أخي د. عبد العزيز قاسم .
قرأتُ معارضة زميلنا في مجموعتك البريدية الباحث الموريتاني الهادي النحوي
– وفقه الله – على علي بلحاج في موضوع الصوفية ، وعنونتَ لها : " النحوي:
كونوا أكثر إنصافا واقرؤوا التاريخ لفهم التصوف ومعرفة مدى إسهامه في نشر
هذا الدين وان ضد المستعمر يا بلحاج " .
وليسمح لي الزميل الهادي النحوي بهذه المداخلة التي أرجو أن يتسع صدره لها
، وسأقتصرها على موقف الصوفية من الاستعمار ، وأما باقي النقاط فلعل
الزملاء في المجموعة يشاركونا بما لديهم .
قبل الدخول في التفصيل دعني أؤصل لقضية مهمة جدا وهي موقف الصوفية من
الجهاد .
بنظرة سريعة على الأساليب التي اتخذها الصوفية لصرف الناس عن الجهاد في
سبيل الله هو تفسير الآيات القرآنية المتعلقة بالجهاد بتفسيرات غريبة جدا ،
وأن المقصود به هو جهاد النفس وليس جهاد الأعداء أو المحتل .
قال السهروردي في " عوارف المعارف " ( ص 82 ) : " عن داود بن صالح أنه قال
: قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن : يا ابن أخي ؛ هل تدري في أي شيء نزلت
هذه الآية : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ
وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " [ آل عمران :
200 ] ، قلت : لا ، قال : يا ابن أخي لم يكن في زمن رسول الله غزو يربط فيه
الخيل ، ولكنه انتظار الصلاة بعد الصلاة فالرباط لجهاد النفس ، والمقيم في
الرباط مرابط مجاهد نفسه " .
وقال أيضا : " وقال بعض المتصوفة في قوله تعالى : " وَجَاهِدُوا فِي
اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ " [ الحج : 78 ] هو مجاهدة النفس والهوى ، وذلك حق
الجهاد وهو الجهاد الأكبر على ما روي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال حين رجع من بعض غزواته : " رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد
الأكبر " .
قال العجلوني في " كشف الخفاء " عن الحديث : " قال الحافظ ابن حجر في تسديد
القوس : هو مشهور على الألسنة وهو من كلام إبراهيم بن عيلة " .ا.هـ.
وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية عنه : " لا أصل له ولم يروه أحد من أهل
المعرفة بأقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله " .ا.هـ.
ومن الأساليب أيضا أنهم يرون عدم جدوى جهاد الكفار وهذا بناء على قولهم بأن
كل ما قدره الله فهو يحبه ، وكل ما وقع فقد قدره الله ، ولذا يجب عدم
معارضة قضاء الله وقدره .
وسأضرب مثالا بالإمام الغزالي ( ت 505 ) فقد عاش في العصر الذي غزا فيه
الصليبيون والتتار بلاد المسلمين ، واحتلوا ، وقتلوا ، وذبحوا ، وفعلوا
الأفاعيل ، فلم يذكر الجهاد في كتابه " إحياء علوم الدين " ، ولم يأتي عليه
، وكان مجاورا في بيت المقدس تارة ، ومعتكفا بزاويته في الجامع الأموي تارة
أخرى .
أكتفي بهذه المقدمة .
نأتي الآن على موقف الأمير عبد القادر الجزائري الذي استشهدت به أخي الهادي
النحوي ، واسمح لي أن أنقل ما ذكره الزركلي في " الأعلام " (4/45 -46) عنه
قائلا : " ... ولما دخل الفرنسيس بلاد الجزائر(سنة1246 هـ -1843 م ) بايعه
الجزائريون وولوه القيام بأمر الجهاد ، فنهض بهم ، وقاتل الفرنسيين خمسة
عشر عاما ، وضرب في أثنائها نقودا سماها "المحمدية " وأنشأ معامل للأسلحة
والأدوات الحربية وملابس الجند . وكان في معاركه يتقدم جيشه ببسالة عجيبة .
وأخباره مع الفرنسيين في احتلالهم الجزائر كثيرة ، لا مجال هنا لاستقصائها
. ولما هادنهم سلطان المغرب الأقصى عبد الرحمن بن هشام ، ضعف أمر عبد
القادر ، فاشترط شروطا للاستسلام رضي بها الفرنسيون ، واستسلم سنة 1263هـ
(1847م) فنفوه إلى طولون ، ومنها إلى أنبواز حيث أقام نيفاً وأربع سنين .
وزاره نابليون الثالث فسرحه ، مشترطا أن لا يعود للجزائر . ورتب له مبلغا
من المال يأخذه كل عام . فزار باريس والأستانة ، واستقر في دمشق سنة 1271هـ
وتوفي فيها " .ا.هـ.
وقد انقلب الأمير عبد القادر 180 درجة على الاستعمار فأصبح مصادقا له ، قال
د.الزهراني في " الانحرافات العقدية والعلمية " (1/540) : " وحين انهزمت
فرنسا سنة 1870م أظهر الأسف ، وتزين بنيشانها الأكبر إظهارا لاعتراف
مصادقتها ، وتخلى عن ملاقاة الناس مدةً . واعتبر " السنوسي " ذلك من أخبار
وفائه ... وحين قام ابنه " محي الدين " بإعلان الجهاد ضد الفرنسيين مرة
أخرى ، واتفق مع بعض زعماء القبائل في الجزائر ، تبرأ " عبد القادر " منه ،
وكان ذلك سببا في انفضاض القبائل عنه ، وفشل حركته ... " .ا.هـ.
فهذه نهاية الأمير عبد القادر – رحمه الله – مع الاستعمار ، وهناك أمور
أخرى أثيرت حوله لا أريد الدخول فيها .
واصل د. الزهراني (1/540) قائلا : " وحين كان الأمير " عبد القادر " يقود
المجاهدين لحرب المستعمر ، قاومه كثير من الطرقيين ، وانبث كثير من شيوخ
الطرق في البلاد لتثبيط الهمم بالنسبة للمقاومة ، ومطالبة الناس بالانتظار
والهدوء حتى تصل السفن الفرنسية ، وقد قامت حكومة الجزائر الفرنسية
بتقريبهم ، ومكافآتهم ، ومنحهم النياشين والأوسمة ، تقديرا لجهودهم في
خدمتها ، والوقوف إلى جانبها .
وكان شيوخ الطرق الخائنون يقومون بكتابة عرائض بتوقيعاتهم ، وتوقيعات
أتباعهم ، يملؤونها بالثناء والشكر لفرنسا ، التي كانت تعتبرهم ممثلين
للشعب ، ولا غرابة بعد ذلك كله أن يقول الحاكم الفرنسي في الجزائر : " إن
الحكومة الفرنسية تعظم زاوية من زوايا الطرق أكثر من تعظيمها لثكنة جنودها
وقوادها ، وأن الذي يحارب الطرق إنما يحارب فرنسا !!! ... وحين تأسست جمعية
العلماء المسلمين في الجزائر سنة 1931م ، وانطلقت تؤدي دورها التربوي ،
وتنشئ المدارس ، وتنشر اللغة العربية ، أقلقت السلطات الفرنسية ، وكان
سلاحها الماضي في القضاء على تلك الجمعية رجال الطرق الصوفية .
فقد تألب كل من أتباع الطريقة العليوية والطريقة الشاذلية والطريقة
القادرية وغيرها من الطرق الصوفية الأخرى ضد الجمعية محاولين القضاء عليها
وتنفير الناس منها ، ووصل الأمر ببعضهم إلى القيام بمحاولة اغتيال مؤسسها
المجاهد الشيخ " عبد الحميد بن باديس " رحمه الله " .ا.هـ.
والكلام طويل في هذه القضية بالذات الصوفية الذين وقفوا مع الاستعمار منذ
البداية بالمؤزارة والمناصرة والمقاتلة في صفه وتحت رايته ، ودعوة الناس
إلى الرضوخ لذلك ، وتحذر من مقاومته .
وفي هذا القدر كفاية ...