|
قد تعجبُ أخي من عنوان المقال ، ولكن عجبك سيزول إن شاء الله بعد قراءة المقال
كاملا ، ويبقى السؤال الأهم عن سبب اختيار الموضوع ؟!
بدايةً لا يخلو مؤلفٌ في أصولِ الفقهِ سواء المطول ، أو المتوسط ، أو المختصر
منها إلا ويفرد بابا عن الفتوى ، ويعرج على شروط المفتي وصفاته وآدابه ، وأنه
موقع عن رب العالمين ، قال ابن القيم في " إعلام الموقعين " (1/36) : " وإذا
كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا يُنكرُ فضله ، ولا يُجهلُ قدره ،
وهو من أعلى المراتب السَّنِيَّات ، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات
؟ " .ا.هـ.
السؤال : مَنْ هو المفتي الماجن ؟
تُعرفُه بعضُ كُتب الفقه في مذهب الأحناف : الْمُفْتِي الْمَاجِنُ : هُوَ مَنْ
يُعَلِّمُ النَّاسَ الْحِيَلَ الْبَاطِلَةَ أَيْ : الْحِيَلَ الْمُؤَدِّيَةَ
إلَى الضَّرَرِ وَاَلَّذِي يُفْتِي عَنْ جَهْلٍ وَلَا يُبَالِي بِتَحْلِيلِ
الْحَرَامِ وَتَحْرِيمِ الْحَلَالِ " .ا.هـ.
لننظر حولنا ، ونُنزل هذا التعريف على أناسٍ قاموا بحيلٍ ، وطرحوا شبهاتٍ طبلت
لها وسائل الإعلام ، ونفخت فيها ، وكالت لهم المدائح كما هي عادة الإعلام ،
وقدمتهم على أنهم فلتات زمانهم ! ، وكانت الصدمة والصفعة أنه عند مناقشتهم اتضح
أنهم لا يملكون أبسط آليات وأصول الاستدلال ، بل وصل الحال بأحدهم أن طعن في
أحاديث في أصح كتب أهل السنة ، إلى جانب لغة التعالم ، والتشبع بما لم يعط ،
وصدق بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم : " المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور "
. متفق عليه ، وقال قتادة : " من حدّث قبل حينه ، افتضح في حينه " .
في تراثنا الفقهي تفردُ كتب الفقه في المذاهب الفقهية المعتبرة كتابا أو بابا
أو فصلا يطلق عليه " الحَجْر " ، وكتب الأحناف أشارت إلى الموقف من " المفتي
الماجن " من جهة الحَجْر عليه للمصلحة العامة .
جاء في " الموسوعة الفقهية " تحت مادة " حَجْر " (17/101) : " الْحَجْرُ
لِلْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ : ذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إلَى فَرْضِ الْحَجْرِ
عَلَى ثَلَاثَةٍ وَهُمْ : الْمُفْتِي الْمَاجِنُ ، وَالطَّبِيبُ الْجَاهِلُ ,
وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسُ .
أ - الْمُفْتِي الْمَاجِنُ : هُوَ الَّذِي يُعَلِّمُ النَّاسَ الْحِيَلَ
الْبَاطِلَةَ ، كَتَعْلِيمِ الزَّوْجَةِ الرِّدَّةَ لِتَبِينَ مِنْ زَوْجِهَا ،
أَوْ تَعْلِيمِ الْحِيَلِ بِقَصْدِ إسْقَاطِ الزَّكَاةِ ، وَمِثْلُهُ الَّذِي
يُفْتِي عَنْ جَهْلٍ ... وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْحَجْرِ عَلَى هَؤُلَاءِ
الثَّلَاثَةِ حَقِيقَةُ الْحَجْرِ وَهُوَ الْمَنْعُ الشَّرْعِيُّ الَّذِي
يَمْنَعُ نُفُوذَ التَّصَرُّفِ ، لِأَنَّ الْمُفْتِيَ لَوْ أَفْتَى بَعْدَ
الْحَجْرِ وَأَصَابَ جَازَ ، وَكَذَا الطَّبِيبُ لَوْ بَاعَ الْأَدْوِيَةَ
نَفَذَ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْمَنْعُ الْحِسِّيُّ ، لِأَنَّ الْأَوَّلَ
مُفْسِدٌ لِلْأَدْيَانِ ، وَالثَّانِيَ مُفْسِدٌ لَلْأَبَدَانِ ، وَالثَّالِثَ
مُفْسِدٌ لِلْأَمْوَالِ . فَمَنْعُ هَؤُلَاءِ الْمُفْسِدِينَ دَفْعُ ضَرَرٍ
لَاحِقٍ بِالْخَاصِّ وَالْعَامِّ ، وَهُوَ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ " .ا.هـ.
بل ابن عابدين في حاشيته (6/401) أشار إلى كف ولي الأمر للمفتي الماجن قائلا :
" ... عَلَى أَنَّهُ تَقَدَّمَ أَنَّ الْإِمَامَ يَرَى الْحَجْرَ إذْ عَمَّ
الضَّرَرُ كَمَا فِي الْمُفْتِي الْمَاجِنِ ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ ،
وَالطَّبِيبِ الْجَاهِلِ ... " .ا.هـ.
ولذلك من مهام ولي أمر المسلمين تنصيب المفتين المؤهلين ، فلا يصدر من ليس أهلا
كما هو حال من لمعه الإعلام وأضفوا عليهم ألقابا لم ولن يحلموا بها .
قَالَ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ : يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَصَفَّحَ
أَحْوَالَ الْمُفْتِينَ ، فَمَنْ صَلَحَ لِلْفُتْيَا أَقَرَّهُ ، وَمَنْ لَا
يَصْلُحُ مَنَعَهُ وَنَهَاهُ وَتَوَاعَدَهُ بِالْعُقُوبَةِ إنْ عَادَ ، قَالَ :
وَطَرِيقُ الْإِمَامِ إلَى مَعْرِفَةِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْفُتْيَا أَنْ يَسْأَلَ
عَنْهُ عُلَمَاءَ وَقْتِهِ ، وَيَعْتَمِدَ إخْبَارَ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ .
وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ : مَنْ أَفْتَى وَلَيْسَ بِأَهْلٍ فَهُوَ آثِمٌ عَاصٍ
، وَمَنْ أَقَرَّهُمْ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ فَهُوَ آثِمٌ أَيْضًا ، وَنُقِلَ
عَنْ ابْنِ الْجَوْزِيِّ قَوْلُهُ : يَلْزَمُ وَلِيَّ الْأَمْرِ مَنْعُهُمْ ,
فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَدُلُّ الرَّكْبَ وَلَا يَعْلَمُ الطَّرِيقَ ،
وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ يُرْشِدُ النَّاسَ إلَى الْقِبْلَةِ وَهُوَ أَعْمَى ، بَلْ
أَسْوَأُ حَالًا ، وَإِذَا تَعَيَّنَ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ مَنْعُ مَنْ لَمْ
يُحْسِنْ الطِّبَّ مِنْ مُدَاوَاةِ الْمَرْضَى فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ
الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَلَمْ يَتَفَقَّهْ فِي الدِّينِ ؟
إن من أعجب ما سمعتُ وقرأتُ لأحدهم أنه استدل بحديثٍ ثم تناقض قائلا إن العرف
عندنا يمنعه ، فلا يجوز ذلك لوجود العرف ، فعدّ العرف قاضيا على النص ، وهذا لم
يقل به أحد من أهل العلم ، فالنص له قدسيته ومكانته فلا يقدم العُرف عليه .
وقد فصل الإمام الشاطبي في " الموافقات " (2/283 – 284) بطلان جعل العرف قاضيا
على النص قائلا : " العوائد المستمرة ضربان : أحدهما : العوائد الشرعية التي
أقرها الدليل الشرعي أو نفاها، ومعنى ذلك أن يكون الشرع أمر بها إيجابًا أو
ندبًا أو نهى عنها كراهةً أو تحريمًا ، أو أذن فيها فعلاً وتركًا .
والضرب الثاني : هي العوائد الجارية بين الخلق بما ليس في نفيه ولا إثباته دليل
شرعي..
فأما الأول فثابت أبدًا كسائر الأمور الشرعية ، كما قالوا في سلب العبد أهلية
الشهادة وفى الأمر بإزالة النجاسات .. وما أشبه ذلك من العوائد الجارية في
الناس إما حسنة عند الشارع أو قبيحة ، فإنها من جملة الأمور الداخلة تحت أحكام
الشرع فلا تبديل لها وإن اختلفت آراء المكلفين بها ؛ فلا يصح أن ينقلب الحسن
فيها قبيحًا ، ولا القبيح حسنًا ، حتى يقال مثلاً : إن قبول شهادة العبد لا
تأباه محاسن العادات الآن فلنجزه !
أو إن كشف العورة الآن ليس بعيب ولا قبيح فلنجزه ! .. أو غير ذلك؛ إذ لو صح مثل
هذا لكان نَسخا للأحكام المستقرة المستمرة، والنسخ بعد موت النبي (صلى الله
عليه وسلم) باطل " .ا.هـ.
ختاما ينبغي أن نحذر ونحذِّر من المتعالمين الذين يحاول الإعلام تلميعهم ،
وفرضهم بالقوة على المجتمع على حساب العلماء الراسخين ، والمرجعية الشرعية التي
عينها ولي الأمر .
المتعالمون الذين يلمعهم الإعلام ذكروني بقصة يحكى أن رجلا كان مولعا بحب
التعالم، فكان لا يُسأل سؤالا إلا أجاب عنه، ولا يُثار موضوع إلا دلا فيه
بدلوه. فقال أصحابه يوما : والله إن هذا الرجل إما عالم حقا أو أنه يستغل
جهلنا، فاتفقوا أن يذكر كلٌّ منهم حرفا ويسألوه عن معنى الكلمة الناتجة، فنتجت
كلمة "خنفشار".
فلمّا قدم عليهم قالوا : يا أبا فلان، بحثنا عن معنى الخنفشار فلم نجد جوابا،
قال : وصلتم، الخنفشار نبات يزرع في أرض اليمن يدهن به ضرع الناقة فيحبس اللبن،
قال الشاعر:
لقد عقدت محبتكم فؤادي -- كما عقد الحليبَ الخنفشارُ
وقال صلى الله عليه وسلم.. فهبَّ إليه أصحابه وأسكتوه وقالوا : يا
عدوّ نفسه، كذبت على لسان العرب وتريد أن تكذب على رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
عبد الله بن محمد زقيل
zugailamm@gmail.com