التوازن في الأكل في السنة النبوية

التوازن في الأكل في السنة النبوية

كتبه الدكتور عبدالعزيز بن سعد الدغيثر في 12 صفر 1447

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه أما بعد:

فإن من أهم أسباب السقم للبدن الأمراض الباطنية، ومن أهم أسبابها كثرة الأكل، وكذلك سوء التغذية، وعسر الهضم، وترك الهدي النبي في تفريغ الأمعاء والمثانة، وترك ما يسبب الأمراض الوبائية.

وقد أنعم الله على خلقه بالطعام، قال تعالى: ﴿فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى ‌طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ) عبس/ 24-32. وشكر هذه النعمة بالحمد لله وشكره، وإطعام الجائعين.

وفي هذا المقال توضيح ذلك، ومن الله أستمد العون.

المطلب الأول: ذم التخمة في السنة النبوية

التخمة هي الإكثار من الأكل، ونجد في النصوص طرقا للوقاية من آلام التخمة فمن ذلك:

1)               جاء التحذير من الإكثار من الأكل والشرب فيما يأتي:

-                   قال تعالى: " وكلوا واشربوا ولا تسرفوا"(الأعراف:31)

-                  وفي حديث عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - -: «كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة» ([1]).

2)               وقد ورد معيار الإكثار في حديث نبوي جليل، ففي حديث المقدام بن معدي كرب قال: سمعت النبي - - يقول: «ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطن، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه»([2]).

3)               وبين النبي أن الشبع وكثرة الأكل لا يتوافق مع الإيمان الصادق الحقيقي، فقد صح عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - -: «المسلم يأكل في معاء والكافر يأكل في سبعة أمعاء»([3])،

4)               وفي حديث أبي جحيفة- رضي الله عنه - قال: «أكلت ثريدة من خبز ولحم ثم أتيت النبي - - فجعلت أتجشأ فقال: يا هذا! كف من جشائك فإن أكثر الناس شبعًا في الدنيا أكثرهم جوعًا يوم القيامة» ([4]).

5)               وأخبر عن حال من يكثر من الشبع، ففي حديث ابن عباس- رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - -: «إن أهل الشبع في الدنيا هم أهل الجوع غدًا في الآخرة» ([5]).

المطلب الثاني: ذم السمنة في السنة النبوية

السمنة تنتج بسبب كثرة الأكل، وكثرة الوجبات، والأكل غير الصحي، وقد جاءت النصوص بذم السمنة فيما رواه عمران بن حصين - رضي الله عنه - أن النبي قال: " إن بعدكم قوما يخونون ولا يؤتمنون ويشهدون ولا يستشهدون وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن"([6]).

وفي سنن الترمذي (2147) بلفظ : (ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِمْ قَوْمٌ يَتَسَمَّنُونَ وَيُحِبُّونَ السِّمَنَ) وصححه الألباني في صحيح الترمذي .

قال النووي رحمه الله: " قال جمهور العلماء في مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ : الْمُرَادُ بِالسِّمَنِ هُنَا كَثْرَةُ اللحم، ومعناه أنه يكثر ذلك فيهم، قَالُوا: وَالْمَذْمُومُ مِنْهُ مَنْ يَسْتَكْسِبُهُ، وَأَمَّا مَنْ هُوَ فِيهِ خِلْقَةً فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا، وَالْمُتَكَسِّبُ لَهُ هُوَ الْمُتَوَسِّعُ فِي الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ زَائِدًا عَلَى الْمُعْتَادِ " .

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله :" (وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ) : أَيْ يُحِبُّونَ التَّوَسُّعَ فِي الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ، وَهِيَ أَسْبَابُ السِّمَنِ".

المطلب الثالث: مقاومة الجوع الشديد في السنة النبوية

الجوع الشديد المفضي إلى سوء التغذية مذموم في الشريعة وقد استعاذ منه النبي، فقد صح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : "اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع"([7]).

ومن حصل له جوع بسبب فقر أو سبب آخر فليتذكر حال النبي ، فقد روى البخاري (5381) ومسلم (2040) عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ : لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ 

كما أن النصوص متواترة في فضل إطعام الجائع والمسكين كما في قوله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا * وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا) الإنسان/ 8 - 12.

قال ابن كثير رحمه الله: ‌"(ويطعمون ‌الطعام ‌على ‌حبه} قيل: على حب الله تعالى. وجعلوا الضمير عائدا إلى الله عز وجل لدلالة السياق عليه. والأظهر: أن الضمير عائد على الطعام، أي: ويطعمون الطعام في حال محبتهم وشهوتهم له، قاله مجاهد، ومقاتل، واختاره ابن جرير، كقوله تعالى: وآتى المال على حبه [البقرة: 177]، وكقوله تعالى: لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون [آل عمران: 92]. "تفسير ابن كثير" (8/ 288).

وقال تعالى مبيناً ما يتجاوز به المرء عقبات يوم القيامة: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي ‌مَسْغَبَةٍ * يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) البلد/ 12-16. 

قال القرطبي رحمه الله: "وإطعام الطعام فضيلة، وهو مع السغب -الذي هو الجوع-: أفضل.

وقال النخعي في قوله تعالى: ‌(أو ‌إطعام ‌في ‌يوم ‌ذي ‌مسغبة) قال: في يوم عزيزٍ فيه الطعام". "تفسير القرطبي" (20/ 69).

وقد كان النبي يطعم الصحابة إن كان عنده ما يطعمهم، قال الله تعالى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى ‌طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا [الأحزاب: 53] . واقتدى به صحابته – رضي الله عنهم - عن صهيب رضي الله عنه قال: قال عمر: أي رجل أنت، لولا خصال ثلاث فيك! قال: وما هن؟ فذكر منهنَّ: وفيك سرف في الطعام، فقال: وأما قولك: فيك سرف في الطعام، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (خياركم من أطعم الطعام). رواه أحمد (23929). وصححه الألباني في "السلسة الصحيحة" (٤٤).

وعَنْ حُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ: "لَأَنْ ‌أَقُوتَ ‌أَهْلَ ‌بَيْتٍ ‌بِالْمَدِينَةِ ‌صَاعًا ‌كُلَّ ‌يَوْمٍ، أَوْ كُلَّ يَوْمٍ صَاعَيْنِ شَهْرًا، أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حَجَّةٍ فِي إِثْرِ حَجَّةٍ" رواه ابن أبي شيبة في "المصنف" (13186).

قال أبو السوار العدوي: "كان رجال من بني عدي يُصلُّون في هذا المسجد، ما أفطر أحد منهم على طعامٍ قط وحده، إن وجد من يأكل معه أكل، وإلا أخرج طعامه إلى المسجد، فأكله مع الناس، وأكل الناس معه"."الكرم والجود للبرجلاني" (ص53).

وقد ثبت فضل إطعام الطعام للجائعين، ففي حديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رجلا سأل النَّبِيَّ : أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ؟ قَالَ: (‌تُطْعِمُ ‌الطَّعَامَ، ‌وَتَقْرَأُ ‌السَّلَامَ ‌عَلَى ‌من عرفت ومن لم تعرف) رواه البخاري رقم (١٢)، وبوَّب له في صحيحه: باب: إطعام الطعام من الإسلام.

وعن عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: (‌اتَّقُوا ‌النَّارَ ‌وَلَوْ ‌بشق ‌تمرة) رواه البخاري (1351) ومسلم (1016).

وعن معاذ بن جبل أن رسول الله بعثه إلى قوم، فقال: يا رسول الله، أوصني؟

قال: (أفش السلام وابذل الطعام، واستحي من الله استحياءك رجلًا من أهلك، وإذا أسأت فأحسن، ولتحسن خُلقك ما استطعت) رواه البزار (٢١٧٢)، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم (٣٥٥٩).

وعن عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، قَالَ: لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ الْمَدِينَةَ، انْجَفَلَ النَّاسُ قِبَلَهُ، وَقِيلَ: قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ، قَدْ قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ ثَلَاثًا، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ، لِأَنْظُرَ، فَلَمَّا تَبَيَّنْتُ وَجْهَهُ، عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ، فَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ سَمِعْتُهُ تَكَلَّمَ بِهِ، أَنْ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَفْشُوا السَّلَامَ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ، ‌وَصِلُوا ‌الْأَرْحَامَ، ‌وَصَلُّوا ‌بِاللَّيْلِ، ‌وَالنَّاسُ ‌نِيَامٌ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ) رواه ابن ماجه (3251) وصححه الألباني.

عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ قَالَ: (إِنَّ اللهَ ‌لَيُرَبِّي ‌لِأَحَدِكُمُ ‌التَّمْرَةَ، ‌وَاللُّقْمَةَ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ أَوْ فَصِيلَهُ حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ أُحُدٍ) رواه أحمد (26135).

وعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ ، أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ وَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ : "‌أَحَبُّ ‌النَّاسِ ‌إِلَى ‌اللهِ ‌تَعَالَى ‌أَنْفَعُهُمْ ‌لِلنَّاسِ، وَأَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللهِ تَعَالَى سُرُورٌ تُدْخِلُهُ عَلَى مُسْلِمٍ، أَوْ تَكَشِفُ عَنْهُ كُرْبَةً، أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تَطْرُدُ عَنْهُ جُوعًا...) رواه الطبراني في الكبير (13646) وصححه الألباني في "الصحيحة" (‌‌906).

ومن يبخل عن إطعام الجائع فهو في غاية البخل، قال تعالى في صفات من أوتي كتابه بشماله: (‌خُذُوهُ ‌فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) الحاقة/ 30-34.

 وقال سبحانه: (كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ * ‌وَلَا ‌تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ) الفجر/ 17-18.

وقال سبحانه: (أَرَأَيْتَ الَّذِي ‌يُكَذِّبُ ‌بِالدِّينِ * فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ* وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) الماعون/ 1-3.

وعن ابن عمر عن النبي قال: (وأَيُّما أهلُ ‌عَرْصَةٍ ‌أصبح ‌فيهم ‌امرؤ ‌جائع، فقد برئتْ منهم ذمة الله تعالى) رواه أحمد (4880) وصححه أحمد شاكر.

المطلب الرابع: التوسط بين الجوع والتخمة

قال القرطبي رحمه الله في تفسير آية آل عمران : "قوله تعالى : (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا) قال ابن عباس : أحل الله في هذه الآية الأكل والشرب ما لم يكن سرفا أو مخيلة . فأما ما تدعو الحاجة إليه ، وهو ما سد الجوعة وسكن الظمأ ، فمندوب إليه عقلا وشرعا ، لما فيه من حفظ النفس وحراسة الحواس ، ولذلك ورد الشرع بالنهي عن الوصال ، لأنه يضعف الجسد ويميت النفس ، ويضعف عن العبادة ، وذلك يمنع منه الشرع وتدفعه العقل . وليس لمن منع نفسه قدر الحاجة حظ من بر ولا نصيب من زهد ، لأن ما حرمها من فعل الطاعة بالعجز والضعف أكثر ثوابا وأعظم أجرا.

وقد اختلف في الزائد على قدر الحاجة على قولين : فقيل حرام ، وقيل مكروه . قال ابن العربي : وهو الصحيح ، فإنّ قدر الشبع يختلف باختلاف البلدان والأزمان والأسنان والطعمان. ثم قيل : في قلة الأكل منافع كثيرة ، منها أن يكون الرجل أصح جسما وأجود حفظا وأزكى فهما وأقل نوما وأخف نفسا. وفي كثرة الأكل كظ المعدة ونتن التخمة ، ويتولد منه الأمراض المختلفة ، فيحتاج من العلاج أكثر مما يحتاج إليه القليل الأكل. وقال بعض الحكماء : أكبر الدواء تقدير الغذاء " "تفسير القرطبي" (7/ 191).

وفي الموسوعة الفقهية (25/ 332) : "من آداب الأكل : الاعتدال في الطعام ، وعدم ملء البطن ، وأكثر ما يسوغ في ذلك أن يجعل المسلم بطنه أثلاثا : ثلثا للطعام وثلثا للشراب وثلثا للنفس ؛ لحديث : (ما ملأ آدمي وعاء شرا من بطن ، بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ، فإن كان لا محالة ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه) . ولاعتدال الجسد وخفته ؛ لأنه يترتب على الشبع ثقل البدن ، وهو يورث الكسل عن العبادة والعمل . ويُعرف الثلث بالاقتصار على ثلث ما كان يشبع به . وقيل : يعرف بالاقتصار على نصف المد ، واستظهر النفراوي الأول لاختلاف الناس . وهذا كله في حق من لا يضعفه قلة الشبع ، وإلا فالأفضل في حقه استعمال ما يحصل له به النشاط للعبادة ، واعتدال البدن .

وفي الفتاوى الهندية : الأكل على مراتب :

فرض : وهو ما يندفع به الهلاك ، فإن ترك الأكل والشرب حتى هلك فقد عصى .

ومأجور عليه ، وهو ما زاد عليه ليتمكن من الصلاة قائما ، ويسهل عليه الصوم .

ومباح ، وهو ما زاد على ذلك إلى الشبع لتزداد قوة البدن ولا أجر فيه ولا وزر ويحاسب عليه حسابا يسيرا إن كان من حل .

وحرام ، وهو الأكل فوق الشبع إلا إذا قصد به التقوي على صوم الغد ، أو لئلا يستحي الضيف فلا بأس بأكله فوق الشبع .

وقال ابن الحاج : الأكل في نفسه على مراتب : واجب ، ومندوب ، ومباح ، ومكروه . ومحرم . فالواجب : ما يقيم به صلبه لأداء فرض ربه ؛ لأن ما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب .

والمندوب : ما يعينه على تحصيل النوافل وعلى تعلم العلم وغير ذلك من الطاعات .

والمباح : الشبع الشرعي . والمكروه : ما زاد على الشبع قليلا ولم يتضرر به ، والمحرم : البطنة . وهو الأكل الكثير المضر للبدن .

وقال النووي : يكره أن يأكل من الطعام الحلال فوق شبعه .

وقال الحنابلة : يجوز أكله كثيرا بحيث لا يؤذيه ، وفي الغنية : يكره مع خوف تخمة . ونُقل عن ابن تيمية كراهة الأكل المؤدي إلى التخمة كما نقل عنه تحريمه ".

المطلب الخامس: إفراغ الجهاز الهضمي من الأذى في السنة النبوية

من أهم طرق الوقاية من أمراض الباطنة إفراغ المثانة والأمعاء من الفضلات عند الحاجة لذلك، ولو كان ذلك يؤدي لفوات صلاة الجماعة، فقد ثبت عن عائشة- رضي الله عنها - قالت: سمعت النبي - - يقول: «‌لا ‌صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافع الأخبثين» ([8])،

وفي حديث عبد الله بن الأرقم- رضي الله عنه - قال: سمعت النبي - - يقول: «إذا أراد أحدكم الغائط فليبدأ به قبل الصلاة» ([9]).

وفي ذلك حكمة عظيمة من عدم إيذاء القناة الهضمية والمثانة والتسبب في حدوث الإمساك المزمن وانحباس البول، ومن جهة أخرى الحضور للصلاة بقلب حاضر مستعد للخشوع وهو المقصد الأكبر للصلاة.

المطلب السادس: النوم غير الصحي وأثره في اضطرابات الهضم في هدي السنة النبوية

هيئة النوم لها تأثير على سرعة الهضم فقد قال النبي : " إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة ثم اضطجع على شقك الأيمن..."([10]). وفي معنى ذلك يقول الدكتور القباني: " ولقد أثبتت التجارب أن مرور الطعام في المعدة في حالة النوم على اليمين يستغرق من ساعتين ونصف إلى أربع ساعات ونصف، بينما تمتد هذه العملية من خمس ساعات إلى ثمان إذا كان النوم على الجانب الأيسر"([11]). ومعلوم أن القلب في الجانب الأيسر من الصدر وباب المعدة الذي يتدفق منه الغذاء إلى الأمعاء موجود في الجانب الأيمن.

وأشد من ذلك النوم على البطن وقد رأى النبي طخفة الغفاري رضي الله عنه نائما على بطنه في المسجد فركضه برجله وقال: "مالك ولهذا النوم، هذه نومة يكرهها الله أو يبغضها الله"([12]).

المطلب السابع: درء العدوى بالأمراض الباطنية في السنة النبوية

الأمراض منها ما هو فيروسي ومنها ما هو بكتيري، وقد تنتقل الأمراض بسبب سلوكيات في الأكل والشرب، وبيان ذلك فيما يأتي:

الفرع الأول: النهي عن النفخ في الشراب

ورد النهي عن النفخ في الشراب فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي نهى عن النفخ في الشراب، فقال رجل: القذاة أراها في الإناء؟ فقال: "أهرقها. قال: فإني لا أروي من نفس واحد. قال: فأبن القدح عن فيك"([13]).

وقال النبي : " إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء"([14]).

الفرع الثاني: النهي عن الشرب من فم القربة أو الإبريق

صح عن أبي سعيد - رضي الله عنه - قال: نهى رسول الله عن اختناث الأسقية – أن يشرب من أفواهها"([15]).

وبمعناه حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - في النهي عن الشرب من فيِّ السقاء([16]).

الفرع الثالث: الأمر بتغطية الأسقية

من سبل الوقاية من الأمراض الباطنية الأمر بتغطية الأواني حتى لا يتلوث الطعام بالأوساخ والميكروبات المسببة للنزلات المعوية وغيرها فقد قال النبي : "خمروا الآنية وأوكؤوا الأسقية وأجيفوا الأبواب..."([17])، وفي حديث آخر : " غطوا الإناء وأوكؤوا السقاء، فإن في السنة ليلة ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء أو سقاء ليس عليه وكاء إلا نزل فيه من ذلك الوباء"([18]). وذلك لأن الحشرات تنشط بالليل كما أن لبعض الميكروبات فصولا معينة في السنة تنشط خلالها([19]).

من أمثلة ذلك: أن الحصبة، وشلل الأطفال، تكثر في سبتمبر وأكتوبر، والتيفوئيد يكثر في الصيف أما الكوليرا فإنها تأخذ دورة كل سبع سنوات، والجدري كل ثلاث سنين وهذا يفسر لنا الإعجاز العلمي في قول الرسول : " إن في السنة ليلة ينزل فيها وباء " أي: أوبئة موسمية ولها أوقات معينة ([20]).

المطلب الثامن: الشرب قائما في السنة النبوية

ومن ذلك النهي عن الشرب قائما حتى لا يشرق بالماء فيتأذى بذلك فقد ثبت عن النبي أنه نهى عن الشرب قائما"([21]).

وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -  أن النبي زجر عن الشرب قائماً رواه مسلم.

وعن أنس وقتادة - رضي الله عنهما - أن النبي "أنه نهى أن يشرب الرجل قائماً"، قال قتادة: فقلنا فالأكل ؟ فقال: ذاك أشر وأخبث" رواه مسلم.

وعن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : " نهى رسول الله عن الشرب قائماً وعن الأكل قائماً وعن المجثمة والجلالة والشرب من فيّ السقاء ".

نسأل الله الجميع الصحة والعافية، والله أعلم وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.

 


 

([1]) علقه البخاري (5/2181) قبل الحديث (5446) كتاب اللباس، ووصله أبو داود الطيالسي (1/299) (2261) كما ذكر ذلك الحافظ في الفتح (10/253) والحديث ليس عند أبي داود السجستاني، وقد نبه على هذا المصنف في نهاية الباب، وأحمد (2/181، 182)، والنسائي (5/79)، وابن ماجه (2/1192) (3605)، والحاكم (4/150)، وأخرجه الترمذي = = (5/123) (2819) مختصرًا. قال المنذري: ورواته إلى عمرو بن شعيب ثقات محتج بهم في الصحيح، وقال عمرو بن شعيب: الجمهور على توثيقه وعلى الاحتجاج بروايته عن أبيه عن جده.. انتهى، وأخرجه الحاكم وقال: صحيح، وأقره الذهبي.

([2])أحمد (4/132)، الترمذي (4/590) (2380)، ابن ماجه (2/1111) (3349)، ابن حبان (2/449) (674)، والحاكم (4/135)، والنسائي في "الكبرى" (4/177، 178)، وفي رواية ابن ماجه: قال: «فإن غلب الآدمي نفسه فثلث للطعام» الحديث. وقال: حديث حسن صحيح وفي نسخة: حسن وصححه الألباني في صحيح الجامع (5674).

([3]) البخاري (5/2062) (5081)، مسلم (3/1632) (2062).

([4]) الحاكم (4/135، 346)، والطبراني في "الكبير" (22/132) (351)، والبزار (3669-كشف)، وهو عند الترمذي وابن ماجه من حديث ابن عمر الآتي، وليس لهما من حديث أبي جحيفة وانظر "الترغيب والترهيب" للمنذري (3/99) قال المنذري: رواه الترمذي وابن ماجة والحاكم، وقال: صحيح الإسناد وتعقبه، ورواه البزار برجال ثقات. وهو عند الترمذي (4/649) (2478)، ابن ماجه (2/1111) (3350) بمعناه من حديث ابن عمر وقال: حديث حسن.

([5]) الطبراني في "الكبير" (11/267).

([6]) رواه البخاري 5/258 والترمذي 9/66 وأبوداود2/518 وأحمد 4/416 والنسائي 7/17.

([7]) رواه أبو داود 1/354 والنسائي 8/263.

([8]) رواه مسلم (1/393)، وأبو داود (1/22).

([9]) النسائي (2/110)، مالك (1/159)، الترمذي (1/262-263)، أبو داود (1/22)، ابن حبان (5/427)، الحاكم (1/273)، وهو عند أحمد (3/483)، وابن ماجه (1/202)، وابن خزيمة (2/65). ولفظ الترمذي: سمعت رسول الله - - يقول: «إذا أقيمت الصلاة ووجد أحدكم الخلاء فليبدأ بالخلاء» وقال الترمذي: حسن صحيح، وأخرجه أبو داود بنحوه وابن حبان والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين

([10]) أخرجه البخاري 11/115 وأحمد 4/292.

([11]) الوقاية الصحية /60 عن كتاب طبيبك معك /429.

([12]) أخرجه أحمد 3/429 والبخاري في الأدب المفرد(1187) وأبو داود(5040) وابن ماجه(752) وابن حبان (5550)وفيه قيس بن خطفة مجهول، ويشهد له حديث أبي هريرة عند أحمد 2/287 والترمذي(2768) وابن حبان( 5549) وسنده حسن كما في تحقيق الآداب الشرعية 3/237.

([13]) أخرجه الترمذي 8/80 وقال: حديث حسن صحيح، وأبو داود 2/1134 وأحمد 3/26.

([14]) رواه البخاري 10/92 والنسائي 1/43 وابن ماجه 2/1133 وأحمد 4/383.

([15]) رواه البخاري (5625) ومسلم(2023).

([16]) رواه البخاري (5628).

([17]) أخرجه البخاري 6/355 والترمذي 10/294 وأبو داود2/305.

([18]) أخرجه البخاري (3304) مسلم (2012) وابن حبان(1271)

([19]) الوقاية الصحية /56 عن مقال : نحو وعي صحي أفضل، مجلة التمدن الإسلامي 187/51.

([20]) من كتاب " الإعجاز العلمي في الإسلام والسنة النبوية " محمد كامل عبد الصمد.

([21]) رواه مسلم 3/1600 وابن ماجه 2/1132 وأحمد 3/54.