شرب النبيذ في السنة النبوية

شرب النبيذ في السنة النبوية

كتبه الدكتور عبدالعزيز بن سعد الدغيثر في 15 صفر 1447

 
بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:

فمن جنايات ترجمة بعض الإخوة العرب، أنهم يترجمون الخمر بالنبيذ، وهذا من الجهل، فالنبيذ غير الخمر، وهو نبذ تمر أو زبيب في ماء لتحليته، وخصوصا أن الماء في كثير من البلاد العربية يكون فيه مرارة أو ملوحة، فيتم تحليته بهذه الطريقة، وفي هذا المقال جمع لما في السنة من أحكام شرب النبيذ.

المطلب الأول: المقصود بالنبيذ

كان من عادة العرب، أن ينبذوا الزبيب أو التمر أو العسل في الماء، ليحليه ويطيبه، ويسمى عندهم النبيذ، قال في لسان العرب: والنبيذ الطرح وهو ما لم يسكر حلال، فإذا أسكر حرم، وقد تكرر في الحديث ذكر النبيذ وهو ما يُعمل من الأشربة من التمر والزبيب والعسل والحنطة والشعير وغير ذلك. يقال: نبذت التمر والعنب إذا تركت عليه الماء ليصير نبيذا، فصرف من مفعول إلى فعيل، وانتبذته اتخذته نبيذا، وسواء كان مسكرا أو غير مسكر فإنه يقال له نبيذ. اهـ.

المطلب الثاني: حكم شرب النبيذ

قال ابن قدامة في المغني: روى أبو داود، بإسناده عن ابن عباس أن النبي كان ينبذ له الزبيب، فيشربه اليوم والغد وبعد الغد، إلى مساء الثالثة، ثم يأمر به فيُسقى الخدم، أو يهراق، وروى الشالنجي بإسناده عن النبي أنه قال: اشربوا العصير ثلاثا، ما لم يغل. وقال ابن عمر: اشربه ما لم يأخذه شيطانه. قيل: وفي كم يأخذه شيطانه؟ قال: في ثلاث. ولأن الشدة تحصل في الثلاث غالبا، وهي خفية تحتاج إلى ضابط، فجاز جعل الثلاث ضابطا لها.

ويَحتمل أن يكون شربه فيما زاد على الثلاثة إذا لم يغل مكروها غير محرم، فإن أحمد لم يصرح بتحريمه، وقال في موضع: أكرهه. وذلك لأن النبي لم يكن يشربه بعد ثلاث. وقال أبو الخطاب: عندي أن كلام أحمد في ذلك محمول على عصيرٍ الغالبُ أنه يتخمر في ثلاثة أيام.

مسألة: قال: (وكذلك النبيذ) يعني: أن النبيذ مباح ما لم يَغل، أو تأتيَ عليه ثلاثة أيام. والنبيذ: ما يُلقى فيه تمر أو زبيب أو نحوهما؛ ليحلو به الماء، وتذهب ملوحته، فلا بأس به ما لم يغل، أو تأتي عليه ثلاثة أيام؛ لما روينا عن ابن عباس. وقال أبو هريرة: علمت أن رسول الله كان يصوم، فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء ثم أتيته به، فإذا هو يَنِشُّ. فقال: اضرب بهذا الحائط؛ فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر رواه أبو داود. ولأنه إذا بلغ ذلك صار مسكرا، وكل مسكر حرام" انتهى.

وقال النووي في هذه الأحاديث دلالة على جواز الانتباذ وجواز شرب النبيذ ما دام حلوا لم يتغير ولم يغل، وهذا جائز بإجماع الأمة. وأما سقيه الخادم بعد الثلاث وصبه فلأنه لا يُؤمَن بعد الثلاث تغيره، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتنزه عنه بعد الثلاث. وقوله سقاه الخادم أو صبه: معناه تارة يسقيه الخادم وتارة يصبه، وذلك الاختلاف لاختلاف حال النبيذ، فإن كان لم يظهر فيه تغير ونحوه من مبادئ الإسكار سقاه الخادم ولا يريقه لأنه مال تحرم إضاعته ويترك شربه تنزها ، وإن كان قد ظهر فيه شيء من مبادئ الإسكار والتغير أراقه لأنه إذا أسكر صار حراما ونجسا فيراق ولا يسقيه الخادم لأن المسكر لا يجوز سقيه الخادم كما لا يجوز شربه. وأما شربه صلى الله عليه وسلم قبل الثلاث فكان حيث لا تغير ولا مبادئ تغير ولا شك أصلا. والله أعلم. اهـ.

المطلب الثالث: محبة النبي ﷺ لشرب النبيذ

روى مسلم برقم85- (2005) عن عائشة رضي الله عنها ، قالت: ((كنا ننبذ لرسول الله في سقاء يوكى أعلاه وله عزلاء، ننبذه غدوة فيشربه عشاء، وننبذه عشاء فيشربه غدوة)).

وروى مسلم برقم (1999)- قال أبو الزبير: وسمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، يقول: ((وكان رسول الله إذا لم يجد شيئا ينتبذ له فيه، نبذ له في تور من حجارة))

وروى مسلم برقم 86 - (2006) عن سهل بن سعد رضي الله عنه ، قال: دعا أبو أسيد الساعدي رضي الله عنه رسول الله في عرسه، فكانت امرأته يومئذ خادمهم وهي العروس، قال سهل: تدرون ما سقت رسول الله؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور، فلما أكل سقته إياه، ورواه البخاري دون آخره برقم 5183 .

المطلب الرابع: البعد عما يسبب التخمر للنبيذ

الفرع الأول: عدم خلط نوعين في نبيذ واحد

يكره خلط نوعين في نبيذ واحد، بحيث يُنبَذُ مِن البُسرِ والتَّمرِ مَعًا، أو مِنَ العِنَبِ والزَّبيبِ، أو منه ومِنَ التَّمرِ، ونحوُ ذلك ممَّا يُنبَذُ مُختَلِطًا؛ لأنَّه يُسرِعُ إليه التغَيُّرُ والإسكارُ ((القاموس المحيط)) للفيروزآبادي (ص: 666) لأنه علم بالعادة أن ذلك يسرع في تخمره وتغيره، وينظر ((المغني)) لابن قدامة (9/172).

ثبت عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ( مَنْ شَرِبَ النَّبِيذَ مِنْكُمْ فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيبًا فَرْدًا أَوْ تَمْرًا فَرْدًا أَوْ بُسْرًا فَرْدًا ) رواه مسلم ( 1987 ) .

وعن أبي قَتادةَ رَضِيَ الله عنه: ((أنَّ نبيَّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نهى عن خَليطِ التَّمرِ والبُسرِ، وعن خَليطِ الزَّبيبِ والتَّمرِ، وعن خَليطِ الزَّهوِ والرُّطَبِ، وقال: انتَبِذوا كُلَّ واحدٍ على حِدَتِه. أخرجه مسلم (1988).

وعن جابرٍ عن رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أنَّه نهى أن يُنبَذَ التَّمرُ والزَّبيبُ جَميعًا، ونهى أن يُنبَذَ الرُّطَبُ والبُسرُ جَميعًا. أخرجه مسلم (1986).

الفرع الثاني: سرعة شرب النبيذ فلا يترك ليتخمر

روى النسائي برقم : 5740 عن ‌نافع ، عن ‌ابن ‌عمر رضي الله عنهما أنه كان ينبذ له في سقاء الزبيب غدوة فيشربه من الليل، وينبذ له عشية، فيشربه غدوة، وكان يغسل الأسقية، ‌ولا ‌يجعل ‌فيها ‌درديا ‌ولا ‌شيئا. قال ‌نافع: فكنا نشربه مثل العسل.

وعن فيروز الديلمي رضي الله عنه قال: أتَيْنا النَّبيَّ ، فقُلْنا: يا رَسولَ اللَّهِ، قد عَلِمتَ مَن نحن، ومِن أينَ نحن، فإلى مَن نحن؟ قال: إلى اللهِ وإلى رَسولِه. فقُلْنا: يا رَسولَ اللَّهِ ، إنَّ لنا أعنابًا. ما نَصنَعُ بها؟ قال: زَبِّبوها. قُلْنا: ما نَصنَعُ بالزَّبيبِ؟ قال: انبِذوه على غَدائِكم واشرَبوه على عَشائِكم، وانبِذوه على عَشائِكم واشرَبوه على غَدائِكم، وانبِذوه في الشِّنانِ، ولا تَنبِذوه في القُلَلِ؛ فإنَّه إذا تأخَّرَ عن عَصرِه صارَ خَلًّا. أخرجه أبو داود (3710)، والنسائي (2681)بسند صحيح.

الفرع الثالث: التخلص من النبيذ بعد ثلاثة أيام إذا غلب على الظن تخمره

روى مسلم برقم 2004 عن ابن عباس رضي الله عنهما كانَ رَسولُ اللهِ يُنْتَبَذُ له أَوَّلَ اللَّيْلِ، فَيَشْرَبُهُ إذَا أَصْبَحَ يَومَهُ ذلكَ، وَاللَّيْلَةَ الَّتي تَجِيءُ، وَالْغَدَ وَاللَّيْلَةَ الأُخْرَى، وَالْغَدَ إلى العَصْرِ، فإنْ بَقِيَ شيءٌ سَقَاهُ الخَادِمَ، أَوْ أَمَرَ به فَصُبَّ.

الفرع الرابع: حرمة النبيذ إذا تخمر وأسكر

إذا وضع النبيذ في مكان شديد الحرارة، أو تعرض لما يسرع له التغير والتخمر، فإنه يحرم شربه، فقد ثبت عن أبي موسى رضي الله عنه قال: ((قلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أفْتِنا في شَرابَينِ كُنَّا نَصنَعُهما باليَمَنِ: البِتْعُ، وهو مِن العَسَلِ يُنبَذُ حتى يشتَدَّ، والمِزْرُ، وهو من الذُّرَةِ والشَّعيرِ يُنبَذُ حتى يشتَدَّ، قال: وكان رسولُ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد أُعطِيَ جوامِعَ الكَلِمِ بخواتِمِه، فقال: كلُّ مسُكرٍ حَرامٌ. أخرجه البخاري (6124)، ومسلم (1733) واللفظ له.

نسأل الله للجميع العافية والصحة الدائمة.

والحمد لله أولا وآخرا.