صيد الفوائد saaid.org
:: الرئيسيه :: :: المكتبة :: :: اتصل بنا :: :: البحث ::







بحثٌ في جوازِ صيامِ السِّتِّ مِن شوال قبل القضاء

عادل بن عبدالعزيز الجهني


بسم الله الرحمن الرحيم


الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيد المرسلين، وبعد:
فمن المسائل التي يدور حولها نقاش، ويسأل النَّاسُ عنها كل عام بعد رمضان مسألة: هل من صامَ السِّتَّ مِنْ شوال قبل القضاء يحصل له أجر من صام الدهر كله، أو أَنَّ من فعل ذلك لا يكون له الأجر المذكور، وإنَّما يكون له أجر النافلة المطلقة؟!
والجواب: أنّ مسألة صيام النافلة قبل الفريضة أصلها موجودٌ في كتب الفقه المتقدِّمة، وجمهور العلماء على جواز ذلك.
وبقيتُ مسألة صيام السِّتِ مِن شوال قبل القضاء، وهي التي حصل فيها الخلاف حتى عند القائلين بجواز صيام النافلة المطلقة قبل القضاء الواجب، فطائفةٌ من الذين اختاروا جواز صيام النافلة المطلقة قبل القضاء منعوا منها بخاصَّة، فقالوا لا تُصام السِّتُّ مِن شوال قبل القضاء، ومن فعل ذلك فلا ينال الأجر الوارد في الحديث، وعُمدتُهم في ذلك حديث أبي أيوب الأنصاري رضي اللهُ عنه الذي قال فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "مَن صامَ رَمَضانَ ثُمَّ أتْبَعَهُ سِتًّا مِن شَوَّالٍ، كانَ كَصِيامِ الدَّهْرِ" رواه مسلم.
والعِلَّةُ عندهم في ذلك أنَّ الذي عليه قضاء من رمضان لا يصدق عليه أنَّه صام رمضان، ويقولون إنَّ الأجر متوقفٌ على إكمال عدة رمضان، لقوله صلى اللهُ عليه الصلاة: "مَنْ صامَ رَمَضانَ" ولأنَّ نصَّ الحديث فيه: "ثُمَّ أتْبَعَهُ" وهذا يدلُّ على التبعية، فلا بدَّ أن يكون صوم السِّتِّ بعد إكمال صوم رمضان كاملاً، وذلك لا يحصل إلا بصومه أداءً وقضاءً.

أمّا الرأيُ الثاني في المسألة: فهو جواز صيامُ السِّتِّ مِن شوال قبل القضاء، وأَنَّ من فعل ذلك نال -بإذن الله- الثوابَ المذكورَ في الحديث، وله أجر صوم الدهر كله، وقد قال بهذا جمعٌ من أهل العلم، وممّن قال بهذا الشيخ صالح الفوزان حفظه الله في إجابة له على موقع اليوتيوب:
https://youtu.be/isqlPZYihxA?feature=shared
وكذلك الشيخ عبدالله المطلق حفظه الله:
https://youtu.be/IrS9miUqIwA?feature=shared
وكذلك الشيخ سليمان الماجد حفظه الله:
https://youtu.be/Gct0s98KJd4?feature=shared

وممَّن قال به من المعاصرين أيضًا فضيلة الشيخ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله، فقد سُئل: هل يجوز صيام ستة أيام من شوال قبل أن يقضي الأيام التي أفطرها في رمضان؟
فأجاب: إن كان يستطيع أن يقضي الأيام التي أفطرها في رمضان ثمَّ يصوم السِّتَّ فهذا أمرٌ حسن، وإن كان لا يستطيع أن يصوم هذا وهذا فيجوز له أن يصوم السِّتَّ التي يقول فيها النّبيُّ صلَّى الله عَليهِ وَسَلَّم: "من صامَ رمضانَ ثمَّ أتبعَهُ بِسِتٍّ من شوَّالٍ فقد صامَ الدَّهرَ كُلَّهُ" لماذا قلنا هذا؟! لأَنَّ وقت القضاء موسع، بخلاف صوم السِّتِّ فليس لها محلٌّ إلا في شوال.
أما وقت القضاء فقد جاء عن عائشة رَضِيَ الله تَعَالى عَنهَا أنها قالت: ما كنت أقضي إلا في شعبان؛ أي لأنها تشغل برسول الله صلَّى الله عَليهِ وَسَلّم) [من شريط " أسئلة من المهرة" للشيخ/ مقبل بن هادي الوادعي رحمه الله]

ونصر هذا القول الشيخ محمد بن محمد المختار الشنقيطي، يقول حفظه الله: (وتقع السِّتُّ من شوال إذا كان الإنسان عليه قضاء من رمضان، فلو أَخَّرَ قضاء رمضان ولم يَصُمْهُ وصام سِتًّا من شوال قَبلُ فإنه يُجزِئُه، ويُحَصِّلُ هذه الفضيلة والخير؛ لأَنَّ قوله عليه الصلاة والسلام: "مَن صام رمضان" خرج مخرج الغالب، يعني على الأصل من صيامه، أو يقال: إِنَّ قوله: "مَن صام رمضان" يشمل صيام رمضان بعينه وصيام القضاء.
وقال بعض العلماء كما هو مذهب طائفة من الحنابلة والشافعية: لا يُجزِئُ أن يصوم السِّتَّ قبل صيام رمضان؛ وذلك لأنه لم يَصُمْ رمضان؛ ولأنَّهُ لا يَتَأَتَّى منه أن يَتَنَفَّلَ وعليه فريضة.
والصحيح أَنَّهُ يُجزِئُ أن يصوم سِتًّا من شوال قبل القضاء؛ لأَنَّ قوله: "مَن صام رمضان" لو أخذ بظاهره لم يدخل النساء في هذه الفضيلة؛ لأَنَّ المرأة لا بد أن يأتيها العذر أثناء رمضان، فلا بد أن يكون عليها قضاء.

فإذا قيل: إنها إذا صامت بعد انتهاء يوم العيد صامت قضاءها ثم صامت السِّتَّ، فإنها قد صامت رمضان وحينَئِذٍ يحصل لها الفضل، نقول: يستوي أن تصوم من شعبان أو تصوم من غيره، ويكون قوله عليه الصلاة والسلام: "من صام رمضان" على غير ظاهره؛ وإنما المراد أن يجمع العدد وهو ست وثلاثون، فإذا كان الإنسان قد صام ستًّا وثلاثين، فإنه يستوي أن تكون أيام رمضان أصلاً أو قضاءً، ثم يصوم سِتًّا من شوال فحينَئِذٍ يكون مُحصِّلاً لهذِهِ الفضيلة سواء سبق القضاء أو تأخَّرَ.

ومن الأدلة على ذلك: أَنَّهُ لو قيل بأَنَّه لا بد من تقدم القضاء، فإن المرأةَ النفساء يأتيها النفاس ويستمر معها شهر رمضان كله، وقد يستمر معها خمسة وعشرين يومًا مثلاً، فكيف ستصوم سِتًّا من شوال؟!
لا يَتَأتَّى لها بحال أن تصيب هذا الفضل، فعلمنا أن المراد من ذلك إنما هو المبادرة بالخير بصيام رمضان أصلاً أو قضاءً، ويستوي في ذلك أن يكون قضاؤُه من شوال أو يكون قضاؤه من غير شوال.
أما كونُهُ يَتَنَفَّلُ وعليه فرض فهذا لا إشكال فيه؛ لأَنَّ الفرض إذا كان موسَّعًا فإنه لا حرج أن يتنفَّلَ صاحبه، بدليل ما لو أذن أذان الظهر فإنَّهُ يجوز للمسلم أن يصلي الراتبة القبلية مع أنه مخاطب بالفرض، لأَنَّ الوقت واسع، وقضاء رمضان وقته واسع كما ثبتت بذلك السُّنَّةُ الصحيحة في حديث أم المؤمنين عائشة: (إن كان يكون عليَّ الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مني) والإجماع على هذا.

وبناءً على ذلك فلا حرج أن يصوم القضاء بعد صيام السِّتِّ، وحديث عائشة: (إن كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أقضيه إلا في شعبان) يدل دلالة واضحة على أنها كانت تتنفل قبل الفريضة، ولذلك كانت تصوم السِّتَّ؛ لأَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يندب إليها، والغالب أَنَّها كانت تصوم، وثبت عنها في الرواية أنها صامت يوم عرفة.
وعلى هذا فَإِنَّ الصحيح والأَقوَى أنه يجوزُ أن يُؤخِّرَ القضاء إلى ما بعد السِّتِّ، لكنَّ الأفضل والأكمل للإنسان أن يُقدِّمَ قضاء رمضان ثم يصوم السِّتَّ من بعد ذلك، وهذا أكمل من عدة وجوه، فضلاً عن كونه خروجًا من الخلاف، فَإِنَّهُ أفضل لما فيه من المعاجلة والمبادرة بإبراء الذِّمَّة، وذلك مندوب إليه شرعًا) انتهى كلام الشيخ من شرح زاد المستنقع.

وهو اختيار الأستاذ الدكتور عبدالله الطَيَّار، قال حفظه الله: (والراجح عندنا أن الأولى في حقه أن يصوم قضاء رمضان أولاً ثم يصوم الست من شوال. لكن إذا كان الوقت لا يَتَّسِعُ لها فالمناسب صوم السِّتِّ من شوال وغيرها من الأوقات المستحبة كيوم عرفة وعاشوراء ثم يَقضِي ما عليه؛ لأن تلك لها وقت تنتهي فيه، أما القضاء فوقته إلى رمضان الآخر كما جاء في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّومُ مِن رَمَضَانَ فَمَا أَستَطِيعُ أَن أَقْضِيَهُ إِلا في شَعبَانَ، الشُّغْلُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَوْ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم"
ولا يمكن أن يقال إن عائشة رضي الله عنها لا تصوم السِّتَّ ولا يوم عرفة أو عاشوراء وغيرها من الأيام الفاضلة، بل يحمل قولها على أن الوقت لا يتسع بعد صوم الأيام الفاضلة التي كان يصومها النبي صلى الله عليه وسلم إلا في شعبان. وقد روي الجواز عن الإِمام أحمد لأنها عبادة تتعلق بوقت موسع) [الفقه الميسر:٢٠/٣]
وقال بهذا القول غيرهم كثير من أهل العلم حفظهم الله جميعًا.

ولعل قولهم هو الصحيح، وذلك لأمور:

أولاً: أنَّ قضاء فرض الصيام من الواجب المُوَسَّع كما نقله النووي -رحمه الله- عن الأئمة الأربعة وجماهير السلف، وكما يَدُلُّ عليه أيضًا إقرارُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم لِفِعلِ عائشة رضي الله عنها قالت: "كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّومُ مِن رَمَضَانَ فَمَا أَستَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلاَّ في شَعْبَانَ" قال ابنُ حجرٍ رحمه الله: (وفي الحديث دلالةٌ على جوازِ تأخيرِ قضاءِ رمضانَ مُطلقًا، سواءٌ كان لعُذرٍ أو لغير عُذرٍ؛ لأنَّ الزيادة كما بيَّنَّاه مُدرَجةٌ، فلو لم تكن مرفوعةً لَكان الجوازُ مُقَيَّدًا بالضرورة؛ لأَنَّ للحديث حُكْمَ الرفع؛ لأنَّ الظاهر اطِّلاعُ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم على ذلك، مع تَوَفُّر دواعي أزواجه على السؤال منه عن أمر الشرع؛ فلولا أنَّ ذلك كان جائزًا لم تُواظِبْ عائشةُ عليه)

ثانيًا:
تَمَيُّزُ صيام السِّتِ بأنَّهُ مُلحَقٌ برمضان، فإيقاعُهُ في غير شوال يَفُوتُ به الفضل عند طائفة من أهل العلم، قال في الإنصاف: (وَإِنَّمَا أُلْحِقَ -أي صيام السِّتِ من شوال- بِفَضِيلَةِ رَمَضَانَ لِكَونِهِ حَرِيمَهُ، لا لِكَوْنِ الحَسَنَةِ بِعَشرِ أَمثَالِهَا؛ وَلأَنَّ الصَّومَ فِيهِ يُسَاوِي رَمَضَانَ في فَضِيلَةِ الوَاجِبِ. قَالَهُ في الفُرُوع) [الإنصاف: ٣٤٤:٣]
وممَّن قال إنَّ الفضل خَاصٌّ بصيام شوالٍ فقط الإمام ابن القَيِّم، حيث قال رحمه الله: (ولا رَيبَ أَنَّهُ لا يمكن إلغاء خصوصية شوال، وإلا لم يكن لذكره فائدة؛ وقال آخرون: لَمَّا كان صوم رمضان لا بُدَّ أن يقع فيه نوع تقصير وتفريط وهضمٍ من حقه وواجبه، ندب إلى صوم ستة أيام من شوال جابرةً له ومسدِّدَةً لِخَلَلٍ عساه أن يقع فيه؛ فجرت هذه الأيام مجرى سنن الصلوات التي تُفعَلُ بعدها جابرةً ومكملة، وعلى هذا فتظهر فائدة اختصاصها بشوال. والله أعلم) [تهذيب السنن: ٢/١٤٩]
وقال في المنار المنيف: (وفي كونها من شوال سِرٌّ لطيف، وهو أنها تجري مجرى الجُبران لرمضان، وتقضي ما وقع فيه من التقصير في الصوم، فتجري مجرى سُنَّة الصلاة بعدها ومجرى سجدتي السهو ولهذا قال: (وأتبعه) أي: ألحقها به) [المنار المنيف:٣٢]
فتميَّزَ صومُ السِّتِّ من شوالٍ عن غيره من النوافل بكون وقوعه في شوال دون غيره.
بل قال بعضُهم أنّ صيامها في شوال يعدل ثواب صيامها فرضًا، وهذا أجرٌ عظيم لا مثيل له، قال ابنُ رجب في لطائف المعارف: (صيامها من شوال يلتحق بصيام رمضان في الفضل فيكون له أجر صيام الدهر [فرْضًا] ذكر ذلك ابنُ المبارك وذكر: أَنَّهُ في بعض الحديث حكاه الترمذي في جامعه، ولعله أشار إلى ما روي عن أم سلمة رضي الله عنها: "أنَّ من صام الغد من يوم الفطر فكأَنَّمَا صام رمضان") [لطائف المعارف: ٢٢٠]
وجاء ذكرُ هذا في الموسوعة الفقهية الكويتية، ففيها: (وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ وَالحَنَابِلَةُ بِأَنَّ صَومَ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِن شَوَّالٍ بَعدَ رَمَضَانَ يَعْدِل صِيَامَ سَنَةٍ فَرضًا، وَإِلاَّ فَلا يَختَصُّ ذَلِكَ بِرَمَضَانَ وَسِتَّةٍ مِن شَوَّالٍ، لأَنَّ الحَسَنَةَ بِعَشَرَةِ أَمثَالِهَا) [الموسوعة الفقهية الكويتية (28/ 92-93]
وعلى هذا فصيام السِّتِّ من شوال له فضيلة وميزة تختص هذا الشهر وتفوت بفواته.

ثالثًا:
لم يتعرّض الفقهاء في الكتب المتقدِّمة -فيما أعلم- لمسألة تقديم صوم السِّتَّ قبل القضاء بعينها، وإنّما ذكروا جواز صيام السِّتَّ في غير شهر شوال، ولعلهم ذكروا ذلك من باب التيسير تحصيلًا للثواب، قال القرطبي المالكي في «المفهم»: (قال بعض علمائنا: لو صام هذه الستة في غير شوال لكانت إذا ضمت إلى صوم رمضان صيام الدهر؛ لأَنَّ الحسنة بعشر أمثالها، كما ذكره في الحديث، وإنما خُصَّ شوال بالذكر لسهولة الصوم فيه إذ كانوا تعودوه في رمضان)
قال ابن مفلح الحنبلي في «الفروع»: (ويتوجه احتمال تحصل الفضيلة بصومها في غير شوال، وِفاقًا لبعض العلماء، ذكره القرطبي، لأن فضيلتَها كونُ الحسنة بعشر أمثالها، كما في خبر ثوبان، ويكون تقييدُه بشوال لسهولة الصوم لاعتياده رخصةً، والرخصة أولى)
وقال علي القاري الحنفي في «مرقاة المفاتيح»: (لا يخفى أَنَّ ثواب صوم الدهر يحصل بانضمام سِتٍّ إلى رمضان، ولو لم يكن في شوال فكان وجه التخصيص المبادرة إلى تحصيل هذا الأمر، والمسارعة إلى محصول هذا الأمر، ويدل على هذا المعنى الذي ذكرناه حديث ابن ماجه الذي قدمناه).
فالظاهر من هذه النصوص أنّهم نظروا إلى مسألة العدد فقط، ولذا لم يتعرّضوا لمسألة وجوب القضاء قبلها، فصومها في شوال فيه الخروج من الخلاف لمن لا يرى جوازها في غير شوال.

رابعًا:
أَنَّ الجمع بين القضاء وصيام السِّتِّ فيه مشقة تأباها نصوص الشريعة السمحة، ومن ثم يصعب على الكثير إدراك الفضل، ويفوت على كثير من المسلمين أجرُ صيامها، أو أَنَّه لا يمكن تحصيله إلا بمشقة ظاهرة، فالتيسير على النَّاس في تحصيل الأجور موافق لروح الشريعة التي جاءت بتيسير النوافل بشكل عام كما في نافلة الصلاة والصيام ونحوها من العبادات.

خامسًا:
القائلون بالمنع يقولون إنَّ من صامَ السِّتَّ دون قضاء رمضان وصيامه كاملاً لم يصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "مَن صامَ رَمَضانَ ثُمَّ أتْبَعَهُ سِتًّا مِن شَوَّالٍ كانَ كَصِيامِ الدَّهر" والصحيح أنَّ من صام السِّتَّ والقضاءَ يصدق عليه أنَّهُ صام رمضان حُكمًا، يَدُلُّ على هذا قوله صلى الله عليه وسلم في فضل صيام شهر رمضان: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه" مع أَنَّ مَنْ أفطر أيامًا في رمضان بعذر يشمله [بالاتفاق] فضل صيام رمضان مع أَنَّهُ لم يصمه كله أداءً، وإنَّما صام بعضه قضاءً في غير رمضان، فدَلَّ هذا على أَنَّ من صام رمضان قضاءً يصدق عليه أنَّهُ صام رمضان كله، وقد أشار إلى هذا الشيخ المختار الشنقيطي في كلامه المنقول قريبًا.
فصار قوله: ("مَن صامَ رَمَضانَ ثُمَّ أتْبَعَهُ سِتًّا مِن شَوَّالٍ كانَ كَصِيامِ الدَّهْرِ" قد خَرَج مَخرَجَ الغالبِ الأَعَمِّ فلا مفهومَ له؛ لأنَّ عامَّة الصائمين الذين رَغَّبَهُم الشَّرعُ في التَّطَوُّع يُؤَدُّون صِيامَ رمضانَ جميعه؛ ويُؤكِّدُ هذا الاحتمالَ حديثُ ثوبانَ رضي الله عنه عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسَلَّم قال: "مَن صَامَ رَمَضَانَ فَشَهْرٌ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَصِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ بَعْدَ الفِطْرِ فَذَلِكَ تَمَامُ صِيَامِ السَّنَةِ" فإنَّ ظاهِرَ الحديث يَدُلُّ على أَنَّ صيامَ شهرِ رمضانَ بعشرةِ أشهرٍ؛ لأنَّ الحسنة بعشر أمثالها، وكذلك في ستَّةِ أيَّامٍ مِنْ شوَّالٍ ففي كِلا الحالتين يحصل ثوابُ صوم الدهر، سواءٌ تخلَّف القضاءُ عن التطوُّع أو تَقدَّم عليه) ذكره غير واحد من أهل العلم.

سادسًا:
ما جاء في اشتراط التَّبَعِيَّةِ التي ذُكِرَت في الحديث فالجواب عنها فيما نقله البجيرمي من الشافعية، بقوله في حاشيته على الخطيب(2/ 406): (وقوله "ثم أتبعه" إلخ، يفيد أَنَّ من أفطر رمضان لم يَصُمْها، وأَنَّها لا تحصل قبل قضائه، وقد يقال: التبعية تشمل التقديرية؛ لأَنَّهُ إذا صام رمضان بعدها وقع عمَّا قبلها تقديرًا، أو التبعية تشمل المتأخرة كما في نفل الفرائض التابع لها. اهـ. والله أعلم)
قال في الإنصاف: (وَيَتَوَجَّهُ تَحْصِيلُ فَضِيلَتِهَا لِمَنْ صَامَهَا وَقَضَى رَمَضَانَ وَقَدْ أَفطَرَهُ لِعُذْرٍ. قَالَ: وَلَعَلَّهُ مُرَادُ الأَصْحَابِ، وَمَا ظَاهِرُهُ خِلَافُهُ: خَرَجَ عَلَى الغَالِبِ المُعتَادِ. انتَهَى. قُلتُ: وَهُوَ حَسَنٌ) [الإنصاف: ٣٤٤:٣]

سابعًا:
مَن تَأَمَّلَ في مجموع روايات الحديث وجد أَنَّ الفضل جاء مُطلَقًا لصوم رمضان أداءً وقضاءً، ففي حديث أبي أيوبٍ رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان وأتبعه سِتًّا من شوال كان كصيام الدهر" رواه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
وحديث جابر قال فيه: سمعتُ رسولَ الله صلى اللهُ عليه وسلم يقول: "مَنْ صامَ رمضانَ وسِتًّا من شوَّال، فكأنَّما صام السَّنَةَ كُلَّها" رواه أحمد.
ورواية ابن حبان في "صحيحه" ولفظه: "مَنْ صام رمضان وسِتًّا من شوال فقد صام السنة" ورواه ابن ماجه.
فلم تذكر هذه الروايات الإتباع، وإِنَّما جاءت مطلقة، قال بعضُ أهل العلم: (وألفاظ روايات هذه الأحاديث مختلفة؛ مما يقطع به أن أكثرها مروية بالمعنى، وليس لأحدٍ أن يأخذ لَفظًا منها ويحتَجُّ به مع أَنَّ غيره من الألفاظ يخالف دلالته)

ثامنًا:
جاء في روايات الأحاديث أيضًا تفسير لهذا الفضل، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: "من صام ستة أيام بعد الفطر كان تمام السنة: من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها" وفي رواية: "جعل الله الحسنة بعشر أمثالها، فشهر بعشرة أشهر، وصيام ستة أيام تمام السنة" رواه النسائي وابن ماجه، وهو في صحيح الترغيب والترهيب، ورواه ابن خزيمة بلفظ: "صيام شهر رمضان بعشرة أمثالها وصيام ستة أيام بشهرين فذلك صيام السنة"
فترتيب الفضل والثواب في هذه الروايات هو لمن جمع العدد، يقول ابن تيمية رحمه الله: (فإذا صام ستة أيام مع الشهر الذي هو ثلاثون، كُتب له صيام ثلاثة مئة وستين يومًا؛ لأَنَّ الحسنة بعشر أمثالها، وكذلك فَسَّره النبيُّ صلى الله عليه وسلم) [شرح العمدة: كتاب الصيام]
قال بعضُ أهل العلم: (فَدَلَّ ذلك أَنَّ الفضل في الحديث تفسيره صيام شهر رمضان وهو يعدل عشرة أيام، وصيام ستة أَيَّامٍ وهي تعدل شهرين، فيحصل الفضل ويكون لمن صامها أداءً أو قضاءً، فمجموع الأحاديث تدلُّ على أنَّ المعنى الذي تُدرَكُ به الفضيلة ليس موقوفًا على الفراغ من القضاء قبل السِّتِّ فَإِنَّ مقابلة صيام شهر رمضان لصيام عشرة أشهر حاصل بإكمال الفرض أداء وقضاء وقد وسع الله في القضاء فقال:﴿ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ﴾ [البقرة: 185] أما صيام الست من شوال فهي فضيلة تختص بهذا الشهر تفوت بفواته)

تاسعًا:
يذكر المانعون أَنَّ صيام القضاء أولى بالتقديم براءة للذمة، وهو قولٌ معتبر لا خلاف فيه، إلاَّ أَنَّ تأخير القضاء ليس ممنوعًا ولا يُعَدُّ صاحبُهُ مُفَرِّطًا إلا إذا ضاق عليه الوقت، أو كان مُعَرِّضًا نفسه لفواته؛ والعمل على تأخير القضاء منذ زمن الصحابة، وأثر عائشة رضي الله عنها مشهور في تأخير القضاء وهي من فضلاء وعلماء الأمة.

خلاصة البحث:

١/ أنّ الخلاف في هذه المسألة معروف، فالأمر فيه سعة.

٢/ أَنَّ الفضل الوارد في الحديث عامٌّ لمن صام رمضان أداءً وقضاءً بدليل أنَّ الفضل الوارد في صيام شهر رمضان الواجب يدخل فيه من صامه أداءً وقضاءً بالاتفاق، فلا وجه لإخراج صوم القضاء بعد السِّتِّ وإلا خرج من الفضل من قضى شهر رمضان، ولا قائلٌ بهذا، أمّا التمسّك بلفظ (ثمّ أتبعه) فالجواب عنه: (أَنَّ ألفاظ روايات هذه الأحاديث مختلفة؛ مما يفيد قطعًا أن أكثرها مروية بالمعنى، وليس لأحد أن يأخذ لفظًا منها ويحتج به مع أن غيره من الألفاظ يخالف دلالته) وقد تَقَدَّم هذا.
وأمّا قوله: "من صام رمضان" فإنّه -كما تقدّم ذكره- قد خَرَج مخرجَ الغالبِ الأَعَمِّ فلا مفهومَ له؛ لأَنَّ عامَّة الصائمين الذين رَغَّبَهُم الشَّرعُ في التَّطَوُّع يُؤَدُّون صيامَ رمضانَ جميعه.

٣/أَنَّ الأحاديث الأخرى بيَّنت أنَّ المراد صيام ستة وثلاثين يومًا إذا كان الشهر كاملاً أو خمسة وثلاثين يومًا إذا كان الشهر ناقِصًا، فتَبيَّن أَنَّ المراد العدد.

٤/ أَنَّنا لو منعنا ذلك لحُرِمَ كثيرٌ من المسلمين الفَوزَ بالفضيلة الواردة فيه، خصوصًا أَنَّها فضيلة ليست بالهَيِّنَةِ أن يفوز المسلم بأجر صيام الدهر فرضًا، وكم سمعنا ورأينا من صور للمشقة التي تلحق من أخذ بالقول بلزوم القضاء أولًا -خصوصًا النساء- والأَخَصُّ المتزوجة منهنَّ، فيقعن في حرج شديد تأباه سماحة النصوص العامَّة للشريعة.

فالصحيح -واللهُ أعلم- أَنَّ صيام السِّتِّ من شوال قبل قضاء رمضان جائزٌ ويحصل لصاحبه بإذن الله الأجر الوارد فيه.

هذا ما تَيَسَّرَت كتابته في هذه المسألة، فإن أصبتُ فمن الله، وأن أخطأتُ فمن نفسي والشيطان، وأستغفر الله منه، والله أعلم وأحكم.
 

كتبه/ عادل بن عبدالعزيز الجهني
في اليوم الثامن من شوال- ١٤٤٦ هجري.

 

اعداد الصفحة للطباعة      
ارسل هذه الصفحة الى صديقك
عادل المحلاوي
  • رسائل دعوية
  • مقالات موسمية
  • كتب
  • مقالات أسرية
  • خطب الجمعة
  • الصفحة الرئيسية