|
بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
أصحاب هوى وليسوا عقلاء
العقل يعمل في ثلاث مناطق :
الأولى : قبل التوحيد .. قبل الإيمان .
الثانية : بعد الإيمان وقبل الحكم الشرعي .
الثالثة : بعد الحكم الشرعي تحقيقاً للمناط .
الأولى : قبل الدخول في الدين .. قبل أن يعلن صاحبه التوحيد ، يُخاطَبُ
العقلُ بالشريعة الإسلامية ، فحين ندعو الناس نحدثهم بما يعقلون ، ويكون
الخطاب هنا في اتجاهين ، أو ذا قسمين :
الأول : خطاب عام يتناسب مع الفطرة البشرية ، وهو الخطاب الذي يتحدث عن
الله سبحانه وتعالى وعز وجل ، وكيف أنه خلق ورزق وأحيا وأمات ، وأنه أعد
ناراً للعاصين ، وجنةً للطائعين ، وأنه قد خلت سنة الأولين ، ولن تجد لسنة
الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً ، فالمتأخرون على درب الأولين إن
آمنوا أو كفروا . ولا يظلم ربك أحداً .
وهذا خطاب إيجابي .. طرح إيجابي يتفق مع كل ما في الأرض
الثاني من الخطاب العقلي قبل الإيمان : نقد لما انطوت عليه الصدور .
وجهدي في أن أعرض عليك المعاني في صورة بهية ، تسر بها وتسكن لها ، وحتى ..
دعني أقدم بهذه المقدمة الصغيرة :
مقدمة : من المسلمات عند من يدرسون ( التفكير ) أو ( التعقل ) و ( التفكر )
و ( التدبر ) أو ( السلوك ) .. الخ .. من المسلمات عندهم أن المعارف تبدأ
بالإدراك ، ثم بالتفكر فيما يُدرك ، والإنسان غالباً يفكر بالصور ، ولذا
اهتم القرآن بالتخييل والتصوير ، ثم يتولد شعور تجاه ما يفكر فيه ، إن كان
هذا الشعور قوياً تندفع الجوارح ( ومنها اللسان ) للسير في الاتجاه الموافق
لهذا الشعور . وإن كانت الأحاسيس المتولدة من هذه المعرفة ضعيفة بقيت حرجاً
في النفس ولا تُوجه السلوك .
فكل ( سلوك ) أو ( فعل ) خلفه أحاسيس داخلية ، تولدت من معارف سمعية أو
بصرية أو غيرهما .
والخطاب الشرعي في دعوته للناس اعتنى بإيجاد المعارف الصحيحة ، وتصحيح
المعاني الخاطئة ، فكل ( عقلٍ ) له في الشرع خطابان ، خطاب يعرفه بالله ـ
سبحانه وتعالى وعز وجل ـ ومن عرف الله فلن يعصيه ، وخطاب آخر ينقد ما انطوى
عليه صدره من مفاهيم خاطئة أدت إلى سلوكٍ خاطئ .
أريد أن أقول :
في الوحي : لفتُ نظرٍ قوي لكل الناس أن يتعرفوا على خالقهم ـ سبحانه وتعالى
وعز وجل ـ ، وماذا أعد للطائعين وبم توعد العاصين ، وكيف حال السابقين ،
الطائعين منهم والعاصين . لفتُ نظر إلى إدراك حقائق كونية عن الله ـ سبحانه
وتعالى وعز وجل ـ كيف أنه الخالق الرازق المحي المميت العليم الحكيم ، الذي
قوله الفصل وله الحكم ...
وهو ما يعرف في الاصطلاح العقدي بتوحيد الربوبية والأسماء والصفات أو (
التوحيد العلمي الخبري ) أو ( توحيد المعرفة والإثبات ) . وهو مقدمة لتوحيد
الألوهية ( توحيد الإرادة والطلب ) ( توحيد القصد والطلب ) أو ( الحاكمية
والولاء والبراء والنسك ) في عرفِ قومٍ.
وفي الوحي للذين لم يؤمنوا خطابٌ عقلي آخر ، ينقد ما استقر في عقولِ هؤلاء
من معارف خاطئة عن الله ـ سبحانه وتعالى وعز وجل ـ .
فمثلاً النصارى حين يعرض عليهم الإيمان ، يخاطبون بخطابين ، بالخطاب الأول
، الذي يحدثهم عن الله ـ سبحانه وتعالى وعز وجل ـ ويخاطبون بخطابٍ ثانٍ
ينقد ما استقر عندهم من مفاهيم خاطئة .عن المسيح ـ عليه السلام ـ وأمه ،
وعن أحبارهم ورهبانهم ، وكتابهم .
نناقشهم في ( بولس ـ شاؤول ) نبين كذبَ قصةِ إرسالهِ ، وتعارض دعواه مع ما
نسب للمسيح ـ عليه السلام ـ من تعاليم في كتابهم هم ، ونبين أن هذه الملة
استقرت بعد قرون من رفع المسيح ـ عليه السلام ـ فليست دينَ المسيح عليه
السلام ، ونبين أن هذه الكتب في أحسن أحوالها لا يُعرف مَن كاتبها ، وأنها
أخذت القداسة من بشر ( المجامع ) فلم يقدسها الله ، وليس ثمة ضوابط تجعل
بينها وبين غيرها من كلام الناس فرقاً .
هكذا نصحح الإدراك ، لتتغير الأحاسيس ، وتتبع الجوارح .
هكذا يخاطب هذا العقل المنحرف . بما يعرفه ويقر به . ندخل في إدراكه ونظل
فيه حتى تتولد أحاسيس مناسبة ويستقيم السلوك .
وكذا قريش ، نالها خطابٌ عقليٌ آخر غير الحديث عن الله سبحانه وتعالى وعز
وجل ، وهو : حديث عن أصنامها وكيف أنها لا تنفع ولا تضر ، وكيف أن حال من
يدعوها كالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً . ( غفلة للمدعو وسفه في
عقل الداعي إذ دعا من لا يسمعه .. من لا يستجيب له )
والملحدون ، والعلمانيون ، وكل المخالفين ممن هم على غير الملة . نقف على
رأسهم بحديثين ، نذكرهم بأن الله أحكم الحاكمين ، قوله الحق وله الحكم ،
يعلم وهم لا يعلمون ، خلق ورزق وأحيا وأمات ، وقد مضت سنة الأولين ، وإنها
نار تلظي ، وجنة تجري من تحتها الأنهار ، والدنيا لا يصفو نعيمها ولا يهنأ
طالبها .
ونقف على رأسهم ننقد دينهم ليهلك من هلك عن بينة ويحى من حي عن بينة .
المنطقة الثانية التي يتواجد فيها العقل : بعد الإيمان وقبل الحكم الشرعي .
حين يخاطب العقل بالحكم التكليفي له أن يناقش الدليل ، يسأل عن الدليل ،
ويسأل عن صحة الدليل . أو يناقش الدلالة والاستدلال .
المنطقة الثالثة التي يتواجد فيها العقل : بعد الحكم الشرعي . تحقيقاً
للمناط .
حين يثبت الدليل ، وبالتالي الحكم التكليفي ، يعمل العقل أيضاً .. يعمل في
المناط . مثلاً ، نقول القاتل عمداً يقتل ، فيعمل العقل : هل الحالة هذه هي
قتل عمدٍ أم لا ؟!
وحين نقول الحركة الكثيرة تبطل الصلاة . هذا حكم شرعي . يسأل العقل عن
الدليل ، ويستبين المناط : هل تحرك المصلي كثيراً فينطبق عليه الحكم أم
لا؟.
ليسوا عقلاء وإنما أصحاب هوى
حين تتدبر النقاشات التي حول النص الشرعي بدعوى العقل تجد أنها تحوم حول
الحكم الشرعي ، تقف في وجه لترده ، تجدهم يجادلون في المسلمات الشرعية ،
مثل الحدود ، تجدهم حول ما أحل الله يريدون أن يحرموه ، وحول ما حرم الله
يريدون أن يحلوه ، ويركبون العقل .
وما ذا بعقل . إنه الهوى ، وإنهم أصحاب هوى وليسوا عقلاء .
أبو جلال / محمد جلال القصاص
ظهر الجمعة 14 / 2 / 1431