الحلقة الثانية : حقيقة شرك عبدة الاصنام
يزعم دعاة الوثنية المعاصرة ان المشركين الأوائل كانوا غير معترفين بالله ولا
يقرون له بالربوبية ، وان القرآن الكريم سجل عليهم حكم الكفر لأنهم كانوا
يعتقدون في أصنامهم النفع والضر ، وأنها مساوية لله في الألوهية ، بل
والربوبية .
وقد تقرر في الحلقة الأولى ان
المشركين افردوا الله بالخلق والرزق والتدبير وغير ذلك من أمور الربوبية ،
وبهذا انهار جزء كبير مهم من الدعوى التي يرددها محمد علوي المالكي وجميع من
يدعو الى عبادة الاولياء والصالحين .
وهنا ينهار ما تبقى من الدعوى ، بحول الله وقوته . وذلك من خلال عرض الحقائق
التالية :
1 –
المشركون لم يعتقدوا النفع والضر في اصنامهم .
2 –
الاصنام لا تمثل في حس المشركين الا صورا
للأنبياء والصالحين او الملائكة .
3 –
المشركون لم يعبدوا الاصنام الا لينالوا شفاعة اصحابها ، من العلماء والزهاد
. ولتقربهم الى الله زلفى .
4 –
في حال الشدة يتخلى المشركون عن وسائطهم ويفردون الله بالدعاء .
ولا تعجب اخي القاريء اذا وجدتني اتكيء كثيرا على ما كتبه الرازي والشهرستاني
، معرضا عما كتبه ابن تيمية وابن القيم وابن عبد الوهاب .
والغرض ان يعلم الجميع ان هذه الحقائق يقررها " العلماء " مهما اختلفت
مشاربهم ، وتنوعت مدارسهم ، وتباعدت اعصارهم . وانه ليس في كلام ابن تيمية
وتلاميذه في هذه المسألة ما هو جديد او محدث ، الا عند من لا يقرأ ، واذا قرأ
لم يفهم . " ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا " .
قال الفخر الرازي في تفسيره ( 26/283)
عند قوله تعالى :
" الله يتوفى الأنفس … " الزمر : "
ويحتمل ان يكون المراد بهذا : ان الدليل يدل على ان الواجب على العاقل ان
يعبد إلها موصوفا بهذه القدرة وبهذه الحكمة ، ولا يعبد الاوثان التي هي
جمادات لا شعور لها ولا ادراك .
واعلم ان الكفار أوردوا على هذا
الكلام سؤالا فقالوا: نحن لا نعبد هذه
الأصنام لا عتقاد انها آلهة تضر وتنفع ، وانما نعبدها لأجل انها تماثيل
لأشخاص كانوا عند الله مقربين ، فنحن نعبدها لأجل ان يصير اولئك الأكابر
شفعاء لنا عند الله .
فأجاب الله تعالى
بأن قال : ( أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أولو كانوا لا يملكون شيئا ولا
يعقلون )
وتقرير الجواب ان هؤلاء إما ان يطمعوا بتلك الشفاعة من هذه الاصنام ، أو من
اولئك العلماء والزهاد الذين جعلت هذه الاصنام تماثيل لها . ( والاول ) باطل
؛ لان هذه الجمادات وهي الاصنام لا تملك شيئا ولا تعقل شيئا فكيف يعقل صدور
الشفاعة عنها . ( والثاني ) باطل ؛ لان في يوم القيامة لا يملك احد شيئا ،
ولا يقدر احد على الشفاعة الا بإذن الله ، فيكون الشفيع في الحقيقة هو الله
الذي يأذن في تلك الشفاعة ، فكان الانشغال بعبادته اولى من الانشغال بعبادة
غيره ، وهذا هو المراد من قوله تعالى ( قل لله الشفاعة جميعا ) " انتهى.
ثانيا :
قال الرازي في ( 17/86) في تفسير قوله
تعالى ( قل من يرزقكم من السماءوالارض ... ) يونس
" وهذا يدل على ان المخاطبين بهذا الكلام كانوا يعرفون الله ويقرون به ، وهم
الذين قالوا في عبادتهم للأصنام انها تقربهم الى الله زلفى ، وانهم شفعاؤنا
عند الله
وكانوا يعلمون ان هذه الأصنام
لا تنفع ولا تضر فعند ذلك قال الرسول عليه
السلام ( فقل افلا تتقون ) يعني : افلا تتقون ان تجعلوا هذه الاوثان شركاء
لله في المعبودية ، مع اعترافكم بأن كل الخيرات في الدنيا والآخرة انما تحصل
من رحمة الله واحسانه ، واعترافكم بأن هذه الأوثان لا تنفع ولا تضر ألبتة "
انتهى
ثالثا :
وقال في ( 8/224 ) في تفسير قوله
تعالى ( وما يؤمن اكثرهم بالله الا وهم مشركون ) يوسف :
بعد ان اثبت اقرارهم بالله وشركهم في العبادة ونقل عن ابن عباس : "ان اهل مكة
قالوا : ربنا الله وحده لا شريك له والملائكة بناته ، فلم يوحدوا بل اشركوا ،
وقال عبدة الاصنام : ربنا الله وحده ، والاصنام شفعاؤنا عنده … " انتهى
رابعا:
وقال الرازي ايضا في ( 1/111) في
تفسير قوله تعالى ( فلا تجعلوا لله اندادا ) البقرة :
" فإن قيل : انهم لم يقولوا ان الاصنام تنازع الله .
قلنا : لما عبدوها وسموها آلهة ، أشبهت حالهم حال من يعتقد انها آلهة قادرة
على منازعته ، , فقيل لهم ذلك على سبيل التهكم ، وكما تهكم بلفظ " الند " شنع
عليهم بأنهم جعلوا " أندادا " كثيرة ، لم لا يصلح ان يكون له ند قط " انتهى .
قلت : تأمل قوله اشبهت ، والمشبه غير المشبه به كما لا يخفى .
وقال ( 1/ 112 ) في تفسير الاية
السابقة :
"
المسألة الأولى :
اعلم انه ليس في العالم أحد يثبت لله شريكا يساويه في الوجود والقدرة والعلم
والحكمة ، وهذا مما لم يوجد الى الآن . لكن الثنوية يثبتون الهين أحدهما حليم
يفعل الخير ، والثاني سفيه يفعل الشر . وأما اتخاذ معبود سوى الله تعالى ،
ففي الذاهبين الى ذلك كثرة :
الفريق الأول : عبدة الكواكب ، وهم
الصابئة ، فإنهم يقولون : ان الله تعالى خلق هذه الكواكب ، وهذه الكواكب هي
المدبرات لهذا العالم . قالوا : فيجب علينا ان نعبد الكواكب ، والكواكب تعبد
الله تعالى ."
قلت : ما الفرق بين هؤلاء ، وبين من قال : الأقطاب مدبرون لهذا العالم ، فنحن
ندعوهم ونستغيث بهم في الشدائد ، وننذر ونذبح ، وهم يعبدون الله ؟؟؟؟؟؟
قال الرازي :
"
والفريق الثاني :
النصارى الذين يعبدون المسيح عليه السلام .
والفريق الثالث :
عبدة الأوثان .
واعلم انه لا دين اقدم من دين عبادة الاوثان … فعلمنا ان هذه المقالة كانت
موجودة قبل نوح عليه السلام ، وهي باقية الى الآن ، بل أكثر أهل العالم
مستمرون على هذه المقالة .
والدين والمذهب الذي هذا شأنه ، يستحيل ان يكون بحيث يعرف فساده بالضرورة ،
لكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه الساعة ليس هو الذي خلقني ةخلق
السموات والارض علم ضروري ، فيستحيل إطباق الجمع العظيم عليه . فوجب ان يكون
لعبدة الأوثان غرض آخر سوى ذلك ، والعلماء ذكروا فيه وجوها : ( وذكر الرازي
ستة أوجه ، تدور حول التقرب الى الله بتماثيل على صور الملائكة او الكواكب ،
او كانت محاريب لهم ومع تقدم الزمن عبدوها او كانوا من المجسمة فاعتقدوا حلول
الرب فيها فعبدوها … )
قال ( ورابعها :
أنه متى مات منهم رجل كبير يعتقدون
فيه انه مجاب الدعوة ومقبول الشفاعة عند الله ، اتخذوا صنما على صورته
يعبدونه ، على اعتقاد ان ذلك الإنسان يكون شفيعا لهم يوم القيامة عند الله
تعالى ، على ما أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالة في قوله ( هؤلاء شفعاؤنا
عند الله ) " انتهى
خامسا:
وقال الرازي (17/ 59 ) في تفسير قوله
تعالى ( ويعبدون من دون الله مالا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا
عند الله .. ) يونس
" واما النوع الثاني : ماحكاه الله تعالى عنهم في هذه الاية ، وهو قولهم (
هؤلاء شفعاؤنا عند الله ) فاعلم ان من الناس من قال :
ان أولئك الكفار توهموا ان عبادة الأصنام أشد في تعظيم الله من عبادة الله
سبحانه وتعالى . فقالوا : ليست لنا أهلية ان نشتغل بعبادة الله تعالى ، بل
نحن نشتغل بعبادة هذه الأصنام ، وانها تكون لنا شفعاء عند الله تعالى .
ثم اختلفوا في انهم كيف قالوا في الاصنام انها شفعاؤنا عند الله ؟ وذكروا فيه
اقولا كثيرة :
فأحدها : انهم اعتقدوا ان المتولي لكل اقليم من أقاليم العالم روح معين من
أرواح عالم الافلاك ، فعينوا لذلك الروح صنما معينا واشتغلوا بعبادة ذلك
الصنم ، ومقصودهم عبادة ذلك الروح ، ثم اعتقدوا ان ذلك الروح يكون عبدا للإله
الاعظم ومشتغلا بعبوديته .
( قارن هذا بحال عباد الاقطاب والاوتاد !!! )
وثانيها : انهم كانوا يعبدون الكواكب ، وزعموا ان الكواكب هي التي لها اهلية
عبودية الله تعالى …
ورابعها :
انهم وضعوا هذه الاصنام والاوثان على صور انبيائهم وأكابرهم ، وزعموا انهم
متى اشتغلوا بعبادة هذه التماثيل فإن اولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله
تعالى . ونظيره في هذا الزمان اشتغال كثير من الخلق بتعظيم قبور الأكابر ،
على اعتقاد انهم اذا عظموا قبورهم فإنهم يكونون شفعاء لهم عند الله " انتهى .
قلت : الله اكبر . فمن الذي شبهكم بعبدة الاصنام ؟؟!!
سادسا:
وقال الرازي في ( 26/ 277 ) في تفسير
قوله تعالى ( ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون ورجلا سلما لرجل … )
الزمر
" وهذا مثل ضرب في غاية الحسن في تقبيح الشرك وتحسين التوحيد .
فإن قيل : هذا المثال لا ينطبق على عبادة الأصنام لأنها جمادات ، فليس بينها
منازعة ولا مشاكسة .
قلنا : ان عبدة الأصنام مختلفون . منهم من يقول هذه الأصنام تماثيل الكواكب
السبعة …. ومنهم من يقول :
هذه الأصنام تماثيل الأشخاص من
العلماء والزهاد الذين مضوا ، فهم يعبدون هذه التماثيل لتصير أولئك الأشخاص
من العلماء والزهاد شفعاء لهم عند الله ،
والقائلون بهذ ا القول تزعم كل طائفة
منهم ان المحق هو ذلك الرجل الذي هو على دينه وان من سواه مبطل ، وعلى هذا
التقدير ايضا ينطبق المثال . " .
سابعا:
وقال في ( 25 / 254 ) في تفسير قوله
تعالى ( قل ادعوا الذين زعمتم من دونه ) سبأ : 23
" واعلم ان المذاهب المفضية الى الشرك اربعة :
ورابعها :
قول من قال : انا نعبد الأصنام التي
هي صور الملائكة ليشفعوا لنا . فقال
تعالى في إبطال قولهم ( ولا تنفع الشفاعة عنده الا لمن أذن له ) . فلا فائدة
لعبادتكم غير الله ، فإن الله لا يأذن في الشفاعة لم يعبد غيره ، فبطلبكم
الشفاعة تفوتون على أنفسكم الشفاعة " انتهى.
وقارنه بكلام ابن القيم في المدارج.
وسأجيب عن شبهتهم : اننا لا نعبدهم ، وانهم يملكون الشفاعة ، ويسقدرون عليها
الآن ( وهم أموات ) فنحن نطلب منهم ما يقدرون عليه ويملكونه !!!!
ثامنا:
وقال الرازي في ( 20 / 102 ) في تفسير
قوله تعالى ( أولئك الذين يدعون يبتغون الى ربهم الوسيلة ايهم اقرب .. )
الإسراء
" اعلم ان المقصود من هذه الآية الرد على المشركين .
وقد ذكرنا ان المشركين كانوا يقولون
ليس لنا أهلية ان نشتغل بعبادة الله تعالى ، فنحن نعبد بعض المقربين من عباد
الله وهم الملائكة ،
ثم انهم اتخذوا لذلك الملك الذي عبدوه
تمثالا وصورة واشتغلوا بعبادته على هذا التأويل …." انتهى .
وانظر كلامه في ( 25 / 171 ) السجدة . و ( 23/102 ) الشعراء
وانتظر كلام غيره من أهل العلم ( ان شاء الله )
تاسعا"
وقال الإمام الرازي أيضا في تفسير
قوله تعالى " قالوا يا هود ما جئتنا ببينة " الآية ، هود : 53
" وثانيها: قولهم ( وما نحن بتاركي آلتنا عن قولك ) وهذا أيضا ركيك ؛
لأنهم كانوا يعترفون بأن النافع
والضار هو الله تعالى ، وان الأصنام لا تنفع ولا تضر .
ومتى كان الأمر كذلك فقد ظهر في بديهة
العقل انه لا تجوز عبادتها ، وتركهم آلهتهم لا يكون عن مجرد قوله ، بل عن حكم
نظر العقل ، وبديهة النفس " انتهى.
عاشرا :
وقال الشهرستاني ( ت:548 ه ) في "
الملل والنحل " ص 653
" وصنف منهم أقروا بالخالق وابتداء
الخلق ونوع من الإعادة ، وانكروا الرسل وعبدوا الأصنام ، وزعموا انهم شفعاؤهم
عند الله في الآخرة ، وحجوا اليها ونحروا لها الهدايا وقربوا القرابين ،
وتقربوا اليها بالمناسك والمشاعر وحللوا وحرموا ، وهم الدهماء من العرب الا
شرذمة منهم نذكرهم ."
وقال ص 655
" ومن كان لا يعترف بهم - الملائكة- كان يقول : الشفيع والوسيلة منا إلى الله
تعالى هم الأصنام المنصوبة ، أما الأمر والشريعة من الله الينا فهو المنكر ،
فيعبدون الأصنام التي هي الوسائل : ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا ..."
وقال ص 696 - 702
" قال : ويطوفون بالبيت أسبوعا ويمسحون الحجر ويسعون بين الصفا والمروة ...
وكانوا يلبون الا ان بعضهم كان يشرك في تلبيته في قوله : الا شريك هو لك
تملكه وما ملك ، ويقفون المواقف كلها ....
وكانوا يهدون الهدايا ويرمون الجمار ... وكانوا يكفنون موتاهم ويصلون عليهم ،
وكانت صلاتهم اذا مات الرجل وحمل على سريره ، يقوم وليه فيذكر محاسنه كلها
ويثني عليه ثم يدفن ثم يقول : عليـــــــــــك رحمــــــة الله...
وكانوا يداومون على طهارات الفطرة التي ابتلي بها إبراهيم ، وهي الكلمات
العشر فأتمهن ، خمس في الرأس وخمس في الجسد .." انتهى
الحادي عشر :
وقال ابن كثير في تفسير ( قل لمن
الأرض ومن فيها ان كنتم تعلمون ) المؤمنون :84
" ولهذا قال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين العابدين معه
غيره المعترفين له بالربوبية وانه لا شريك له فيها ، ومع هذا فقد أشركوا معه
في الالهية فعبدوا غيره معه ، مع
اعترافهم ان الذين عبدوهم لا يخلقون شيئا ولا يملكون شيئا ولا يستبدون بشيء ،
بل اعتقدوا انهم يقربونهم اليه زلفى ( ما نعبدهم الا ليقربونا الى الله زلفى
)
فقال ( قل لمن الأرض ومن فيها ) ...سيقولون الله ) أي فيعترفون لك بأن ذلك
لله وحده لا شريك له ، فإذا كان ذلك ( قل أفلا تذكرون ) انه لا تنبغي العبادة
الا للخالق الرازق لا لغيره ……. ( قل فأنى تسحرون ) أي فكيف تذهب عقولكم في
عبادتكم معه غيره مع اعترافكم وعلمكم بذلك . ) انتهى .
الثاني عشر :
وسبق كلام القرطبي في تفسير آية
الزخرف " ولئن سألتهم ..." الثانية
" قوله تعالى ( ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله ) أي لأقروا بأن الله خلقهم
بعد ان لم يكونوا شيئا ( فأنى يؤفكون ) أي كيف ينقلبون عن عبادته ، وينصرفون
عنها ، حتى أشركوا به غيره ، رجاء شفاعتهم له " انتهى..
[ كتب هذا المقال بتاريخ
14/6/1999 ، ونشر بالساحة الإسلامية ].
الحلقة
الثالثة