|
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من
لا نبي بعده أما بعد:
ففي سمرة ليلية مباركة مع خبير العسل
الدكتور إبراهيم العريفي، على جبل خندمة بمكة المكرمة، وفي إطلالة رائعة
على المسجد الحرام وما حلوه من أبراج تناطح السحاب، تحدث الدكتور عن العسل،
وعظم فوائده، وعن بركة النحلة وما يخرج منها من عسل وغذاء ملكات النحل
وحبوب اللقاح والشمع وسم النحل، فأحببت أن أشارك بمقال مختصر بما ورد في
السنة النبوية مما جمعته في موسوعة الطب النبوي التي أخرج منها كل فترة
مقالا أو بحثا، ومن الله أستمد العون.
المطلب الأول:
دلالات آيات النحل على فوائد العسل
أنزل الله سورة اسمها سورة النحل، وذكر
الله في آيات عظم خلقه للنحل، وطريقة جمع النحل لغذائه ثم تحويله إلى العسل
الجامل بين الغذاء والدواء.
يقول الله تعالى في سورة النحل "
وَأَوْحَىَ رَبّكَ إِلَىَ النّحْلِ أَنِ اتّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً
وَمِنَ الشّجَرِ وَمِمّا يَعْرِشُونَ * ثُمّ كُلِي مِن كُلّ الثّمَرَاتِ
فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ
مّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنّاسِ إِنّ فِي ذَلِكَ لاَيَةً
لّقَوْمٍ يَتَفَكّرُونَ " [النحل:68_69]
والتنكير في قوله تعالى: ( فِيهِ
شِفَاءٌ لِلنَّاسِ) يفيد أنه شفاء لبعض الأدواء لا كلها، ويدل على ذلك أن
النبي ﷺ وصف لبعض الأدواء غير العسل،
ولو كان العسل شفاء لكل داء لاكتفي به
وَقَالَ أَبُو بَكْر بْن الْعَرَبِيّ:
الْعَسَل عِنْد الْأَطِبَّاء أَقْرَب إِلَى أَنْ يَكُون دَوَاء مِنْ كُلّ
دَاء مِنْ الْحَبَّة السَّوْدَاء ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ مِنْ الْأَمْرَاض
مَا لَوْ شَرِبَ صَاحِبه الْعَسَل لَتَأَذَّى بِهِ ، فَإِنْ كَانَ
الْمُرَاد بِقَوْلِهِ فِي الْعَسَل " فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ " الْأَكْثَر
الْأَغْلَب فَحَمْل الْحَبَّة السَّوْدَاء عَلَى ذَلِكَ أَوْلَى " .
ويمكن أخذ العسل مباشرة، ويمكن خلطه مع
غيره، مثل التلبينة، وقد ورد عن عائشة رضي
الله عنها أنها سمعت رسول الله ﷺ
يقول:" إن التلبينة مُجِمَّة لفؤاد المريض، تذهب ببعض الحزن"[1]،
والتلبينة حساء من دقيق أو نخالة فيه عسل أو لبن، سميت تلبينة لأن لونها
يميل للبياض ولشبهها باللبن في رقته[2].
كما يمكن خلطه بالسمن، ليخفف من مرارة
السنا (السنامكي = العشرق)، ففي حديث عبدالله بن حرام
رضي الله عنه عن رسول الله
ﷺ قال:" عليكم بالسنا والسَّنُّوت فإن
فيهما شفاء من كل داء إلا السام"[3]،
يعني الموت. واختلف في السنوت فقيل هو العسل المخلوط بالسمن[4].
ولعظم نفع العسل، فقد كان النبي صلى
الله عليه وسلم يحب العسل، فقد قالت عائشة رضي الله عنها: - كانَ النبيُّ
صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يُحِبُّ الحَلْوَاءَ والعَسَلَ. أخرجه البخاري
(5599)، ومسلم (1474)
المطلب الثاني:
دلالات الأحاديث النبوية على الاستشفاء بشربة العسل
ثبت عن ابن عباس
رضي الله عنه قال: قال رسول الله
ﷺ: " الشفاء في ثلاث: شربة عسل وشرطة
محجم وكية نار وأنا أنهى أمتي عن الكي"([5]).
وفي حديث جابر قال: سمعت النبي -
ﷺ - يقول: «إن كان في شيء من أدويتكم
خير ففي شرطة محجم، أو شربة عسل، أو لذعة نار يوافق الداء، وما أحب أن
أكتوي»([6]).
وصح عن ابن مسعود
رضي الله عنه: "عليكم بالشفائين القرآن
والعسل"[7].
ومن طريف ما يروى عند ابن أبي
شيبة [٢٥٢٣٧] عن علي قال: إذا اشتكى أحدكم شيئا فليسأل امرأته ثلاثة دراهم
من صداقها، فيشتري به عسلا، فيشربه بماء السماء، فيجمع الله الهنيء المريء،
والماء المبارك، والشفاء.
وفي رواية ابن أبي حاتم في
التفسير [٤٧٧٩] عن علي قال: إذا اشتكى أحدكم شيئا، فليسأل امرأته ثلاثة
دراهم أو نحو ذلك فليبتع عسلا، ثم يأخذ ماء السماء، فيجتمع هنيئا مريئا
شفاء مباركا.
وقد أورده ابن حجر في فتح الباري 10/180
بلفظ: -إذا اشتَكى أحدُكم فليستوْهِب منَ امرأتِهِ من صداقِها فليشترِ بِهِ
عسَلًا ثمَّ يأخذُ ماءَ السَّماءِ فيجمعُ هنيئًا مريئًا شفاءً مبارَكًا،
وقال ابن حجر: إسناده حسن.
المطلب الثالث: العسل شفاء لأمراض البطن والنزلات المعوية
ومقوٍّ للجهاز المناعي:
من الوصفات النبوية للإسهال واستطلاق
البطن، التداوي بسقي المريض العسل، فقد صح عن أبي سعيدٍ الخُدْرِي
رضي الله عنه، قال: ((جاء رجلٌ إلى
النبيِّ ﷺ، فقال: إنَّ أخي اسْتُطْلِقَ
بَطنُه، فقال رسولُ الله ﷺ: اسْقِه
عَسَلًا. فسقاه، ثم جاءه، فقال: إنِّي سَقَيتُه عسَلًا، فلم يَزِدْه إلَّا
استِطلاقًا، فقال له ثلاثَ مرَّاتٍ، ثم جاء الرابعةَ، فقال: اسْقِهِ
عَسَلًا. فقال: لقد سقيْتُه فلم يَزِدْه إلَّا استطلاقًا، فقال رسولُ الله
ﷺ: صدَقَ اللهُ، وكَذَب بَطْنُ أخيك.
فسَقاه فبَرَأ. أخرجه البخاري (5716)، ومسلم (2217) واللفظ له.
( يشتكي بطنه )، أي: من ألمٍ أصابه بسبب
إسهال حصل له.
( صدق الله ) يعني في قوله تعالى: (
يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ) النحل/ 69.
قال الحافظ ابن حجر –
رحمه الله –: " معنى ( كذب بطنه ) أي:
لم يصلح لقبول الشفاء، بل زلَّ عنه، وقد اعترض بعض الملاحدة، فقال العسل
مسهل فكيف يوصف لمن وقع به الإسهال ؟ والجواب: أن ذلك جهل من قائله، بل هو
كقوله تعالى ( بل كذَّبوا بما لم يحيطوا بعلمه )، فقد اتفق الأطباء على أن
المرض الواحد يختلف علاجه باختلاف السنِّ، والعادة، والزمان، والغذاء
المألوف، والتدبير، وقوة الطبيعة،....ولا شيء في ذلك مثل العسل، لا سيما إن
مزج بالماء الحار، وإنما لم يفده في أول مرة: لأن الدواء يجب أن يكون له
مقدار، وكمية، بحسب الداء، إن قصُر عنه: لم يدفعه بالكلية، وإن جاوزه أوهى
القوة، وأحدث ضرراً آخر، فكأنه شرب منه أولاً مقداراً لا يفي بمقاومة
الداء، فأمره بمعاودة سقيه، فلما تكررت الشربات بحسب مادة الداء: برأ بإذن
الله تعالى.
وفي قوله ﷺ
( وكذب بطن أخيك ): إشارة إلى أن هذا الدواء نافع، وأن بقاء الداء ليس
لقصور الدواء في نفسه، ولكن لكثرة المادة الفاسدة، فمِن ثمَّ أمره بمعاودة
شرب العسل لاستفراغها، فكان كذلك، وبرأ بإذن الله " " فتح الباري " (
10 / 169 ، 170 ).
وقال ابن القيم: " الدواء يجب أن يكون
له مقدار وكمية بحسب حال الداء، إن قصر عنه لم يزله بالكلية، وإن جاوزه
أوهى القوى فأحدث ضررا آخر...واعتبار مقادير الأدوية وكيفياتها ومقدار قوة
المرض من أكبر قواعد الطب " " زاد المعاد " (4/30)
وصح عن عوف بن مالك بن نضلة أنَّ رجلًا
أتى عبدَ اللهِ فقال : إنَّ أخي مريضٌ اشتكى بطنَه ، وأنه نُعِتَ له الخمرُ
أفأسقِيه ؟ قال عبدُ اللهِ : سبحان اللهِ ! ما جعل اللهُ شفاءً في رِجسٍ ،
إنما الشِّفاء في شيئَينِ : العسلُ شفاءٌ للناسِ ، والقرآنُ شفاءٌ لما في
الصُّدورِ. أخرجه الطبراني في ((المعجم الكبير)) (9/ 184) (8910)، واللفظ
له، وابن أبي شيبة (30020)، بنحوه، والحاكم في ((المستدرك على الصحيحين))
(7437)، مختصرا. وصححه الألباني في الصحيحة الجزء 4 صفحة 176 .
وأورد ابن حجر في الإصابة 2/258 بسند
صحيح عن أبي سعيد الخدري أنَّ مُلاعبَ الأسِنَّةِ بعثَ إلى النَّبيِّ صلَّى
اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّمَ يسألُهُ الدَّواءَ مِن وَجعِ بطنِ ابنِ أخٍ لهُ
فبعثَ إليهِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّمَ عُكَّةَ عسلٍ
فسقاهُ فبرَأَ.
وإذا نزل الإنسان في بلاد موبوءة،
فالعسل نافع له، فقد صح عن محمود بن لبيد الأنصاري أنَّ عمرَ بنَ الخطابِ
حين قَدِمَ الشامَ شكا إليه أهلُ الشامِ وباءَ الأرضِ وثِقلَها ، وقالوا لا
يُصلحُنا إلا هذا الشرابُ ، فقال عمرُ : اشرَبوا العسلَ ، قالوا ما يصلحُنا
العسلُ ، فقال رجالٌ من أهلِ الأرضِ : هل لك أن نجعلَ لك من هذا الشرابِ
شيئًا لا يُسكرُ ؟ فقال : نعم ، فطبَخُوهُ حتى ذهبَ منه ثلثانِ وبقيَ
الثلثُ ، فأتوا به عمرَ فأدخلَ فيه إصبعَهُ ثم رفعَ يدَهُ فتبعَها يتمططُ ،
فقال : هذا الطلاءُ مِثلُ طلاءِ الإبلِ ، فأمرَهم عمرُ أن يَشربوهُ ، وقال
عمرُ : اللَّهمَّ إنِّي لا أحلُّ لهم شيئًا حرمْتَهُ عليْهِم. أخرجه مالك
(3134)، والبيهقي (17494) بلفظه. وصححه ابن حجر في الفتح 10/65.
المطلب الرابع: التداوي بلسع النحل
السم إن كان يضر كثيره: لم يحرم تناول
يسيره.
انظر " الإنصاف " ( 10 / 354 ) و "
المجموع " ( 9 / 37 ).
ومن المعلوم أن تناول السم القاتل لا
يجوز، بل هو من كبائر الذنوب.
فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ
ﷺ قَالَ: (مَنْ تَحَسَّى سُمًّا
فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ
خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا) رواه البخاري (5442) ومسلم (109).
وأما تناول السم من أجل التداوي: فقد
اختلف العلماء فيه على قولين:
الأول: جواز التداوي بالسم إذا دعت
الضرورة لذلك، وكان الغالب السلامة من أثره.
وهو قول جمهور الحنفية والمالكية
الشافعية، وهو مذهب الحنابلة.
والثاني: حرمة التداوي بالسم، وهو قول
بعض الحنفية والشافعية.
والراجح من القولين هو الأول، فالسموم
أنواع وليس لها حكمٌ واحد، وهي تختلف بحسب نفعها والحاجة إليها.
قال المباركفوري
رحمه الله:
"قال الماوردي وغيره: السموم على أربعة
أضرب:
منها: ما يقتل كثيره وقليله: فأكله حرام
للتداوي ولغيره، كقوله تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ).
ومنها: ما يقتل كثيره دون قليله: فأكل
كثيره الذي يقتل حرام للتداوي وغيره، والقليل منه إن كان مما ينفع في
التداوي: جاز أكله تداوياً.
ومنها: ما يقتل في الأغلب، وقد يجوز أن
لا يقتل: فحكمه كما قبله.
ومنها: ما لا يقتل في الأغلب وقد يجوز
أن يقتل: فذكر الشافعي في موضع إباحة أكله، وفي موضع تحريم أكله، فجعله بعض
أصحابه على حالين فحيث أباح أكله فهو إذا كان للتداوي وحيث حرم أكله فهو
إذا كان غير منتفع به في التداوي" " تحفة الأحوذي " ( 6 / 167 ).
وفي " كشاف القناع عن متن الإقناع " ( 4
/ 264 ):
"فَإِنْ كَانَ الدَّوَاءُ مَسْمُومًا
وَغَلَبَتْ مِنْهُ السَّلَامَةُ وَرُجِيَ نَفْعُهُ أُبِيحَ لِدَفْعِ مَا
هُوَ أَعْظَمَ مِنْهُ، كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَدْوِيَةِ غَيْرِ
الْمَسْمُومَةِ، وَدَفْعًا لِإِحْدَى الْمَفْسَدَتَيْنِ بِأَخَفَّ
مِنْهَا".
وقال ابن قدامة
رحمه الله:
"وما فيه السموم من الأدوية: إن كان
الغالب من شربه واستعماله الهلاك به أو الجنون: لم يبح شربه، وإن كان
الغالب منه السلامة ويرجى منه المنفعة: فالأوْلى إباحة شربه لدفع ما هو
أخطر منه كغيره من الأدوية.
ويحتمل أن لا يباح ؛ لأنه يعرض نفسه
للهلاك، فلم يبح كما لو لم يرد به التداوي.
والأول: أصح ؛ لأن كثيراً من الأدوية
يخاف منه، وقد أبيح لدفع ما هو أضر منه" "المغني" ( 1 / 447 ).
وقد أثبتت تجارب كثيرة فعالية سم النحل
في العلاج. وخصوصا أن لسعة النحلة لا تضر الجسم إلا في من لديه حساسية
مفرطة، والنادر لا يؤثر في الجواز.
والعلاج بالنحل (apitherapyمستخدم وثبت
له فوائد في علاج بعض الأمراض، وهو بحاجة لدراسات شاملة وفق المنهج العلمي،
ومن ثم استخراج سم النحل أو العناصر المؤثرة فيه ليكون على هيئة دوائية.
المطلب الخامس:
النهي عن قتل النحل لعظم نفعه وانعدام ضرره
ثبت عن ابن عباس قال: نَهى النَّبيُّ
صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عن قتلِ أربعٍ منَ الدَّوابِّ النَّملةِ
والنَّحلةِ والهدهدِ والصُّرَدِ. أخرجه أبو داود (5267)، وابن ماجه (3224)،
وأحمد (3066) بسند حسن.
[1]
أخرجه
البخاري9/550،10/146 مع الفتح ومسلم (2216).
[3]
أخرجه ابن
ماجه(3457) والحاكم 4/201 وصححه وتعقبه الذهبي بأن فيه عمرو بن بكر
السكسكي متروك.
([6])
البخاري (5/2152، 2157) (5359، 5375، 5377) ، مسلم (4/1729)
(2205).
[7]
رواه الحاكم
4/200 وابن أبي شيبة 7/445 بسند صحيح وصحح وقفه البيهقي وابن كثير
وقال ابن حجر في الفتح 10/170: رجاله رجال الصحيح.