|
من الثوابت التاريخية أن الجماهير لا تُسطر التاريخ ، ولا تَصنع الحدث ، وإنما
يُصنع بها الحدث ، وتُساق الجماهير ـ بالنخبة ـ لأمر قد لا تريده هي ، ويكون
عكس ما تحركت إليه ، وسَرقة مجهود الجماهير صناعة يُتقنها كثير من الـمُغرضين .
وقد مرَّ التاريخ بأمثلة كثيرة على ذلك ، وجُلّها من واقعنا المعاصر .
في ثورة 1919م عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى ، لم تحصل الأمة المصرية على
استقلالها ـ كما وعدهم الإنجليز ـ فهبت الثورة واشتعلت أياما ، وكان محركو
الثورة هم شيوخ الأزهر وطلبة العلم فيه ، فقد كانت صبغتها دينية ، وكانت ثورة
عارمة ، ثم جاء المحترفون من المغرضين وسرقوا الثمرة !!
ولم يحدث شي ... أي شيء مما قامت من أجله الثورة ، اللهم أنها أخمدت ، وأخرجت
للأمة أبطالا مزيفين !!
وُضع زمام الأمة في يدّ سعد زغلول ـ وهو عربيد لا يصلي ولا يصوم ـ فمشى بالأمة
في دروب المحتل . ومشت خلفه الأمة ( الثائرة ) ( الغاضبة ) على المحتل ، مشت
وهي فرحه مسرورة تهتف ( للزعيم ) . !! [ وللأستاذ محمد قطب في كتابه واقعنا
المعاصر حديث شيق عن هذا الحدث ]
وتكرر ( الفيلم ) مرات على مسافات تاريخية قريبة جدا ، ولم يستطع أحد أن (
يحرقه ) ، ثارت الجماهير في الجزائر ، وكان ( جهاد ) انتهى بـ ( بن بلا )
ورفاقه .
وشبّ العمل الجهادي ضد اليهود في بيت المقدس وأجوار بيت المقدس ، وانتهى الأمر
بـ ( منظمة فتح ) ثم منظمة ( التحرير الفلسطينة ) ثم ياسر عرفات الذي دخل
فلسطين في منتصف العقد الماضي واستقبلته الجماهير استقبال الفاتحين . !!
والمقصود أن الجماهير أصبحت لعبة ( للنخبة ) . هكذا حقيقة ، يُلجأ إليهم لتمرير
المشاريع عن طريق ما يسمى بـ ( الديمقراطية ) ، ويُلجأ إليهم لتحريك قضايا
معينة من خلال ما يعرف بالمظاهرات .
واليوم في حادث سبّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصحف الدينماركية
والأوربية ، الجماهير هي الفاعل الحقيقي ، ولكن من يأخذ بزمامها ؟
هناك حالة صحية ظهرت في هذه الأحداث ، ويجب ـ من وجهة نظري ـ الالتفات إليها
وترشيدها ، وهي أن الجماهير أصبحت على درجة من الوعي أكثر مما كان ، وسبب ذلك ـ
من وجهة نظري ـ انتشار عامة طلبة العلم والمثقفين ثقافة دينية صحوية ـ إن صح
التعبير ـ بين الجماهير، وأن تأثير الصحافة الورقية في الحدث أقل من تأثير
مواقع الإنترنت .
والمطلوب هو ترشيد هذه الظاهرة أو الاهتمام بها ، بمعنى إعطاء أهمية للخطاب
الشرعي الذي يتناول فقه الواقع ، فلا شك أن خطابا دعويا رزينا عاقلا في العقد
الماضي ( كَشَفَ الغمة عن علماء الأمة ) ودعاتها وعامة المهتمين بأمرها فيما
يتعلق بأطماع الكفر في الجزيرة العربية ، وأن النداء بتَعَلُّم ( فقه الواقع )
، ومخاطبة ( الغرباء ) بـ ( وسائل دفع الغربة ) ومتى تكون ( العزلة والخلطة )
كل ذلك أثمر نوعا من الثقافة العامة لدى نوعية من عامة المهتمين ـ كالذين
يكتبون في المنتديات اليوم ـ لا يمكن تجاهلها ، ولا بد من مد العون إليهم ،
والآن قبل أن يضيق فضاء الشبكة العنكبوتية ـ ولا قدر الله ـ على دعاة الصحوة .
ـ عامة المثقفين من شباب الصحوة هم القنوات الفرعية التي يتغذى منها جسد الأمة
( الجماهير ) ، أو قل هم دعامات البناء ، وهم يضبطون الركب خلف العلماء ليسير
في وئده واطمئنان . وهذا يعكس ولا شك أهمية ( المقال ) و ( التحليل الشرعي
للحدث ) ، وأهمية الخطاب الديني الذي يتكلم عن فقه الواقع من منطلق شرعي ،
ويعكس أيضا أهمية الاستكثار من هؤلاء .
أقول وبكل صراحة : ولا بد من تنصيب زعامات فكرية صحوية للأمة الإسلامية ، فها
هي الجماهير يقظة ثائرة ، منصته لخطاب ( الشيوخ ) . فمن لها ؟
نريد أصحاب التفكير العميق ، نريد أن يفسح الوعاظ الساحة قليلا ، ليتقدم
المربون . وأصحاب النظرة البعيدة . أولئك الذين يخطون التاريخ حقيقة .
أظن أننا نضجنا و ( لسنا أغبياء لدرجة كافية ) أن يأتي لص مجرم لا يرجو لله
وقارا ويمد يده في كيسنا ويأخذ ما ادخرناه في سنين غربتنا . ونعود ثانية للغربة
كي نجمع من جديد .
إن لليوم حديثا لن يسمع غدا ، وإن السوق قد نصبت ، وعما قريب يعود الحضور بين
رابح مسرور ، وخاسر مغبون .