لم يزل بخاطري ريْحانة قريش الوليد بن المغيرة وهو يجلس بين قومه يصف القرآن
بعدما سمعه : إن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله
لمغدق ، وإنه يعلو ولا يُعلى عليه ، فيصيح القوم : صبأ الوليد ، ويقوم إليه
شيطانهم أبو جهل ويهمس في أذنيه بكلمات ثم يعود ثانية إلى مجلسه . وأقبل الوليد
على القوم بوجهه ، وظن القوم أن الوليد سيقف موقف الداعي لهذا الدين الجديد ؛
فالأمر ليس ببعيد ؛ فمِن قَبْله عَدَا عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
ليقتله ، وعاد من عنده مسلماً ، ولكن الوليد خيّب ظنهم فلم يكن إقباله عليهم
إقبال المخلص الداعي لهذا الدين الجديد بل كان المخلص الداعي لدينهم . ويتكلم
الوليد .. يصيح فيهم بأن قولوا في الرجل قولةً واحدةً .. ولا تختلفوا حتى لا
يظهر كذبكم . ويعرض القوم آراءهم : نقول ساحر .. نقول شاعر .. نقول كاهن ..
نقول كاذب .. والوليد لا يجد الوصف مناسباً فيردّه . ويُسند إليه الأمر : قُل
أنت يا أبا عمارة نسمع . ويصمت الوليد .. يجولُ بفكره .. يحاول أن يجد نقيصة في
الرجل أو في منهجه [ إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ
أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ ]( المدثر : 18-23 ) . يحاول الوليدُ ويحاول .. ولكن
أنّى له ؟ ! فالرجل هو الصادق الأمين ، ومنهجه هو هو الذي وصفه من قبل بأن له
حلاوة وعليه طلاوة . ويعجز الوليد ، ويعود إلى بعض آرائهم التي قالوها هُم
وردها هو من قبل ، يقول : قولوا ساحر ، ثم يُدَلل على قوله وما أكذبه : ألا
ترون أنه يفرق بين الرجل وزوجته ، والابن وأبيه [ فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ
سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ البَشَرِ ]( المدثر : 24-25 ) .
ويصيح القوم فرحاً بهذا ! ! قاتلك الله يا وليد ! ما حملك على ألا تفعل ما فعل
عمر ، وقد وصفت القرآن بما هو حق ، ونفيت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما
ليس بحق ؟ ! .
كأني بقريش وقد أقسم الملأ منهم أن ما يأتي به محمد صلى الله عليه وسلم هو من
عند هذا الغلام الأسود الذي يعتكف بجواره في غار حراء ، كأني بهم وقد كلمت
وجوههم وهم يرون هذا الغلام لا يتكلم العربية [ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ
يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ
أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ]( النحل : 103 ) .
كأني برسلهم تعدو في الصحراء تقصد اليهود يسألونهم عن خبر هذا النبي ، ويعطيهم
اليهود الأمارة : سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم ؟ سلوه عن
رجل طوَّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه ؟ سلوه عن الروح ما هي ؟
ويُعطونهم صفة الإجابة ، وتعود الرسل ، ويحشر الملأ القوم منادين فيهم : جئنا
بالقول الفصل بيننا وبين محمد صلى الله عليه وسلم ، ويعطيهم الصادق الأمين
الأمارة تامة . ثم .. ماذا حدث ؟ الموقف لا يتغير ولا يتبدل ، يظهر الحق
ويستيقن فريق من الناس ، ثم يعاندون .
وما كانت قريش بدعاً ؛ فقد كان لهم سلف فيمن مضوا قوم نوح [ قَالُوا يَا نُوحُ
قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن
كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ]( هود : 32 ) جُودِلوا ودحضت حجتهم ؛ فالطبيعي بعد
هذا هو الإيمان ، ولكن انظر إلى كلامهم ما أعجبه [ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ
جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ]( هود :
32 ) . وقوم عاد ينادون نبيهم هوداً - عليه السلام - : [ قَالُوا أَجِئْتَنَا
لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا
بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ]( الأعراف : 70 ) فهم إذن
يفهمون الرجل ، ولا يكون ذلك إلا بإظهار الحجج والبراهين ، ثم انظر إلى موقفهم
بعد هذا البيان ، وكيف أنه يطابق موقف من كان قبلهم .
وإن تعجب فمن أهل مدين قوم شعيب - عليه السلام - نبي الله ؛ إذ يبلِّغ رسالة
ربه فيؤمن البعض ، ويكفر البعض الآخر ، ويأخذ الرجل بمبدأ المسالمة : [ وَإِن
كَانَ طَائِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَّمْ
يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ
الحَاكِمِينَ ]( الأعراف : 87 ) ، أفي هذا عيْب ؟ ولكن انظر ما ردّ الملأ [
قَالَ المَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا
شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي
مِلَّتِنَا ]( الأعراف : 88 ) .
الموقف من الدعوة ورجالها هو هو ، المنطق نفسه يتكرر ، ولا يكاد يتغير ، يعرفون
الحق ويستيقنون منه تماماً ثم لا يتبعونه ، وليت الأمر بقي على هذا فالبلية به
خفيفة ، بل يعلنون أنه لا هوادة ، ولا مقام مع الحق وأهله .
فانظر كيف أن الخيار بين أمرين لا ثالث لهما : [ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ
أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ]( إبراهيم : 13 ) ، وكيف أن هذا
هو كلام الكفار جميعهم في مختلف أزمنتهم [ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ
وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ ]( إبراهيم : 9 ) .
يا ليت أن السائرين إلى ربهم ، الداعين إلى صراطه المستقيم يعلمون هذا ..
يعلمون أنه لا التقاء بين الفريقين فيعدون العدة ، ويشمرون عن الساق ، ويجدُّون
في الأمر فقد طال النّوم ! ! وبقي شيء هو أن هذا ليس حال الكفار جميعهم ، بل هو
حال الملأ منهم وخاصة من لهم مصالح تتعارض مع تطبيق الشريعة ، وهناك ممن هم
ليسوا من أهل الإسلام من لو سمع به وعلمه على حقيقته لسارع إليه ، وهؤلاء هم من
يُرجى من الله هدايتهم ، وأما أولئك فهم من زاغت قلوبهم ، وأبتْ إلا الزيغ .
فاللهم اهدنا واهد بنا ، واجعلنا سبباً لمن اهتدى . وآخر دعوانا أن الحمد لله
رب العالمين .
هذا المقال نشر في مجلة البيان العدد 162 ــ 5 / 2001