طويلة،كان بإمكانه لو أعد للعثرات عدتها،أن يجعل جهد التجميع واللملمة وقوداً لراحلته،واستثمر ذلك الوقت في قطع المسافات الكبيرة من الطريق.

ومن هنا لا بد للحادي وللسائق وللقافلة من نظرات تأملية طويلة ومتأنية يستحضر فيها الماضي ويستشرف فيها المستقبل،ويستصحب الحاضر بجميع ملابساته ومتطلباته وتغيراته،ثم لا يغيب على المتأمل طبيعة النفس البشرية والتواءاتها وتعقيداتها،فلا يقبلها بواقعيتها وشهواتها ودنسها،ولا يقفز بها قفزات محطمة،قد ينقطع الخيط الرابط لها الذي يشدها إلى الأعلى فتتردى فيخطفها الطير أو تهوي بها الريح في مكان سحيق،فنتألم أن لم نكن أبقيناها على مستواها المتدني خيراً من أن ننظر إليها في وديان الهلكة والتردي.

إن الاستمرار في السير ولو ببطء وتؤدة مع شيء من المراجعة والترميم،والمحافظة على المكتسبات، والقيام بالمتطلبات،والحذر من التراجعات والانتكاسات،خير من الانطلاقة السريعة التي توصلنا إلى مستوى عال من تحقيق الأهداف،وقطع لمسافات كبيرة من الطريق ثم ارتطام شديد على قدر الانطلاقة،ارتطام إما قاتل،وإما يرتد معه السائر إلى حيث بدأ،فإما يبدأ من جديد وهذا قليل،وإمّا يرى أنه لا يتناسب مع هذا الطريق، أو الطريق لا يناسبه فيترك الطريق،أو يتيه الطريق من تحت قدمه،مع وجود طرق كثيرة أسهل سلوكاً وأقل خطراً وأكثر قرباً من رغبات النفس وطموحاتها،واستجابة لنداءات ملحة منبعثة من أودية النفس المهلكة.

إن السائر إلى الجنة لا بد أن يرتطم بمصالح الآخرين فإما أن يجد مخرجاً، وتكون له قدرة لإدارة الموقف،وأخذ المسموح وجودة التصرف مع الممنوع،وإما أن يجد الطريق مسدوداً فينكفئ على ذاته ويعود ليجتر ماضيه لأنه ليس لديه ما يقدمه ويعرضه لأصحابه الذين يريد ركوبهم معه في سفينة النجاة.

ويبقى هكذا حتى يشعر الراكب على متن سفينته أنه ليس لديه ما يقدمه للمسافرين،وما ذلك إلا لأنه لم يتعامل مع المسموح التعامل السليم حينما كان كذلك،فأورث خصمه فرصة لزيادة مساحة الممنوع.والتضييق عليه حتى فيما كان مسموحاً وهنا يقف ولا يجد في الأفق ما يلوح ببريق أمل في المواصلة،أو هكذا يظن،ووقفته تمكن المطارد من اللحاق،وتمكن الرصد من التقدم وإغلاق أكبر قدر ممكن من مخارج الطوارئ التي تلوح للسائرين،وهنا لا بد من همسات للرواد ولعلها تفتح ـ لا أقول نوافذ أو أبواب ـ ولكن الأمل في أن تفتح ولو ثقوباً في جدار الظلام،فيبرق لنا أنوار السابقين من الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا،أولئك الذين مخروا العباب، وهم هناك قد وصلوا وهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من بعدهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
فلو ارتفع الصوت،واتضح القول،وسمع المنادي،فسوف ينقض العدو المطارد والراصد فكان لابد أن يكون الصوت همساً،والتصريح تلميحاً وكما قيل:

تكفي اللبيب إشارة مكلومة *** وسواه يدعى بالنداء العالي


ولذلك كله((جاءت الهمسات))

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
 عبدالسلام الشمراني
  • مقالات تربوية
  • ثمرات الأوراق
  • مسائل فقهية
  • خواطر
  • دروس تربوية
  • دروس ومحاضرات
  • عروض بوربوينت
  • السيرة
  • قصائد
  • الصفحة الرئيسية