يقول الله تعالى " لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا ولملئت منهم رعبا [
الكهف : من الآية 18 ]
الطبعي أنني أخاف ثم أفر ، لا أنني أفر ثم أخاف . أليس كذلك ؟
هذا ما يقوله العقل .
ولكن الآية الكريمة تقرر شيئا غير ذلك ، هو أنه حين يشتد الخوف . . . حين
يكون الأمر مهولا . . . حين يرى الإنسان الموت فإنه يفر دون أن يدري ، ولا
يفيق إلا بعد أن يغادر مكان الخطر . ( لوليت منهم فرارا . . . ولملئت منهم
رعبا )
وتكلم أهل الإعجاز العلمي في ذلك فقالوا : إنه في حالة الخوف والذعر الشديد
فإن الإشارات الصادرة من العين لا تتجه نحو مركز الإدراك ، وإنما تذهب أولا
إلى البؤرة المتحكمة في العضلات الهيكلية ، وتعطيها إشارة للانقباض والتحرك
سريعا بعيد ا عن مصدر الخوف ، ثم بعد حين تتجه إلى مركز التفكر فيفهم
الإنسان ما حدث .
رؤية الموت تذهب بعقل كل ذي عقل إلا أن يثبته الله ، ولذا جاء في الآية الكريمة
أن التثبيت بالشهادتين عند الموت من الله عز وجل { يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ
آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ
وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ } [ إبراهيم :
27 ] والتثبيت عند القتال ـ وهو حالة من حالات رؤية الموت ـ من الله عز وجل {
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ
الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ } [
الأنفال : 12 ]
ومن يتدبر في سير المعارك عبر التاريخ ، وكيف كانت الهزيمة تصيب الكافرين . ومن
يتدبر حال الذين تعرضوا للقتل صبرا يعرف صدق قولي ، وحتى يتضح مقالي أضرب لك
أمثلة لهزائم الجيوش كيف كانت وحال بعض الأفراد حين رأوا القتال كيف كان حالهم
. لتعلم أن صدام ما كان يتصنع ، وأن لطف الله أدركه .
يوم بدرٍ .. يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ، حزب الرحمن وحزب الشيطان ، وقف
عدو الله أبو جهل يقسم بالله أن لا يرجع حتى يقرن محمدا ـــ صلى الله عليه وسلم
ـــ وأصحابه في الحِبال ، وينادي في قومه : ( لا ألفينَّ أحدا منكم قتل منهم
أحدا : ولكن خذوهم أخذا ، نعرفهم بالذي صنعوا لمفارقتهم دينكم ورغبتهم عما كان
يعبد آباؤهم )[1] .
وما هي إلا ساعة أو ساعتان من القتال وقد فروا من المسلمين كالنساء .
ومَرَّ عام وقريش تتجهز لأخذ ثأرها ، ومحو عارها ، وجاءت يوم أحد بقضها
وقضيضها ، يُجعجع فرسانهم ، وتضرب بالدف نسائهم ، وينادي بالثارات جميعهم ،
وما هي إلا ساعة أو ساعتان حتى فروا وتركوا النساء .
وهؤلاء فروا عن النساء وقد كانوا لا يعدلون بالشرف شيئا ، وقد كانوا فرسانا
شجعانا ً .
وجيش الفرس يوم القادسية ، وكان أشد جيش على وجه الأرض يومها ، كثير العدد ،
حسن التسليح ، جنده نخبة أبطال يقاتلون في أرضهم .
صبيحة أول أيام القتال ركب رستم فرسه وهو يقول : اليوم ندكهم دكا ، فناداه
أحد خدمه ــ يريد منه الاستثناء ــ : قل إن شاء الله فقال : وإن لم يشأ !!.
ولما تراء الجمعان ضحك أصحاب رستم من صحابة محمد الله صلى الله عليه وسلم لما
يرون من قلة عددهم وضعف سلاحهم ، وما هو إلا يوم ويومان اشتد فيهما القتال إلا
وقد فروا لا يلوون على شيء . وأمكن الله من رستم فذبح كالخراف .
إنه الرعب يذهب بالعقل ويفقد الإنسان القدرة على السيطرة على مواقفه . وهو ما
يفسر ما فعلته فرسان العرب ذوو النخوة والشجاعة حين فروا وتركوا نساءهم لعدوهم
. رأوا الموت فذهب عنهم هاجس العدد والعتاد والغيرة على الأعراض والحرص على
الأموال ، فأطلقوا سيقانهم للريح ، وما دروا إلا هناك وقد بعدوا عن موطن
القتل والقتال .
ويحكي لنا التاريخ حال بعض الأفراد حين نزل بهم الموت كيف كان حالهم ، الحلاج ـ
مثلا ـ حين رأى الموت فزع وصاح وصرخ وأخذ يتوسل لجلاديه كي يتركوه ، وقد كان
داعية يدعي التضحية وأنه يمشي على جمر المخاطر حافيا ، ويريد الثورة على أبناء
الجيل .
ويحكي لنا التاريخ المعاصر حال ( عبد الله أوجلان ) الزعيم الكردي المتمرد حين
أُخذ أسيرا وسُلم للأتراك ورأى الموت من بعيد ـ لا من قريب ـ فزع وتنازل . وقد
كان ( مقاتلا ) لا حاكما ساكنا للقصور .
إن رؤية الموت لا يمكن التصنع أمامها أبدا ، بل ما هو دون الموت حين يأتي الخوف
على جماعة ـ مثلا في حادث سيارة ـ يغمى على بعضهم ، ويرتجف بعضهم ، ولا يتأثر
نفر منهم ، وحين يأتي الخوف على مجموعة في شقة تُبصر فريقين ، فريق على الحال
التي وصف الله في سورة الأحزاب { فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ
يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ
الْمَوْتِ } [ الأحزاب: 19 ]
تدور عينهم وقد تصطك أسنانه وينادي في نفسه وربما بصوت عال أين
المفر ؟ ، وإن أُمسك به حاول الفكاك بكل ثمين .
وفريق يجد سكينة لم يكن يتوقعها . وحالة من الارتياح والبرود ربما لم تمر به من
قبل . إنه لطف الله يتدارك العبد أو يفارقه .
يحكى أبا سفيان بن الحارث ـ وكان شبيها للحمزة بن عبد المطلب في القتال ـ وعمرو
بن عبد ود وهو أشجع قريش يومها كان أول من فرَّ من بدر ووصل إلى مكة فلقيهما
أبو لهب متعجبا : أأفررتم يا أبا سفيان ؟
ويجيب أبو سفيان : لقينا ما لا قبل لأحد به .
وعلى الجانب الآخر يثبت أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ وهو نحيف أسيف ، ويثبت بن
مسعود وهو هو في ضعف بنيته . ويفر نفر يوم أحد فيأتي القرآن معللا { إِنَّ
الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا
اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } [ آل عمران : 155]
نعم للثبات عند الممات مقياس آخر .
والرجل ـ صدام أعني ـ ما كان أمام الجماهير حتى نقول أنه أراد أن يسجل موقفا .
إنه لطف الله شاء من شاء وأبى من أبى .
-----------------------
[1] المغازي للواقدي في ذكر غزوة بدر .