اطبع هذه الصفحة


اعتراف آخر ... لمحمد أركون !

سليمان بن صالح الخراشي

 
هذا اعتراف آخر للمفكر المتفرنس ( محمد ! ) أركون أقدمه للقراء لتتبين لهم سذاجة مثل هؤلاء المفكرين الذين كانوا يعيشون أحلاما وخيالات ظانين أن الإنسان الغربي بفضل الحداثة والتنوير ! اللذين مر بهما قد ترقى تفكيره فتخلص مما يسمونه الأيدلوجيا وتعصباتها ، مستبدلا ذلك بالتفكير العلماني المتسامح ...الخ

ثم يتفاجأ هؤلاء السذج الذين باعوا دينهم وعزهم بأبخس الأثمان : أن الغرب النصراني هو هو لم يتغير ولم يتبدل ؛ حيث لا زالت النظرة الصليبية تحكمه عند حديثه عن الإسلام ، مهما ستر ذلك بزخارف الشعارات التي لا تنطلي على العقلاء . وهذا مما رسخ عند أهل القرآن الذين أخبرهم ربهم فيه بأنه ( لن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم ) .. وغيرها من الآيات ,

ومحمد أركون من هذا النوع الساذج الذي اغتر بالقوم حتى استبدل دينه بما يسميه ( الأنسنة ) التي تعني عنده – كما يقول مترجم كتبه هاشم صالح - : ( كل مجتمع لا يعترف بالتعددية العقائدية والسياسية هو مجتمع تنقصه الأنسنة ) ( معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية ، ص 16 ) .

ويقول عنها في كتاب آخر : ( أعود مرة أخرى إلى مصطلح الأنسية أو النزعة الإنسانية ، وأقول بأن أركون يقصد بها ازدهار العقلانية وتراجع الظلامية والتعصب الديني . ففي القرون الوسطى كان التركيز يتم على الله فقط وما كان يجوز الاهتمام بالانسان إلا من خلال علاقته بالله أو عبادته له . باختصار كنا نعيش في ظل المركزية اللاهوتية . ثم انتقلنا بعد عصر النهضة في أوروبا إلى التركيز على الانسان والاهتمام به كقيمة بحد ذاتها ، وهكذا انتقلنا إلى ما يمكن أن ندعوه بالمركزية الانسانية أو بالنزعة الانسانية ) ( نزعة الأنسنة في الفكر العربي ، ص 12 ) .

وكأن الاهتمام بعبادة الله القائل ( وماخلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) – عند أركون - تعني إهمال الإنسان وما يصلحه في الحياة الدنيا !! مما أداه إلى نبذ الإسلام ومعاملته كما يعامل الديانات الأخرى ، أو تحريفه إن اضطر إلى ذلك .. في مقابل تضخيم ( الإنسانية ) واتخاذها دينًا وأيدلوجية .

وللحديث عن ( الإنسانية ) ومناقضتها للإسلام مكان آخر .. ومن أراد بيان ذلك فليرجع إلى رسالة دكتوراة بعنوان ( الإنسانية في فكر المسلمين المعاصر ) للدكتور محمد إدريس عبدالصمد ( لم تطبع بعد / جامعة الإمام ، قسم الثقافة ) . وليرجع إلى كتاب ( مذاهب معاصرة ) لمحمد قطب .

أعود إلى اعتراف محمد أركون .. الذي اكتشف مؤخرا ! تعصب الغربيين ضد الإسلام ، مهما ادعوا التعددية والبحث العلمي المجرد .. الخ

يقول أركون في كتابه ( معارك من أجل الأنسنة .. ، ص 282 – 288 ) :
( لم تؤد ظاهرة جلاء الاستعمار في الستينيات والسبعينات عن بلدان العالم الثالث إلى زعزعة اليقينيات المتراكمة للعقل الغربي. أقصد العقل الظافر، المنتصر، المهيمن، الذي يستمر في توظيف نفسه في مجال الاقتصاد والصناعة والتكنولوجيا والعلوم الصلبة أكثر مما يوظف نفسه في مجال العلوم الرخوة. صحيح أن البنيوية الألسنية والانتربولوجيا أوهمتنا لفترة بأنها قادرة على التوصل إلى علوم إنسانية في نفس صلابة العلوم الدقيقة: أي باردة، يقينية، بدون أي حكم قيمة، ولكنها وضعت اليهودية والمسيحية بمنأى عن تفحصها ودراستها، هذا في حين أن بقية الأديان دُمجت داخل التحريات الاتنوغرافية المحصورة بالمجتمعات المدعوة بالتقليدية أو العتيقة البالية، وهنا نلاحظ أنهم تخلّوا أو تراجعوا عن صفة "البدائية" للدلالة على نهاية العلم الاستعماري.

ولكننا نلاحظ أنهم خصَّصوا للإسلام مكانة غامضة في هذا السياق المستجد، فقد أصبح في آن معاً مادة يدرسها المستشرقون الكلاسيكيون طبقاً للمنهجية الفيلولوجية والتاريخوية البحتة، ثم مادة يدرسها علم الاتنوغرافيا المطبَّق على المجتمعات غير الأوروبية أو غير الغربية، وهذا الموقف الملتبس الذي اتخذه العلم الغربي في أعلى ذراه تقدماً يستحق منا وقفة خاصة من أجل تحليله وتفسير أسبابه.

في الواقع إنهم حرصوا على تمييز الأديان المدعوّة بأديان الوحي عن الأديان الآسيوية المتروكة لبعض الاختصاصيين الاستشراقيين، وعن الأديان الأفريقية التي يهتم بها عادة علماء الاتنوغرافيا أو دراسة خصائص الأعراق والشعوب. كما أن هذا التمييز يزداد وضوحاً عندما يتعلّق الأمر بالموضوعات الكبرى للاعتقاد المدعو عادة بالإيمان، وهو موضوع محصور بعلماء اللاهوت فيما يخص أديان الكتاب، ولكنه أصبح عادياً مبتذلاً مع الثقافة بالمعنى الاتنوغرافي للكلمة، وذلك فيما يخص المجتمعات التي لا علاقة لها بالثقافة الأوروبية والمدعوة أيضاً بالمجتمعات التي "لا كتابة لها"، والتي لا تمتلك تاريخاً محورياً ذا نقطة أساسية تفصل الما قبل عن الما بعد، وحتى داخل أديان الوحي نفسها نلاحظ أنهم يخصصون للإسلام مكانة هجينة تدعو للاستغراب، فهم تارة يلحقونه بالأديان الآسيوية الكبرى ويصبح عندئذ محصوراً بدائرة المستشرقين، وتارة يلحقونه بالموقع الذي يحدده علماء الاتنوغرافيا للمجتمعات التي يدرسونها، ولكن بما أنه أحد أديان الكتاب، وبما أنه خاض معارك جدالية في القرون الوسطى مع المسيحية واليهودية، فإنه يحظى أيضاً ببعض الدراسات الخاصة باللاهوت المقارن.

منذ انعقاد المجتمع الكنسي الشهير باسم الفاتيكان الثاني، ظهرت أدبيات غزيرة ومكرورة عن موضوع الإسلام في الغرب، وقد غذَّاها الحوار الإسلامي –المسيحي وأحياناً نادرة الإسلامي- اليهودي- المسيحي، ولكن على الرغم من كل هذه الأدبيات، فإن التاريخ المقارن للأنظمة اللاهوتية الثلاثة لم يحقق تقدماً قادراً على تحريرنا من الموضوعاتية القروسطية للنَبْذ أو الاستبعاد المتبادل.

فيما وراء الموروثات اللاهوتية التي يستمرون في تعليمها داخل إطار المنظور الأرثوذكسي الخاص بكل طائفة دينية، فإنه يمكننا أن نعمم الملاحظة السابقة لكي تشتمل تاريخ الأديان، ثم بشكل أخص فلسفة الدين.

أقول ذلك ونحن نعلم أن فلسفة الدين لا تحظى باهتمام كبير بسبب الحواجز الابستمولوجية التي تستمر في فصل الفلسفة عن اللاهوت.

بقي علينا أن ندرس حالة اليهودية والمسيحية. كانت المسيحية تحلم منذ زمن طويل بضمّ اليهودية إليها عن طريق بلورة تركيبة يهودية – مسيحية تدل على تراث متواصل ومشترك، ولكن التراث اليهودي يرفض بالطبع هذا الاستلحاق، ونلاحظ أن الديانة اليهودية تسعى منذ تأسيس دولة إسرائيل للتوكيد على خصوصيتها إزاء الجهود الاستلحاقية التي تبذلها المسيحية. فالتركيبة التوفيقية المدعوة باليهودية – المسيحية تبدو فعالة على المستوى السياسي، ولكنها مرفوضة كلياً على المستوى اللاهوتي والثقافي، ونلاحظ أنه منذ انعقاد المجمع الكنسي للفاتيكان الثاني ونشره لقراراته اللاهوتية الشهيرة، فإنه هناك إرادة مشتركة قليلاً أو كثيراً من أجل العثور على استمرارية تواصلية تمتد من اليهودية إلى المسيحية وذلك على كافة الأصعدة من روحانية، وتاريخية، وثقافية، وعقائدية، ولكن نلاحظ أيضاً ظاهرة أخرى تدعو للدهشة والاستغراب: وهي الرغبة المشتركة لليهود والمسيحيين في استبعاد الإسلام ليس فقط لاهوتياً، وإنما أيضاً ثقافياً وسياسياً، ونلاحظ أيضاً أن هذا الاستبعاد يُطبَّق أيضاً على كيفية تقسيم تاريخ العالم المتوسطي، فهنا أيضاً نلاحظ أن التراث الجامعي "العلماني" يقوي الرؤيا التقليدية لعالم اللاهوت المسيحي، دون أن يستخدم بطبيعة الحال البواعث نفسها والتفسيرات اللاهوتية نفسها، فجنوب المتوسط وشرقه تركا للمستشرقين المختصين باللغة العربية والفارسية والتركية بشكل خاص، وأما الشمال والغرب فعلى العكس ملحقان بأوروبا المسيحية واللاتينية سابقاً ثم الحديثة حالياً، وأما الجنوب والشرق فيقيا بمنأى عن هذه الحداثة. إن لهذا التقسيم انعكاساته على وضع الدراسات التاريخية المتعلقة بكلتا الضفتين، والأكثر أهمية من ذلك هو أن حروب التحرير الوطنية وحركات المعارضة السياسية التي تستلهم الأصولية الراديكالية ساهمتا في توليد مخيالين سياسيين للاستبعاد المتبادل بين القطبين الإيديولوجيين المدعوّين "الإسلام"، و"الغرب".

لنتوقف الآن قليلاً عند حالة المسيحية بكل تجلياتها الكاثوليكية، والبروتستانتية، والأرثوذكسية، والإنكاليكانية. نلاحظ أنها تحظى بإقبال الباحثين العلميين على دراستها بكل طيبة خاطر وبنوع من التفضيل الضمني أو الصريح لها على غيرها، فالمؤمنون الغربيون يستخدمون موهبتهم ومعرفتهم وهيبتهم الفكرية لكي يكرّسوا تفوق المسيحية على جميع الأديان الأخرى، ولكي يثبتوا فرادتها وقدرتها على التأقلم مع الحداثة. وأما العلمانيون الذين يعيشون على الرغم من كل شيء في مجتمعات متأثرة جداً بالفكر والثقافة المسيحية، فإنهم يقبلون ضمنياً بالمحافظة على امتيازات هذا الدين ومعاملته معاملة خاصة، ولذلك فلا يطبقون عليه الاشكاليات الاتنوغرافية نفسها أو الأحكام السياسية السلبية نفسها التي يطبقونها على الأديان الأخرى) .
 

اعترافات محمد أركون !
 

سليمان الخراشي
  • كتب ورسائل
  • رسائل وردود
  • مطويات دعوية
  • مـقــالات
  • اعترافات
  • حوارات
  • مختارات
  • ثقافة التلبيس
  • نسائيات
  • نظرات شرعية
  • الصفحة الرئيسية