|
|
بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
أسباب تراجع الحضارة الإسلامية
ظلّت الأمة
الإسلامية في قيادة البشرية طيلة العصر التجاري، وبدأت مقدمات العصر
الصناعي في الأمة الإسلامية أيضًا، ثم تأخر المسلمون وتقدم عليهم
الأوربيون، وحين تدقق النظر في حال الغرب (أوروبا، ثم الولايات المتحدة ومن
وافقهم) تجد أنهم نهضوا بأربعةٍ لا بواحدةٍ:
أولها:
وجود رؤية خاصة بهم. تأسست على العداء للدين، وهي الوضعية= الإيمان
بالأشياء على وضعها دون الأبعاد الغيبية (الوحي). وهي: الإلحاد الصلب الذي
يتنكر للدين. ربما لأنهم واجهوا غزاة (العثمانيين) ولم يواجهوا فاتحين كما
حدث في العراق والشام وشمال أفريقيا والأندلس، فأهل هذه البلاد واجهوا
الصحابة والتابعين.. بمعنى: واجهوا دعاة إلى الله قبل أن يكونوا مقاتلين،
ومن ثم ترك الصحابةُ والتابعون فيهم أثرًا إيمانيًا()؛
وربما لفقدانهم الثقة في كتابهم من حيث إثبات النص للمسيح- عليه السلام -،
ومن حيث الأخطاء العلمية والتاريخية المدونة بداخله، ومن حيث الجهل بحال
وأشخاص من كتبوا الكتاب (متى، لوقا، يوحنا، مرقص، وعدد من أصحاب الأسفار
الملحقة)؛ وكذلك الجهل بزمن الكتابة؛ وحدوث تعديلات في الكتاب (تحرير) مرة
بعد مرة، فقد جُمع على أزمنة مديدة()؛
وربما لوجود اليهود بأوروبا وإفسادهم فيها ﴿وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ
فَسَادًا﴾ (المائدة: من الآية64)؛ وربما للتحولات المادية التي حدثت بفعل
الصناعة وظهور المدنية الحديثة، والتي تمحورت حول عبادة الجسد (الشهوات)،
أو ما سماها "ميشيل فوكو" بالجنسانية، فتمكن الشهوات من هؤلاء ابتداءً هو
الذي جعلهم ضد القيم الأخلاقية التي أرسل الله بها الرسل
().
وثانيها:
حصولهم على أسباب مادية
من: غزو أمريكا الجنوبية وجلب الذهب والفضة من هذه البلاد؛ وكذلك التجارة
مع الهند وغيرها من دول المشرق. وهو ما عرف بالعصر التجاري (الميركانتي
mercantile)().
ثم احتلال العالم الإسلامي والسيطرة على موارده وأسواقه. وإن المال من أهم
أدوات الفعل، يقول الله تعالى: ﴿وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ
الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا﴾ (النساء:5)، فقد منع السفيه من
التصرف في ماله، وجعل التصرف في المال للرشيد؛ وذكر أن بالمال القوامة أو
القيام على شئون الحياة، يقال "فلان قوام أهل بيته" و"قيام أهل بيته"([5])،
ومثله- في المعنى- قول الله تعالى: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى
النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا
أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ﴾ (النساء:34). فقد جعل الإنفاق من أسباب
القوامة.
وفي بعض
محاضراته المنتشرة على الشبكة ذكر الدكتور عبد الوهاب المسيري أن الغرب
تقدم بهذه (أي بما نهب من خيرات العالم الإسلامي وغيره من دول الجنوب)،
ويقول حتى ننهض لابد أن تتوفر لنا وفرة من الموارد والأسواق كما توفرت لهم
من الدول التي احتلوها!!
والحقيقة أنها أحد أسباب صعودهم وليست السبب الوحيد؛ ولا تصلح لتقدمنا
فنحن أمة رحمة، نقدم للناس توحيدًا وما يترتب على التوحيد من أخلاقٍ
وتشريعات؛ فالقتال عندنا لإزالة النخبة المستعبِدة للناس، ولا يصحبه نهب
للثروات وإرسالها للمركز أو تمكين المقاتلين منها()،
بل تُنزع الحقوق من المستبدين وتوزع على أهل الأرض()...
يُمكَّن الإنسان مما قدره الله في الأرض من بركات دون نظر للونه أو جنسه،
ويطلق له العنان يتحرك حيث يشاء ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ
ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ
النُّشُورُ﴾ (الملك:15). بمعنى أن النموذج الإسلامي يعمل بطريقة مختلفة عن
التي تعمل بها الوضعية الغربية.
وثالثها:
تخريب التتار لحواضر المسلمين،
أو قل للقدرات الكامنة والفاعلة عند المسلمين.
وهذه التي أشار إليها "برنارد لويس" في كتابه "ما الخطأ؟"؛ حيث طرح هذا
السؤال ثم أجاب عليه بأن عليهم (الغرب) أن يكونوا قساةً بالقدر الكافي.. أن
يخربوا عمران المسلمين حتى لا ينهضوا ويزيحوا الحضارة الغربية ويستعيدوا
حضارتهم. وهم (الغرب) يمتثلون لهذه الوصية الآن. وقد وعظهم بشيء فعلوه- من
قبل- في كل حروبهم، فالسمة الرئيسية لحروب العلمانية هي تخريب العمران. بل
إن السمة الأساسية للعلمانية هي تخريب العمران سواء بأدوات الحرب أم
بالأدوات المدنية، وقد جعل الله الكافر مفسدًا. بل المفسد بأل التعريفية،
وكأنه لا مفسد غيره. يقول الله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ
وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ﴾
(يونس: 40).
ومما يستأنس به هنا ما يطلق عليه "الجيل الخامس من الحروب"، وهي حرب بكل
شيء ضد كل شيء. بمعنى أصبح الحياة- بعد أن سيطر عليها العلمانيون- ساحة حرب
قد يقتل فيها الإنسان بالدواء والماء وكل شيء.. مفسدون كما وصفهم خالقهم.
سبحانه.
ورابعها:
القتال الداخلي بين المسلمين،
حيث انشغلت القوى الرئيسية في العالم الإسلامي (الدولة العثمانية، والدولة
الصفوية، ودولة المماليك)، ببعضها، وضاع جهد كبير في القتال الداخلي بينهم
بحثًا عن النفوذ ().
وأهم ما ينبغي أن نلاحظه هنا هو: 1) التحول من الفتوحات إلى التمدد الداخلي
باستثناء الدولة العثمانية فقد كان بعض جهدها في غزو أوروبا؛ 2) الاستعانة
بالكافرين على المؤمنين، في وقت كانت أوروبا تهاجم أطراف العالم الإسلامي
وطردت المسلمين بالفعل من بعض أجزائه (الأندلس)، فلم يعد إيمان في مواجهة
كفر. أو بدأ السياق يتغير من المواجهة بين الإيمان والكفر إلى استنصار دول
ببعضها على بعضها.
وخامسها:
انهيار منظومة القيم الإسلامية، ثم تبدلها.
وهذا من أهم العوامل في تخلفنا، واستمرار تفوقهم، والدخول في
التبعية لهم. وقد كان بدء الانحدار في منظومة القيم من فقدان الإنفاق على
العلم وأهله بعد تحول طريق التجارة، وبعد تحويل كثير من موارد الأوقاف. بل
والممتلكات الخاصة()
للإنفاق على بذخ السلطة، وعلى الجيوش التي انهكت بفعل القتال الداخلي وبفعل
الصحوة الأوروبية في وجه الدولة العثمانية.
جاءوا إلينا
ونحن معدومين ماديًا وفكريًا، ثم عمدوا إلى إحداث تحولات جذرية في منظومتنا
الفكرية حتى صارت تبعًا لهم، ولذا تجد بين المنتسبين للفكر الإسلامي من
يطالب بنهوض كنهوض الغرب، بل تجد من المنتسبين للصحوة الإسلامية من ينتصر
للمناهج الغربية ويرى أن الديمقراطية هي نهاية التاريخ!!
وكأن الله
لم يقم السماوات والأرض على الإيمان
والكفر!! وكأن
الله لم يُهلك الكافرين من السابقين بكفرهم بالله، وهذا مضطرد في كتاب
الله.. أن هلاك الأمم بتكذيبهم الرسل.. بكفرهم بالله، وهذا صريح محكم في آي
الذكر الحكيم، وتدبر: يقول الله تعالى في قوم نوح: ﴿فَكَذَّبُوهُ
فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ
كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ﴾
(الأعراف: 64)، و يقول الله تعالى في عاد قوم هود: ﴿فَكَذَّبُوهُ
فَأَهْلَكْنَاهُمْ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً ۖ وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم
مُّؤْمِنِينَ﴾
(الشعراء:139)، ويقول الله تعالى في ثمود قوم صالح: ﴿فَكَذَّبُوهُ
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾
(العنكبوت: 39)، ويقول الله تعالى في فرعون وجنده ﴿فَانتَقَمْنَا
مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا
بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾
(الأعراف: 136)، غرق فرعون وهو في عنفوانه..انتهى تمامًا وهو في أوج قوته..
وهو بين جنده يرغي ويزبد ويهدد ويتوعد. وتدبر هذه الآية الكريمة: ﴿وَمَا
أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا
بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ. ثُمَّ
بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّىٰ عَفَوا وَّقَالُوا
قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً
وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾ (الأعراف: 94-95).
والمقصود أن
الكفر سبب مباشر للهلاك، ولذا يفسر الظلم الوارد في سبب الهلاك على أنه
الشرك، مثل قوله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا
ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا﴾ (هود: من الآية59)، وقوله
تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا
وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ
بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ
الْمُجْرِمِينَ﴾
(يونس:13).
وتفسير
الظلم بالشرك صريح في كتاب الله، يقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ قالَ لُقْمانُ
لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ (لقمان: 13)، ويؤكده الآيات التي بدأت بها
هذه الفقرة، وفيها أن سبب الهلاك هو تكذيب الرسل.. رفض الإيمان. ولذا فإن
من فسّر الظلم ببعض مفرداته (العدالة الاجتماعية) كابن خلدون وأن هذا سبب
الخراب مخطئ. سبب الخراب هو الكفر. فالكفر فساد كله ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ
يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ
بِالْمُفْسِدِينَ﴾ (يونس:40)، فانظر كيف جعل الكافر مفسدًا. بل المفسد بأل
التي تفيد الاستغراق، وكأنه لا مفسد غيره.
د. محمد جلال
القصاص
([1])
لا يكفي هذا كسبب وحيد، فقد
واجهت أوروبا في الأندلس فاتحين. ولكنه سبب من الأسباب، وباقي الأسباب ترجع
لطبيعة التشريع الديني الذي مكن الناس من الأرض وساوى بينهم في الحقوق
والواجبات إن أسلموا،،،، ؛ وكذلك الأبعاد الإيمانية التي انعكست على ذات
الفرد من سكينة وطمأنينة أوجدت حياة هادئة بأقل التكاليف.
([2])
وهذا سبب هامشي،
أيضًا، لا يكفي وحده لتفسير صعود العلمانية، كما يشاع، فلو كان الأمر شك في
النصرانية لجاءوا للإسلام فهو دين قيم، وليس في القرآن الكريم ما يشتكونه
في كتابهم!!
()
وظني
أن هذا هو السبب الأكبر للعداء للدين والقيم. فالشهوات تبدأ ثم تأتي
الشبهات لتبرر. وقل أن تجد ذا شبهة بلا شهوة حسية. وفيما رصده ميشيل فوكو
من أسباب لتحول الغربيون للجنسانية في المجتمعات الغربية ما يؤيد ذلك. وقد
دخلوا على الشبهات دون التفات للدين فترة، ثم عادوا إليه وحرفوه ليأذن لهم
في الرذيلة، وما زالوا به يحرفونه حتى شرعنوا الربا واللواط وما حولهما من
فحش في المال والجسد!!
([4])
كان هذا أول ظهورهم،
وعُنوا فيه بمراكمة الثروة. عن طريق جلبها بما استطاعوا (الجيوش أو
التجارة)، وظهر نشاطهم سطوًا على الموجود لا سعيًا في نفع الناس، كما كان
حال المسلمين حين أخرجهم الله فاتحين دعاة إلى الله.
([6])
الحديث هنا عن خيرات
البلاد لا عن الغنائم التي تؤخذ من المقاتلين وتوزع على من حضر القتال
وخمسها هو الذي يذهب للمركز ويوزع -أيضًا- على الناس.
([7])
توزع الزكاة على أهل
المكان الذي جمعت فيه، ويترك لأهل الأرض والسلطة ما في أيديهم إن هم
أسلموا، أو دفعوا الجزية وخلوا بين الناس والدين،،، إلخ.
([8])
في كتاب "الحكومة
الإسلامية: رؤية تطبيقية معاصرة" (القاهرة، دار الكلمة،2012)، ص225 وما
بعدها. ذكر الشيخ عبد المجيد الشاذلي-رحمه الله- هذا السبب كسبب وحيد:
يقول: القتال الداخلي، ومهاجمة الغربيين للعالم الإسلامي، وفي ذات الوقت
توحد الأوربيين والأمريكان دون إزعاج من غزو خارجي!!
والحقيقة أن الأوربيين ظلوا يقتتلون فيما بينهم قتالًا عنيفًا مستمرًا إلى
الحرب الثانية (بعد سقوط الخلافة) أفسدوا الحرث والنسل، وأن الدولة
العثمانية ظلت تهاجمهم إلى وقت قريب (الحرب الأولى)، وكانت تحاصرهم بحرًا
وتجوس خلال الديار برًا حتى وصلت "فينا". وأن نشوء الدولة القومية كان
استمرارًا للقتال بينهم ولم يكن نهاية له كما يذكر الشيخ.
لم يتفق الأوربيون إلا من قريب (بعد الحرب الثانية). انتهجوا نهجًا جديدًا،
وهو نهج التسليم لقوة واحدة مهيمنة وهي الولايات المتحدة. ولم يدم اتفاقهم
فهاهم يقتتلون مرة ثانية في شرق أوروبا (روسيا من ناحية، وأكرانيا ومن
خلفها أوروبا والولايات المتحدة من ناحية أخرى). وإن تحول الأوربيين من
الزراعة إلى الصناعة تم والحروب دائرة بينهم، ولم يحدث كثمرة للأمن
والاستقرار والوفرة المالية كما يُفهم من كلام الشيخ رحمه الله. ثمة أسباب
أخرى-قبل هذا السبب، ومعه- أدت إلى خروج المسلمين من ركب الحضارة، وهي التي
فصلت فيها في النص أعلاه.
([9])
الأخذ من إيرادات
الأوقاف معروف ومشهور، والأخذ من أموال الناس (المكوس) يراجع في باب "نظام
الإلتزام" في الدولة العثمانية، ثم فيما أقبل عليه من محمد علي من نزع
ملكية الناس وتحويلها لصالح الدولة، سواء في الأوقاف أم غيرها، ثم في
الاقتراض الخارجي؛ هذه الإجراءات كانت هي الآلية التي أجهدت المجتمع ككل
والحركة العلمية كأحد تفاصيل المجتمع.
([10])
من هؤلاء جاسم سلطان، ينظر محاضرته "كيف نفهم التاريخ"؟