|
استوقفني كلام أخي الفاضل فؤاد أبو الغيث وفقه الله وسدده في مسألة
الاستغاثة قائلا :
إذا
كان
مجمعا عليه ؛ هل للأخوة أن يذكروا لنا نصوص العلماء الذين نقلوا الإجماع
على هذا
؛
شرط أن يكونوا خارجين عن مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية ، والشيخ محمد بن عبد
الوهاب
رحمهما الله ، وليس إنقاصا لقدرهما ، بل لأنهما متهمان بالخطأ في هذه
المسألة.
لم أجد نصًا نقل الإجماع على هذه المسألة ، على الشرط المذكور في السؤال ..
أقول : أخي الشيخ الفاضل فؤاد أئمة المذاهب الأربعة مجمعون على أن
الاستغاثة شرك ولو رجعت إلى كتاب حكم المرتد في كتب الفقه لوجدت النصوص
المتكاثرة الناقلة للإجماع ، وأقتصر على نقل بعضها .
فقال
الشيخ قاسم في « شرح درر البحار » : النذر الذي يقع من أكثر العوام ، بأن
يأتي إلى قبر بعض الصلحاء قائلاً : يا سيدي ؛ إن رُدّ غائبي ، أو عُوفي
مريضي ، أو قُضيت حاجتي ؛ فلك من الذهب أو الطعام أو الشمع كذا وكذا ؛
باطلٌ إجماعاً ، لوجوه منها :
أن
النذر للمخلوق لا يجوز .
ومنها ، أنه ظنَّ الميت يتصرف في الأمر ، واعتقاد هذا كفر ، ... ، وقد
ابتُـلي الناس بذلك ولاسيما في مولد الشيخ أحمد البدوي .
وقال الشيخ محمد عابد السندي الحنفي في كتابه « طوالع الأنوار شرح تـنوير
الأبصار مع الدر المختار» :
ولا
يقول : يا صاحب القبر ، يا فلان ، اقض حاجتي ، أو سلها من الله ، أو كن لي
شفيعا عند الله ، بل يقول : يا من لا يشرك في حكمه أحدا ؛ اقض لي حاجتي
هذه
.
وقال الشيخ صنع الله بن صنع الله الحلبـي الحنفي رحمه الله ما نصه :
هذا
وإنه قد ظهر الآن فيما بـين المسلمين جماعات يدَّعون أن للأولياء تصرفات
في
حياتهم وبعد الممات ، ويستغاث بهم في الشدائد والبليات ، وبهم تنكشف
الـمُهمات ، فيأتون قبورهم وينادونهم في قضاء الحاجات ، مستدلين على أن ذلك
منهم كرامات .
وهذا كلام فيه تفريط وإفراط ، بل فيه الهلاك الأبدي
والعذاب السرمدي ، لما فيه من روائح الشرك المحقق ، ومصادرة الكتاب العزيز
المصدّّق ، ومخالفة لعقائد الأئمة ، وما أجمعت عليه هذه الأمة
، وفي
التـنـزيل : " وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ
الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى
وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً " .
وبهذا قال من أئمة
الحنفية المتأخرين الإمام أحمد السرهندي ، والإمام أحمد الرومي ، والشيخ
سجان بخش الهندي ، ومحمد بن علي التهانوي ، ومحمد إسماعيل الدهلوي ، والشيخ
أبو
الحسن الندوي ، وشدد في ذلك " .
وليت الشيخ فؤاد أبو الغيث رجع إلى كتاب «جهود علماء الحنفية في إبطال
عقائد القبورية» للشيخ الدكتور شمس الدين الأفغاني ، والكتاب رسالة دكتواره
جامعية مقدمة للجامعة الإسلامية بالمدينة ، وهي رسالة مطبوعة في ثلاث
مجلدات .
وأيضا الرسائل «الشرك ووسائله عند أئمة الحنفية» ، « الشرك ووسائله عند
أئمة المالكية» ، «الشرك ووسائله عند أئمة الشافعية» ، «الشرك ووسائله عند
أئمة الحنابلة» ، لفضيلة الشيخ د. محمد بن عبد الرحمن الخميس .
وقال
الشوكاني في كتابه «الدر النضيد»
( ص 22 – 32 ) : اعلم أن الرزية كل الرزية ، والبلية
كل البلية ؛ أمر غير ما
ذكرنا - من التوسل المجرد والتشفع بمن له الشفاعة
- ، وذلك ما صار يعتقده
كثير من العوام وبعض الخواص في أهل القبور ومن
المعروفين بالصلاح من
الأحياء ، من أنهم يقدِرون على ما لا يقدر عليه إلا
الله جل جلاله ، ويفعلون
ما لا يفعله إلا الله عز وجل ، حتى نطقت ألسنتهم
بما انطوت عليه قلوبهم ،
فصاروا يدعونهم تارة مع الله ، وتارة استقلالا ،
ويصرخون بأسمائهم ،
ويعظمونهم تعظيم من يملك الضر والنفع ، ويخضعون لهم
خضوعا زائداً على خضوعهم
عند وقوفهم بـين يدي ربهم في الصلاة والدعاء
،وهذا إذا لم يكن شركا فلا ندري ما هو الشرك ! وإذا لم يكن كفرا فليس في
الدنيا كفر
" .
وقال الإمام العلامة أحمد بن علي المقريزي
المصري الشافعي في «تجريد
التوحيد المفيد» ، (ص 52 – 53) : وشرك الأمم كله نوعان : شرك في الإلـٰهية
وشرك في الربوبية ، فالشرك في
الإلـٰهية والعبادة هو الغالب على أهل الإشراك ، وهو شرك عُباد الأصنام
وعباد
الملائكة وعباد الجن وعُباد المشايخ والصالحين الأحياء والأموات ، الذين
قالوا
(إنما
نعبدهم ليقربونا إلى الله
زلفى) ، ويشفعوا لنا عنده ، وينالونا بسبب
قربهم من الله
وكرامته لهم قرب وكرامة ، كما هو المعهود في الدنيا من حصول
الكرامة والزلفى لمن يخدم أعوان الملك وأقاربه خاصته
.
والكتب الإلـٰهية كلها من أولها إلى آخرها تبطل هذا المذهب وترده وتقبح
أهله ،
وتنص على أنهم أعداء الله تعالى
وجميع الرسل صلوات الله عليهم متفقون على ذلك من أولهم إلى آخرهم ، وما
أهلك الله تعالى من أهلك من الأمم إلا بسبب هذا الشرك ومن أجله
" .
قال
الشيخ محمد سلطان بن أبي عبد
الله المعصومي
الحنفي المتوفى عام
1318هـ
في كتاب "حكم الله الواحد
الصمد" ( 4/7)
،
بعد أن ضرب عدة أمثلة للاستغاثات
بالأولياء ثم قال : "
اعلموا
أيها المسلمون ، يا أيها
الحنفيون ، هداني الله
وإياكم ، أنَّ هذه الكلمات كلُّها شرك ، وكفر ، وضلال في الدين الإسلامي
،
والشرع المحمدي ، والمذهب
الحنفي ، بل والمذاهب الأربعة إجماعا ، وقائلها مشرك لا تصحّ
صلاته ، ولا صيامه ، ولا
حجه ، ولا إمامته ، إلاَّ
إذا تاب ، وآمن ، وأعلن
توبته كما أشهر شركه " .
انتهى .
بل حتى من المعاصرين من أنكر ما يفعله العوام عند القبور من أنواع
الانحرافات العقدية فعلى سبيل المثال :
وقال
الإمام
حسن البنا رحمه الله
تعالى في "الأصول العشرين" :
"وزيارة القبور أياً كانت
مشروعة
بالكيفية المأثورة، ولكن
الاستعانة بالمقبورين أياً كانوا
،
وندائهم لذلك، وطلب قضاء
الحاجات منهم عن قرب
،
أو بعد، والنذر لهم
، وتشييد القبور
،
وسترها،
وإضاءتها، والتمسح
بها، والحلف بغير الله
،
وما يلحق بذلك من
المبتدعات
،
كبائر تجب محاربتها,
ولا نتأول
لهذه
الأعمال" .
وقال الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – في "عقيدة المسلم" (ص 73) : "
ولماذا نستحي من وصف القبوريين بالشرك ؟ ، مع أن الرسول وصف
المرائين به ، فقال
:
(الرياء شرك) ،
وإنّ
واجب العالم أنْ
يرمق هذه التوسلات
النابية باستنكار ،
ويبذل جهده في تعليم
ذويها طريق الحق ، لا أن يفرغ وسعه في التمحُّل والاعتذار
،
ولستُ ممن يحب تكفير
الناس بأوهى الأسباب ، ولكن حرام أن ندع الجهل
بالعقائد ونحن شهود" .
انتهى .
وقال أيضا في "عقيدة الإسلام" (ص 69) : " والمعابد
التي أقاموها على قبور
الصالحين قدسوها ، وسلكوها مسلك الأصنام في الشرك ،
فلما جاء الإسلام أعلن
على هذين المظهرين من مظاهر الوثنية ، حرباً
شعواء ، وشدد تشديداً
ظاهراً
في محق هذه المساخر
المنافقة ، وقد رأينا كيف أن النبيَّ
صلى الله عليه وسلم
،
أرسل إلى ابن عمه علي رضي
الله عنه ، وأمره أن يسوِّي بالأرض كلَّ
قبر ،
ويهدم كلَّ
صنم ، فجعل الأضرحة
العالية ، والأصنام المنصوبة ، سواء في الضلالة ، وقال النبيُّ
صلى الله عليه وسلم في
البيان عن سفاهة القدامى ، وفي التحذير من متابعتهم ،
(لعن الله اليهود
والنصارى ، اتخذوا قبور أنبياءهم مساجد ، ألا لا تتخذوا القبور مساجد ،
فإنّي أنهاكم عن ذلك)
، وكان يرفع الخمرة عن
وجهه في مرض الموت ، ويكرّر هذا المعنى ، وكأنّه توجَّس شرّا مما به فدعا
الله
: اللهمّ
لا تجعل قبري من بعدي
وثنا يعبد " . انتهى .
و قال في موضع آخر (ص 73 – 76)
:
وقول الله تعالى : "وَلَوْ أَنَّهُمْ
إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ"
ليس تصريحا
،
ولا تلميحا
،
إلى جواز التوسل ، والآية
ناطقة بأنَّ
المجيء للظفر بإستغفار
الرسول صلى الله عليه وسلم
،
وذلك
ـ
بداهةً
ـ
في أثناء الحياة ، لا
الموت..
فإذا كان بعض الناس
،
يحكي أموراً
عن مجيئة للرسول صلى الله
عليه وسلم في قبره ، وأنه سلم فسمع الرد ، ثم حظي بتقبيل اليد ، فهو بين
حالتين
:
إمّا أن يكون كذَّابا فلا قيمة لكلامه
.
وإما أن يكون مجذوبا
ـ يعني مجنونا ـ
تخيَّل فخال ، ولا قيمة
لكلامه كذلك.
ونحن لا ندع كتاب ربِّنا
،
وسنة نبينا صلى الله عليه
وسلم لهذه الحكايات ، أمَّا ذلك الذي يوجب التوسُّل ، ويرى أنَّ تأثير
الميت أقوى من الحي ، فهو رجل مخبول ،
وزعمه بانتفاء الشرك
،
مادام الاعتقاد أنَّ
الفاعل هو الله ، كلامٌ
فارغ
.
وقد أبَنـَّا أنَّ
المشركين القدماء كانوا
يعرفون أنَّ
الفاعل هو الله ، وأنَّ
توسَّلهم كان من باب
(ما نعبدهم إلاّ
ليقرّبونا إلى الله زلفى)
، وأنّ
ندمهم يوم القيامـه
،
إنّما هو على تسويتهم
المخلوق بالخالق ،
(تالله إنْ
كنَّا لفي ضلال مبين ، إذ
نسوِّيكم برب العالمين)
،
وهناك عشرات الآيات تؤكد
هذا المعنى.
سيقول بعض الناس
:
إنَّ
القدماء كانوا يعبدون ،
أما عوامّ
اليوم فهم يدعون ،
ويسألون فقط ، وشتـَّان بين عبادة الجاهلين ، وتوسُّل المحدثين بأولياء
الله.
ونقول
:
هذه مغالطة ، فالسؤال
، والدعاء
،
بنص القرآن
،
عبادة محضة ،
(وَقَالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ
عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) ،
وفي الحديث :
(الدعاء مخ العبادة) .
فلماذا نتوجّه إلى البشر ، بما هو من خصائص الألوهية
؟!
وإذا وقع الجهال في تلك الخطايا بغباوتهم ، فلماذا لا نسارع إلى إنقاذهم
منها ، بل تزوير الفتاوى ؟ " . انتهى .
أقول : وهناك نصوص أخرى كثيرة لباقي أئمة المذاهب الأربعة وغيرهم من
المعاصرين تنقل الإجماع لو طرحتها لطال بنا المقام ، وأكتفي بهذه .
عبد الله زقيل