بدأت الصحوة الإسلامية في مصر ( الإخوان تحديدا ) بعد سقوط الخلافة الإسلامية
في تركيا عام 1924 م ، وكانت الأهداف الأولى المعلنة هي إقامة الخلافة
الإسلامية بتحكيم شرع الله في أرضه ، وطرد اليهود من فلسطين وكل البقاع
الإسلامية .
ثم تعرضت الحركة لعدد من الضغوط الداخلية أدت إلى إحداث تغيرات جذرية في ثقافة
الجماعة ومنطلقاتها الفكرية ، فراحت تشارك في العملية السياسية بأطرها الحالية،
وجملة سيرها ـ جماعة الإخوان في مصر ـ داخل إطار ( الشرعية ) في مصر .
وهناك ازدواجية عجيبة تبدوا لكل متابع لحال إخوان مصر . تتضح هذه الازدواجية
حين تنظر لقاعدة الإخوان العريضة وتقارنها بمواقف قيادتها وسياستها العامة .
إذْ أن القاعدة العريضة للجماعة متحمسة لقضايا الأمة في فلسطين والعراق وباقي
بقاع العالم الإسلامي ، وهي ثائرة تثار مع كل حدث هنا أو هناك ، ويبدوا هذا
جليا فيما يحدث في الجامعات مع النوازل العامة التي تنزل بالأمة الإسلامية .
سواء أكانت فكرية ( مثلا ما حدث في جامعة الأزهر 1999م بخصوص الاحتجاج على نشر
كتاب وليمة لأعشاب البحار ) ، أو سياسية عسكرية كما حدث ويحدث مع أحداث فلسطين
والعراق . ومن يرقب حال الصف الإخواني داخل الجامعات وعامة الناس ، يجد أنه
ثائرٌ يَئِنُ لمصاب أمته هنا وهناك .
وقيادة الجماعة تبدوا ذات طبيعة مزدوجة في تصوراتها وأهدافها .تسير داخل (
الشرعية ) الدستورية ، أو تشاكس داخل ( القنوات الشرعية ) دون خروج عليها ،
سواء أكان خروجا فكريا أو حركيا ، وتحرص في مواقفها الخارجية على ازدواجية في
التعامل ترضي القاعدة ولا تستفز الأنظمة .
فهي مع العراق المحتل ، وفي ذات الوقت وحين كانت الفلوجة تدك يستقبل مرشدُها
رئيسَ الوزراء العراقي الشيعي المتشدد المعين من قبل الاحتلال الجعفري ويجلس
معه ساعتين كاملتين ، وهي تتكلم عن إسلام مدني ، وهي تنادي على الأقباط وتحاول
احتضانهم أو مد الجسور معهم ، وهي لا تمانع الحوار مع الأمريكيين من أجل بديل (
إسلامي ) معتدل . وطلب مرشدها يوما مقابلة الرئيس المصري .
والحركة مرنة جدا ، ومحنكة جدا في الحفاظ على المكتسبات وعدم الاستثارة من أي
طرف للخروج من حالة التأرجح في المكان هذه .
واليوم قررت الجماعة أو كادت تأسيس حزب سياسي جديد ، وهو ما يعني انخراط أكبر
في العملية السياسية . ويبدوا أن الجماعة مقدمة على مرحلة تاريخية تنفصل فيها
القيادة عن القاعدة العريضة وليس الحل والاضمحلال كما يتوقع بعض المفكرين أو
بالأحرى كما يدعو . ويرجح هذه الفرضية أمور . منها :
ـ ما يحدث لحماس في فلسطين ، فما يبدوا أن هناك إصرارا شديدا على إفشال التجربة
الإسلامية في فلسطين حتى وإن كان باقتتال داخلي ، يحدث هذا مع حماس وهي مسلحة
ذات عدد وعتاد وخبرة بالقتال ، وبدا واضحا أن الحكومة المصرية رافضة تماما
لوصول الإسلاميين للسلطة ، وتكلم بهذا صراحة رئيس الوزراء المصري أحمد نظيف في
حواره مع النيوزيك الأمريكية [ راجع مقال محمود سلطان ـ المصريون /6/7/2007 ]
وهذا من شأنه غلق الطريق أما التجربة السياسية في أعين الجماهير المخلصة التي
انضمت لصفوف الإخوان أو تعاطفت معها نُصرةً للدين . وإلغاء العمل السياسي (
الشرعي ) يعني هدّ ركن الجماعة وتقويضه . ويزيد من هذه الفرضية أن .
ـ الحركة السياسية في مصر لم تتأثر بوجود إسلاميين في البرلمان ، أتكلم عن
التأثير الفعلي وليس عن الشوشرة التي تحدث في ( الفضاء ) وتحت قبة البرلمان،
فالقرارات تمرر ، والدستور يُعدَّل ، ووزير الثقافة تكلم وقال وأسمع وما استطاع
أحد أن يمسه بسوء اللهم قيل وقال . والدولة تصادر مكتسبات الإخوان البرلمانية ،
فكلما أرادت تمرير شيء اعتقلت نفرا منهم ثم حدث نوع من المساومة الضمنية أو
الصريحة .. هذه بتلك . وهذا من شأنه أن يجعل كثيرين يفكرون في العملية السياسية
كوسيلة للتغيير ، أو تحكيم الشريعة ، وهو الهدف العام المعلن للجماعة ، ويزيد
من هذه الفرضية :
ـ وجود تيار قوي متنامي في مصر ، أغلب أفراده وقياداته ينتمي تاريخيا لجماعة
الإخوان المسلمين ، هذا التيار يرفض العملية السياسية كوسيلة للتغيير ، ويرى
عدم جدواها ، ومما لا يخفى على متابع أن هذا التيار له حضور قوي على أرض الواقع
في مصر . ويمتلك قدرة عالية على التنظير لمبادئه وأهدافه . ويملك رموز لهم حضور
في الشارع وبين الجماهير .
تحول الإخوان لحزب سياسي كما حدث في تركيا أمر وارد جدا ، وخاصة مع صعود الجيل
الثاني ـ الذي لم يشهد التأسيس ولم ير المرشد الأول الإمام حسن البنا يرحمه
الله ـ إلى منصب الإرشاد ويسيطر على مكتب المرشد ، فعندهم مفهوم آخر ـ أقل حدّة
ـ للحجاب ، والموقف من أهل نصارى مصر والموقف من القوانين الوضعية وهذا من شأنه
أن يصعد النقاش بينهم وبين التيار المتنامي من باقي الإسلاميين . ومن شأنه أيضا
أن يفقد الجماعة حسها لدى شريحة عريضة من مثقفي مصر ، فلا زال المصريون يعتقدون
أنهم رأس الأمة وأن بلدهم مسئولة عن ما يحدث في بغداد والقدس والصومال بل
والأفغان ، أو على الأقل أن يكون لهم دور حقيقي في صناعة الحدث ، يوازي دور مصر
على امتداد التاريخ .
ويزيد من فرضية انقسام القاعدة عن الجماهير العريضة أن كثيرا ممن انتخب الإخوان
في البرلمان وكثير ممن تبعهم مؤيدا وناصرا من عوام الشعب أهدافه تنحصر في إطار
لقمة العيش ، والدولة تقف بالمرصاد لمشاريع الإخوان ـ وغير الإخوان من
الإسلاميين ـ الخيرية .
ماذا سيحدث في القريب ؟
الله أعلم . ولكنها محاولة لقراءة المستقبل القريب في ضوء ما تراكم من خبرة
بالماضي قصدها الأول تقديم النصح لإخواننا وليس التطاول عليهم ، والله نسأل
العفو والعافية لإخواننا وأن يرزقنا وإياهم من أمرنا رشدا .