|
|
بسم الله الرحمن الرحيم
من الأسباب
التي تسبب الأزمات الاقتصادية الكبرى التعامل بالربا لقول الله تعالى:
"يمحق الله الربا ويربي الصدقات" وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:" الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قلٍّ"
رواه الحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع/3542.
وأسوأ أنواع الربا ربا الجاهلية بقلب الدين على المدين، مما يزيد المدين
فقراً، والدائن يتورط في النهاية بعد تسديد المدينين، فتنهار الشركات ثم
شركات التأمين ثم المصارف، كما حدث في أزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة.
ولكي يتبين لنا كيف تؤدي الفائدة إلى
تضاعف المديونية، دعنا نبدأ بالمثال الفرضي التالي. لنفرض أن هناك خمسة من
الأصدقاء قرروا أن يهاجروا إلى جزيرة نائية، وإقامة قرية صغيرة بها. سيعمل
كل منهم في حرفة تناسبه، إما زراعة أو احتطاب أو خِبازة أو نجارة أو رعي،
مثلاً. بعد فترة يسيرة، قرر صديق سادس، لا يُحسن أياً من هذه المهن، لكنه
يملك كمية كبيرة من الدنانير الذهبية، أن يصحبهم برهة من الزمن.
حينذاك، رأى كل واحد منهم أنه بحاجة إلى
شيء من النقود لكي يسهل عليه تداول إنتاجه مع أقرانه. فاقترض كل منهم، على
حدة، مئة دينار من صاحب الذهب. لكن هذا الأخير لم يقبل أن يقرضهم إلا
بفائدة. فاشترط على كل منهم فائدة قدرها 8%، بحيث يسدد كل منهم ما عليه من
الدين آخر العام، ثم يقترض حينئذ ما يحتاج إليه من النقود للعام الذي يليه.
قد تبدو الأمور طبيعية إلى هذا الحد.
لكن حقيقة الأمر أن شرط المرابي ممتنع التحقيق. لماذا؟ لأن مجموع الدنانير
القابلة للتداول في القرية في العام الأول لا يتجاوز خمسمئة دينار، هي
مجموع ما أقرضه المرابي لكل منهم. لكن في آخر العام يجب على كل منهم أن
يسدد 108 دنانير، أي يجب أن يعود إلى المرابي مبلغ 540 ديناراً. وهذا
مستحيل، لأن مجموع الدنانير لا يتجاوز 500 كما
تقدم. أي أن المرابي يريد
من أهل القرية 40 ديناراً يعجزون عن دفعها. ما الذي سيحصل إذن؟
سيحصل
أن بعض هؤلاء المقترضين لن يكون بإمكانه سداد أصل الدين مع الفائدة
المطلوبة، وإنما سيسدد بعضَ الدين. فلكي يتمكن ثلاثة منهم مثلاً من سداد
الأصل مع الفائدة، فالمبلغ الذي سيعجز عنه الاثنان الباقيان هو مجموع
الفائدة التي دفعها الثلاثة. وذلك لأن مجموع ما يسدد من القروض لا بد أن
يقف عند 500، لأن هذا هو مجموع الدنانير التي بأيديهم، وليس في القرية
غيرها أصلاً. فإذا تمكن ثلاثة من دفع 108 (المجموع = 324) فلن يتبقى من
الخمسمئة سوى 500 - 324 = 176 ديناراً. فإذا افترضنا أن الاثنين الآخرين
تساويا في توليد الدخل، فسيكون ما يسدده كل منهما هو النصف = 176/2 = 88.
فما عجز هذان عن سداده من أصل الدين يساوي مجموع الفائدة التي دفعها
الثلاثة، وهو 24.
ولكن المرابي لن يرضى بأقل مما اشترطه
عليهم. فماذا سيفعل؟ سيقرضهم في نهاية العام مزيداً من الدنانير، ليسددوا
بها ما عجزوا عن سداده في المرة الأولى، بالإضافة إلى ما يحتاجونه ليتمولوا
للعام القادم. وقد يتمكن هؤلاء من سداد كامل الدَين مع الفائدة هذه المرة،
لكن في المقابل سيعجز آخرون عن ذلك. وحينئذ فلا بد لهؤلاء من مزيد من
الاقتراض، وهكذا.
وبذلك فإن
مجموع مديونية القرية للمرابي يزيد كل عام ولا بد. ففي السنة الأولى كانت
المديونية 540، سُدد منها 500 وبقي 40. وفي السنة الثانية سيقرض المرابي
القرية ما مجموعه 540، وسيطالبهم بفائدة 8% على المجموع، أي 43.2، فتصبح
القرية مدينة بما مجموعه 543.2، بعد خصم الأربعين المستحقة من العام
السابق. وهكذا تتزايد المديونية، والسر في ذلك بسيط: وهو أن المرابي يطالب
القرية بدفع دنانير لا توجد في حوزتهم أصلاً.
وتوضيحا
لذلك، لنذكر هذا الحوار الذي تم بين "جيكاران"
J. Jaikaran،
صاحب: "فيروس الدَين" (Debt
Virus)،
المطبوع سنة 1992م، وأحد الاقتصاديين، حيث قال له:
إذا كانت النقود تنشأ من خلال ديون، مِن
أين يمكن سداد الفائدة المترتبة عليها؟ ولكن دون جدوى. وكانوا في جلسة
عشاء، فقدم جيكاران للاقتصادي كأساً يحتوي خمسة أونصات من الماء. ثم قال:
"لنفترض أن هذا الكأس يتضمن كل الماء في الوجود. سأعطيك أونصتين من هذا
الماء، وسأطلب منك أن ترد ثلاثة أونصات. وتذَكَّر أنه لا يوجد في الوجود
مصدر آخر للماء". فأجاب: "ولكنك أعطيتني أونصتين فقط. ومن الممتنع
فيزيائياً أن أردها لك ثلاثة!".
فقال جيكاران: "هذا هو الجواب بالضبط."
علق الاقتصادي حينئذ بقوله: "إذا كانت
كل النقود في الولايات المتحدة أُصدرت على صورة دَين، فما تذكره وجيه". ثم
استطرد: "مصادر خلق النقود
money creators، أعني
البنك الاحتياطي الفيدرالي والبنوك التجارية ومؤسسات الادخار، تخلق نقوداً
من خلال إقراضها للحكومة وللقطاع الخاص، وهما بدورهما يضخانها في الدورة
الاقتصادية. يترتب على ذلك أنه إذا كان هناك قِلّة قادرون على سداد ديونهم،
فالفائدة التي سيدفعونها لا بد أن تأتي على حساب مقترضين آخرين في
الاقتصاد. وهذا يؤدي إلى أنه في لحظة ما لا بد من إفلاس البعض، لأنه من
الممتنع أن يسدد الجميع ديونهم. أليس كذلك؟"
فأجاب جيكاران: "بالتأكيد".
ولهذا السبب نجد المديونية لدى أغلب
الدول في ازدياد مستمر، كما أن الكتلة النقدية أيضاً في نمو مطرد. بالإضافة
إلى ذلك فإن التقلبات الاقتصادية، الناتجة عن حتمية إفلاس البعض، والتضخم،
الناتج عن زيادة الكتلة النقدية، أضحتا من سمات الاقتصاد المعاصر.
وبذلك يظهر معنى قوله تعالى {يا أيها
الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم
تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله}. فلا غرابة أن نرى التقلبات الاقتصادية
تعصف بالمجتمعات الرأسمالية، ومعدلات البطالة في تزايد مطرد، وصعوبة الحياة
تتفاقم، بشهادة الاقتصاديين الغربيين أنفسهم، قبل شهادة غيرهم. فهذه الحرب
إحدى المعاني التي تضمنها الوعيد الإلهي في سورة البقرة. وبالرغم من أن
الآية تتضمن أسراراً أخرى بلا ريب، فإن ظهور هذا المعنى يمثل بالنسبة
لكثيرين بُعداً جديداً في فهم آيات الربا، تتجلى من خلاله عظمة الحكمة
الإلهية وكمال التشريع الرباني.