جَلَسَ إليه يُعلمه .. ينصحه ويرشده !
: أي بني أتعبت بدني لراحتك ، وحرمت نفسي لأعطيك ..من أجلك سهرت الليالي فاسمع
مني ولا تعصيني.
خالد : مُرْ أبتي أسمع وأطع ، وأكون كما تحب ، فرضاك يرضي ربي .
الأب : أي بني ! اليوم - بفضل الله - نجحت وتفوقت ، وغداً تترك الريف وتذهب إلى
المدينة وفيها ..
خالد : علّك خفت علي من الانحراف ومصاحبة أهل الهوى ؟
الأب : لا يا بني ليست هذه !! ، فأنت مني ، مثلك لا ينظر إلى الحرام ، ولا يرضى
بمجاراة اللئام . من غير هذا أخاف عليك .
خالد : من غير هذا تخاف علي ؟!!
الأب : أصحاب باسم الدين يكلمونك : اجلس إلينا ساعة فإن اقتنعت وإلا رحلنا عنك
من الساعة .
خالد : كلام طيب وحري أن يسمع .
الأب : أبني أما قلت أنك لن تعصيني ؟! ورضاي من الدين ؟! . فأصغ إلي فأنا لك
ناصح أمين ُ.
هم قوم أتوا بجديد لا نعرفه خالفوا عاداتنا وتقاليدنا ، خطئوا آبائنا وكبرائنا
.
أرادوا للمرأة أن ترتدي الجلباب ، وتمشي تجر بثوبها في التراب ، وتنعزل فلا
تجالس الأحباب . وتطاولوا على السادة الأولياء .. البدوي والحسين حفيد سيد
الأنبياء .. رموا محبيهم بالشرك والابتداع .
ثم تطاولوا على القيادات المهيبة قالوا : إنها عميلة .. تحكم شرعة الكفر وتنشر
الرذيلة .. تحب النصارى .. تناصر شارون وقبيلة .. تطأ على صدر الدعاة بقدم
ثقيلة .. تلبس الأمة ثوب ذل طويلة .
ثم تنادوا للتفاني .. أرادوا القتل للرجال .
خالد : أرادوا القتل للرجال ؟!!
الأب : يريدون الحرب هنا وهناك ، في فلسطين وفي كشمير وفي العراق .. في الصومال
وفي الشيشان .
ويابني بساعدي هاتين حاربت من أجل فلسطين أعواما وأعوام ، وما ذا جنينا من
الحرب سوى الدمار والخراب ، ولو أن في الحرب رجاء ما جلس دونها الزعماء ، فدعك
ثم دعك من دعوى الجهاد .. أريدك طبيباً تشخص الداء وتصف الدواء ، وترفع عن أبيك
ثقل الدين فقد كثر العناء ، وارحم شيبتي أن يصفعها مقبوح ذو غباء ، وارحم أمك
أن يطأ بيتها عديم الحياء .
وإن أبيت فالمقام في السجون ، وهناك كل ظلام غشوم ، هناك من هول ما ترى تزيغ
منك العيون ، هناك يصير الموت أمنية .. يصير الموت حنون .
خالد : يصير الموت حنون ؟!!
الأب : يصير الموت حنون .
خالد : يا أبت أنا لا أريد أن أعيش محطما في زحمة الآلام والأشجان ، وتضيع
أحلام الصبا في السجن بين الجدران ، ويحمل ظهري ما ليس له على طول الدهر سلوان
، واترك أمي تكتم حسراتها ألماً تواريه عن الجيران ، فمر أبتي فبعون الله
متفقان .
الأب : دعك من كل الجماعات ... من بدعوا أو فسقوا أو كفروا الحكومات .. من
أرادوا ذبحك بدعوى تحرير المقدسات ، والزم كتاب الله فبه ترفع الدرجات ، وإن ثم
آخر فسيرة الحبيب خير البريات .
ذهب خالد إلى الجامعة ، كان أول يوم طويل امتدت الدراسة حتى كادت الشمس أن تغرب
، اليوم الاثنين وخالد صائم فحدث نفسه بالمشي كي يردد الأذكار ، وفي الطريق سمع
صوت الآذان ، فذهب إلى مسجد ليصلي . على باب المسجد كتب " مسجد أهل السنة " وقف
خالد برهة يفكر ، ولكن أسرع به الظمأ ورغبة الوقوف في الصف قبل التكبير.
خالد : ما أجمل هذا المسجد ، أشعر فيه بسكينة لم أشعر بها من قبل .. الوجوه
طيبة يعلوها بهاء الإيمان . ومن هذا ؟ ولم يوزع التمر ؟ أهم مثلي صائمون ؟
صائمون أو غير صائمييون ، أريد بعض التمرات فقد بلغ مني الجوع مبلغاً .
اقترب خالد ممن يوزع التمر ، شاب ذو لحية ، حسن المحيا ، يعلوه بهاء الإيمان
،أعطى خالداً تمراً ودعى له بالقبول .
انقضت الصلاة . دار خالد في المسجد فإذا إعلان عن درس في السيرة فقال : ما
حذرني أبي من سماع السيرة إذاً لآتينه .
وفي الدرس تحدث الشيخ عن قلب قريش للحقائق ، كيف أنهم كانوا يتهمون رسول الله
صلى الله عليه وسلم بالسحر والكذب وهم مستيقنون من صدقه . كيف أنهم كانوا
يحرضون الطفيل ، وقالوا له مثل ما قال أبو خالد لخالد ، ولكن الطفيل أبى إلا
تحكيم عقله ، وخير من الطفيل - فيما يرى خالد - سعد بن معاذ رضى الله عنه فقد
عدا إلى مصعب يريد طرده أو قتله وعاد من عنده مسلماً .
خالد : ما أجمل الإنصاف .. ما أجمل الجلوس في حلق العلم .. وما أجمل صحبة هذه
الوجوه الطيبة .
كلمات الشيخ الواعظ أذهبت كلمات الشيخ الهرم ، فقد أقسم خالد ليحضرن كل الدروس
.
ومرت أيام وكلمات الشيخ لا تزال تترد في أذن خالد .. جلس يحدث نفسه .
خالد : لم حرص أبي - ولا بد أن كثير مثله - على السلامة هكذا ؟
اعتاد خالد حضور الدروس .. ألف بعض الوجوه ، وذات يوم بين المحاضرات وجد وجهاً
طيباً .. اقترب منه .. سلم عليه ، جلس إليه يحدثه .. دار حوار وحوار . سأله عبد
الله : لم تحيا يا خالد ؟ .. ما ذا تتمنى في هذه الحياة ؟
خالد : التفوق الدراسي ثم العمل ومساعدة الأهل ، ثم الزواج .
عبد الله : ثم ماذا يا خالد ؟
خالد : ثم ماذا ؟! لا أدري أكمل حياتي كباقي الناس .
عبد الله : كل الناس نسوا أو تناسوا ما خلقوا من أجله وانشغلوا بالدنيا .
يا خالد خلقنا الله لعبادته "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون "
خالد : أنا أصلي وأصوم وهكذا جل من أعرف .
عبد الله : هذه من العبادة وليست كل العبادة . كل شيء من العبادة يا خالد ،
والعبادة في كل شيء يا خالد .ودراستنا هذه سبب نطلب به الرزق ، وليست غاية ،
وهي وسيلة لعمارة الأرض التي أمرنا الله بها .
ويا خالد " المسلمون أمة واحدة ،تتكافأ دمائهم ويسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على
من سواهم " كما أخبر الحبيب صلى الله عليه وسلم . ويا خالد جال أهل الإلحاد على
أهل الإيمان .. في البلقان .. في الشيشان .ورفع هرقل الصليب يريد الغزو كما قد
كان . وفي بلادي تمادى كل منافق وتجبر . وأضحى عموم قومي همهم الفتات المبعثر .
هجروا منابع الخير وارتو من كل نبع مكدر . أمتي أمم . أمتي شتات مبعثر . خلت
أمتي وهي المليار من الأسد تزأر . ألا ليت شعري من يثور على الظلم ويثأر ؟
ويا خالد لسنا من نثور على الظلم .
خالد : لسنا من نثور على الظلم ؟!!
عبد الله : نحن من نسير إلى الظلم .
خالد : بعون الله أسير إلى الظلم مهما كان . وأرد هرقل كما قد كان . وأقتل يهود
في إيلياء .. أقتلهم في كل مكان .