*ظاهرة التشكيك في تحريم ربا البنوك*

*ظاهرة التشكيك في تحريم ربا البنوك*

كتبه: عبدالعزيز الدغيثر في ٤/ ٦/ ١٤٤٧

 
بسم الله الرحمن الرحيم

 

قرأت بعض الكتابات في التشكيك في موقف فقهاء المسلمين المصادم للتعاملات البنكية الربوية، ويتضمن ذلك السخرية من فهم الفقهاء المعاصرين والتشكيك في فهمهم للواقع وفي تطبيق الشريعة على الواقع، ويظن البعض أنه بحصوله على شهادات عليا في الاقتصاد فإنه قد بلغ الغاية في الفهم للواقع.

 

وتعليقي على ذلك:
 

أولا: التعاملات في البنوك من القرض الذي يشترط سداده بزيادة، كل زيادة مشروطة في القرض فهي ربا، أياً كانت المادة محل القرض، سواء كانت من النقود أو المعادن أو غيرها. وقد صرح بهذا الإجماع ابن المنذر وابن قدامة وشيخ الإسلام رحمه الله في كتابه: تفسير آيات أشكلت (ص 668).

 

ثانيا: أن التشكيك في الفرق بين التمويل بالبيع بالآجل والقرض بفائدة ربوية هو ذاته قول المعاصرين لنزول الوحي، قال ابن تيمية في(بيان الدليل، ص 196-197، دار ابن الجوزي): حتى بلغني عن بعض المرموقين أنه كان يقول: لا أدري لم حرم الربا، ويرى أن القياس تحليله، وإنما يعتقد التحريم اتباعاً فقط. وهذا المعنى الذي قام في نفس هذا هو الذي قام في نفوس الذين قالوا: ﴿إنما البيع مثل الربا﴾، فليعزّ مثلُ هذا نفسَه عن حقيقة الإيمان والبصر في الدين، وإن لم يكن عن هذه المصيبة عزاء. وليتأمل قوله تعالى: ﴿الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذين يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا﴾، فلينظر هل أصابهم هذا التخبط الذي هو كمسّ الشيطان، لمجرد أكلهم السحت، أم لقولهم الإثم مع ذلك، وهو قولهم: إنما البيع مثل الربا؟ فمن كان هذا القياس عنده متوجهاً وإنما تركه سمعاً وطوعاً، ألم يكن هذا دليلاً على فساد رأيه ونقص عقله وبعده عن فقه الدين؟”.

 

ثالثا: لا شك أن من الأسباب التي تسبب الأزمات الاقتصادية الكبرى التعامل بالربا، وبرهان ذلك في قول الله تعالى: "يمحق الله الربا ويربي الصدقات" وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال قال رسول الله ﷺ :" الربا وإن كثر فإن عاقبته إلى قلٍّ" رواه الحاكم وصححه الألباني في صحيح الجامع/3542. وأسوأ أنواع الربا ربا الجاهلية المنتشر في البنوك بقلب الدين على المدين، مما يزيد المدين فقراً، والدائن يتورط في النهاية بعد تسديد المدينين، فتنهار الشركات ثم شركات التأمين ثم المصارف، كما حدث في أزمة الاقتصادية العالمية الأخيرة.

ولكي يتبين لنا كيف تؤدي الفائدة إلى تضاعف المديونية، دعنا نبدأ بالمثال الفرضي التالي. لنفرض أن هناك خمسة من الأصدقاء قرروا أن يهاجروا إلى جزيرة نائية، وإقامة قرية صغيرة بها. سيعمل كل منهم في حرفة تناسبه، إما زراعة أو احتطاب أو خِبازة أو نجارة أو رعي، مثلاً. بعد فترة يسيرة، قرر صديق سادس، لا يُحسن أياً من هذه المهن، لكنه يملك كمية كبيرة من الدنانير الذهبية، أن يصحبهم برهة من الزمن.

حينذاك، رأى كل واحد منهم أنه بحاجة إلى شيء من النقود لكي يسهل عليه تداول إنتاجه مع أقرانه. فاقترض كل منهم، على حدة، مئة دينار من صاحب الذهب. لكن هذا الأخير لم يقبل أن يقرضهم إلا بفائدة. فاشترط على كل منهم فائدة قدرها 8%، بحيث يسدد كل منهم ما عليه من الدين آخر العام، ثم يقترض حينئذ ما يحتاج إليه من النقود للعام الذي يليه.

قد تبدو الأمور طبيعية إلى هذا الحد. لكن حقيقة الأمر أن شرط المرابي ممتنع التحقيق. لماذا؟ لأن مجموع الدنانير القابلة للتداول في القرية في العام الأول لا يتجاوز خمسمئة دينار، هي مجموع ما أقرضه المرابي لكل منهم. لكن في آخر العام يجب على كل منهم أن يسدد 108 دنانير، أي يجب أن يعود إلى المرابي مبلغ 540 ديناراً. وهذا مستحيل، لأن مجموع الدنانير لا يتجاوز 500 كما تقدم. أي أن المرابي يريد من أهل القرية 40 ديناراً يعجزون عن دفعها. ما الذي سيحصل إذن؟

سيحصل أن بعض هؤلاء المقترضين لن يكون بإمكانه سداد أصل الدين مع الفائدة المطلوبة، وإنما سيسدد بعضَ الدين. فلكي يتمكن ثلاثة منهم مثلاً من سداد الأصل مع الفائدة، فالمبلغ الذي سيعجز عنه الاثنان الباقيان هو مجموع الفائدة التي دفعها الثلاثة. وذلك لأن مجموع ما يسدد من القروض لا بد أن يقف عند 500، لأن هذا هو مجموع الدنانير التي بأيديهم، وليس في القرية غيرها أصلاً. فإذا تمكن ثلاثة من دفع 108 (المجموع = 324) فلن يتبقى من الخمسمئة سوى 500 - 324 = 176 ديناراً. فإذا افترضنا أن الاثنين الآخرين تساويا في توليد الدخل، فسيكون ما يسدده كل منهما هو النصف = 176/2 = 88. فما عجز هذان عن سداده من أصل الدين يساوي مجموع الفائدة التي دفعها الثلاثة، وهو 24.

ولكن المرابي لن يرضى بأقل مما اشترطه عليهم. فماذا سيفعل؟ سيقرضهم في نهاية العام مزيداً من الدنانير، ليسددوا بها ما عجزوا عن سداده في المرة الأولى، بالإضافة إلى ما يحتاجونه ليتمولوا للعام القادم. وقد يتمكن هؤلاء من سداد كامل الدَين مع الفائدة هذه المرة، لكن في المقابل سيعجز آخرون عن ذلك.