{إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}

الدكتور عصام بن هاشم الجفري

 
الحمد لله فالق الحب والنوى،خلق وبرى،{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى}(1).أحمده سبحانه وأشكره جعل بعد العسر يسرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له يبتغى ولا ند له يرتجى وأشهد أن نبينا وحبيبنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله الحبيب المصطفى والنبي المجتبى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأطهار الحنفاء.
أما بعد:فاتقوا الله عباد الله تحوزوا على خيري الدنيا والآخرة قال الله في محكم التنزيل:{..وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا(2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}(2).
معاشر المؤمنين ما من رجل أو امرأة يسير على الأرض إلا وقد مربه هم أو حزن أو هو يكابد هماً وحزناً ؛ فهناك من يحمل هم لقمة العيش وهناك من يحمل هم تربية أبنائه ومستقبلهم وهناك من يحمل هم مرض زوجته ، وهناك من يحمل هم والديه وهناك من يحمل هم الإيجار،وهناك من يحمل هم فاتورة الكهرباء،وهناك من يحمل هم الديون التي تراكمت عليه،وهناك من يحمل هم مرض يكابده،وهناك من يحمل هم من ضل عن سبيل الله كيف يعيده لطريق الهدى،وهناك من يحمل هم أمة الإسلام ودماؤها التي تسفك ليل نهار،وأعراضها التي تنتهك،وهناك من يحمل هم إفساد المرأة المسلمة،وهناك من يحمل هم الكيد للدعاة والمصلحين!.
وهكذا فقائمة الهموم طويلة والذي لا يحمل هماً لعظائم الأمور سيحمل هم سفاسفها،فما هو موقف المسلم من تلك الهموم والغموم؟.هل يستسلم لها؟.لا.إنه متى ما استسلم لتلك الهموم والغموم انزوى وعلى نفسه انطوى، وهذا يفاقم الأمر حتى يؤدي عياذاً بالله إلى تدمير المستسلم نفسياً وبالتالي مادياً ومعنوياً.فكيف يتعامل المسلم مع تلك الهموم والغموم؟.
شرع الإسلام للتعامل معها أمور من أبرزها:الحرص على الوقاية منها وقد كان خير البرية صلوات ربي وسلامه عليه يدعو بهذا الدعاء:((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْبُخْلِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ))(4).الإيمان بالقضاء والقدر:{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(3). فكل ما أصاب الإنسان قد كتب عليه في الكتاب من قبل فعليه أن يرضى وأن يسلم وتأملوا أحبتي معي ختام الآية الرائع {وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}(3).
لكن هل يعني الإيمان بالقضاء والقدر أن يستسلم الإنسان للمصيبة ولا يسعى في دفعها؟.فلو أصاب إنساناً فقرٌ هل يستسلم له ولا يسعى في طلب الرزق والغنى؟.لا فليس هذا مقصود الإسلام،فالتسليم بالقضاء والقدر لا يعني الاستسلام الذي يوصل للهزيمة النفسية،إنما هو التسليم الذي لا يجعل المصيبة تفقد المرء صوابه وبالتالي يكون متزناً يستطيع التصرف بحكمة،وإذا وقعت المصيبة على المسلم أن يستحضر أنها ليست شراً محضاً فلابُدَّ أن فيها خيراً،وأعظم ذلك الخير الأجر الذي يحصل عليه فقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله:((مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ))(5).ثم الصبر على تلك المصيبة قال تعالى في شأن الصابرين {..إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}(الزمر :10).وقال صلى الله عليه وسلم :((عِظَمُ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السُّخْطُ))(ابن ماجاة ،الفتن،ح(4021)).هذا الصبر يحتاج إلى إن يمزج بالفزع إلى مدبر الأكوان جل جلاله ومن بيده الأمر كله من خلال الصلاة فهي وصفة ربانية وصفها الله لنا عباده المؤمنين فقال:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}(9). وبيَّن دور الصلاة في تهذيب سلوك المؤمن حال المصيبة بقوله:{إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا(19)إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا(20)وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا(21)إِلَّا الْمُصَلِّينَ}(10).وهكذا كان هدي قدوتن صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة لأنها صلة العبد بربه فمنه ينتظر الفرج وبها تسكن النفس وتطمئن،ثم التفاؤل بانكشاف الغمة وقرب الفرج لقول الله رب العالمبن:{فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا(5)إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}(6).
فلكل مؤمن صادق يحمل هم الأمة الإسلامية ويتفطر ألماً لما يحدث لها نقول له ابشر فإن النصر قريب وإن مع العسر يسرا،أخرج الإمام مالك في موطأه عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ قَالَ كَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَذْكُرُ لَهُ جُمُوعًا مِنْ الرُّومِ وَمَا يَتَخَوَّفُ مِنْهُمْ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ مَهْمَا يَنْزِلْ بِعَبْدٍ مُؤْمِنٍ مِنْ مُنْزَلِ شِدَّةٍ يَجْعَلْ اللَّهُ بَعْدَهُ فَرَجًا وَإِنَّهُ لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)).وقد بين الله لنا قاعدة ربانية خالدة إلى يوم القيامةوهي أن النصر يسبقه تمحيص واختبار وابتلاء قال سبحانه:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ}(7).وقال جل جلاله:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}(8).
روح التفاؤلِ بالنصرِ والتفاؤلِ بالفرجِ ثقةً بوعدِ الله هي عنصرٌ أساسٌ وحاسمٌ في حياة المؤمن ولنا في رسولنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة فهاهو يخرج من مكة مطارداً من قريش في حال لا يعلمها إلا الله ومع ذلك يعد سراقة بسواري كسرى،وهاهم المؤمنون في شدة وكرب في غزوة الخندق وقد رماهم العرب عن قوس واحدة وأخذ منهم الجوع مأخذه ومع ذلك يبشرهم الحبيب صلى الله عليه وسلم بفتح فارس والروم أكبر دولتين على وجه الأرض في ذاك الزمان!.
وقد يقول قائل ما بالنا نرى البلاء يحل ببعض أهل الدين والصلاح؟.فأقول:ليس البلاءُ من عدمه المعيارَ الوحيدَ على رضى الله أو سخطه وقد قال صلى الله عليه وسلم :((إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءَ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ))(11).وهكذا يبتلى العبد المؤمن في الدنيا ليرفع الله درجاته في الجنان،ثم إن الابتلاء ليس بالشر فقط ولكن قد يكون الابتلاء بالخير والنعمة والمال والجاه والسلطان. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{الم(1)أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2)وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ}(12).{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}(12).

الخطبة الثانية

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمابعد:فاتقوا الله عباد الله واعلموا أن على العبد أن يسعى لدفع المصيبة عن نفسه فمن أصيب بمرض فعليه أن يسعى في طلب الدواء ،ومن أصيب بفقر عليه أن يسعى لطلب الغنى بالطرق المشروعة والنية الحسنة وليعلم أن الله معه سيسدده ويوفقه طالما كان لله متقياً وعليه متوكلا،أيها الأحبة في الله وإن مما ينبغي التنبيه عليه ما يتبادر للعامة من أن المصائب حصر على موت عزيز أو فقد مال أو منصب أو نحو ذلك،فأقول لا والله إن المصيبة العظمى والرزية الكبرى هي مصيبة الدين،أن يضعف دين المرء فلا يميز بين الحق والباطل و بين المعروف والمنكر وأن يجترئ على محارم الله فيرتكبها وقد يتلذذ بها عياذاً بالله،المصيبة موت القلب فلا يتأثر بقرآن يتلى ولا بموعظة تقال،المصيبة تبلد الإحساس تجاه ما يصيب الأمة الإسلامية فلا يشعر أنه واحد منها وأن عليه واجب السعي لنصرة دين الله والدعوة إليه،المصيبة أن تفوته تكبيرة الإحرام أوتفوته الصلاة كاملة فلا يهتم ولا يهتز،المصيبة أن يفوته الصف الأول في المسجد فلا يلقي لذلك بالاً،المصيبة أن يتبرج نساؤه فلا تتحرك غيرته،فلينظر كل منا ما هي المصيبة التي أصيب بها وليسعى في الخروج منها. واسمعوا لوصية أخيرة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ صَانُوا الْعِلْمَ وَوَضَعُوهُ عِنْدَ أَهْلِهِ لَسَادُوا بِهِ أَهْلَ زَمَانِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ بَذَلُوهُ لِأَهْلِ الدُّنْيَا لِيَنَالُوا بِهِ مِنْ دُنْيَاهُمْ فَهَانُوا عَلَيْهِمْ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صلى الله عليه وسلم :((يَقُولُ مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا هَمَّ آخِرَتِهِ كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ فِي أَحْوَالِ الدُّنْيَا لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهَا هَلَكَ))(14).

-------------
(1) طـه: 6.(2) الطلاق: 3.(3) التغابن: 11.(4)البخاري،الدعوات،ح(5829).(5)البخاري،المرضى،ح(5210).(6) الشرح: 6.(7) لبقرة: 214.(8) آل عمران: 142.(9) البقرة: 153.(10) المعارج: 22.(11)أحمد، المسند،باقي مسند الأنصار ، ح(25832).(12) العنكبوت: 3.(13) الأنبياء: 35.(14)ابن ماجة ،للمقدمة،ح(253).