|
في صباح كل جمعة كنت أرى كثيرا من الطلاب يخرجون أرسالا بثوب أبيض ومصحف وسواك
، ويسيرون في اتجاه واحد ، وكأن اليوم يوم دراسة لا يوم أجازة ، وما سألت ُ
أحدا إلى أين ؟ إلا قال لمسجد التوحيد أو إلى ( فوزي السعيد ) .
كنت أستخف بالأمر وأعطف على من أراه ، وأقول في نفسي لو أراحوا أنفسهم من هذا
العناء ؟
كان الخيال يرسم لي صورة أهل اللحى والثوب الأبيض وكأنهم يجلسون في الظل الظليل
ويشربون الماء المعين ، ويبحثون عن النساء والبنين ،و يتفقهون في النفاس والحيض
. أو غَلِقون .. متشنجون .. يكفرون ويبدعون ، وفي غير هذا لا يفقهون . وأقول :
والمسلمون يذبحون في البوسنة والهرسك والشيشان وأفغانستان والصومال وفلسطين ؟!
ألا هدى الله السلفية والسلفيين .
كان الحديث عن فوزي السعيد أو مسجد التوحيد عاليا وفي كل مكان ، وذات يوم أخذني
الفضول ، وذهبت إلى مسجد التوحيد في ( غمرة )[1] لأرى هذا الذي يُشدُّ إليه كل
جمعة الرحال ، وتدور بذكره المجالس .
كان هو الخطيب يومها . وكانت الخطبة عن ( المَكر ) ـ التحايل ـ ، جلستُ منشغلا
بحال الرجل ( فوزي السعيد ) . مُغضبٌ ، ثائرٌ ، كأنه مَوْتور جاء يستغيث ، قد
احمرَّ وجهه ، كأنما فقئ حب الرمان فيه ، واشتد صوته حتى أشفقت على حنجرته ،
ويقف على أطراف أصابعه طول الخطبة ( يشب من على المنبر ) ، كأنه منذر حرب .
جريئ يتكلم وكأنْ لا رقيب . ومؤدب لا يخطئ .
انشغلت بحاله عن مقاله .
وقلت في نفسي : ليس هذا بالجبان المستكين ، الذي يبحث عن الظل الظليل ، والماء
المعين ، والنساء والبنين .
أخَذَت الخطبة ساعة ونصف الساعة ، ونزل هذا الأسد الجسور من على منبره يتحدث
ربع ساعة أخرى يكمل فيها الموضوع ، ووقف كثير من جمهوره الغفير ـ قدَّرته يومها
بما يزيد على عشرة آلاف ـ ، دققت النظر في عينيه أستأنسُ . . رجاء أن أسلم عليه
، وما تجرأت ، وحين انتهى من كلمته ، أذاع دروسا تلقى طوال الأسبوع في المسجد ،
بقيت قريبا منه أرقب أنفاسه وحركات عينيه .
انصرف الناس من حوله ، وحمل حذائه ومشى ، يُحدث نفرا أو نفرين بأشياء في المسجد
.. افعلوا كذا .. وكذا .. ثم انصرف يمشي وحيدا .
ـ كنت أسمع أنهم ـ أي السلفيون ـ يحيطون بشيوخهم ، ويكادون يقتتلون عليهم ،
وهذا يمشي وحيدا .
ـ أبيض اللون .. يَحْمَرُ حين يخطب . . مُلَّون العينين .. لحيته قبضة أو تزيد
قليلا ، وأحسب أن قصرها من تجعدٍ أمسك بطولها ، طوله 170سم أو يزيد قليلا ، كأن
جدّه من بخارى ، يبدوا عليه الإنهاك الشديد ـ علمت بعدها أنه مريض بالسكري
والضغط ـ . ويحمل أوراقا ، ونظارتين إحداهما للقراءة والثانية للنظر ، يغير
بينهما كثيرا وهو يخطب ، ولا يرتدي أيا منهما وهو يسير .
ـ تعلقت بهذا الرجل ، ولم تكن دراسة الصيدلة تسمح لي بالحضور يوميا إلى دروس
المسجد ( الفقه ، والعقيدة ، والتاريخ ، والحديث والتفسير .. ) . وكذا الحالة
المادية ، فقلت لألزمن هذا البطل يوم الأحد ، وكان درسه في العقيدة ، تركت
الأدب والتاريخ وأمسكت في العقيدة حبا في ( فوزي السعيد ) ، وبقيت تحت قدميه
أربعة أعوام ، أتعلم من حزمة وعزمه وحرصه الشديد على الخير قبل علمه ، أحضر
الدرس وأحضر الخطبة ، وأرقب تفاصيل ما يحدث في المسجد ، وما كنت أتكلم لأحد في
المسجد بأي كلام . وإن وجدت فسحة من مال ووقت أتيت لدرس آخر بما يتيسر وقتها
حبا في مجالس العلم .
ـ فوزي السعيد أو مسجد التوحيد قصة غيَّرت في مجرى التاريخ الفكري ( الدعوي )
في مصر ، شاء من شاء وأبى من أبى . ولن يمحوها إرهاب الدولة لكل من انتسب لمسجد
التوحيد أو ( فوزي السعيد ) . أو تسلط بعض المغرضين الحاقدين .
ـ فوزي السعيد أو مسجد التوحيد قصة . وددنا لو أنها تكررت هنا أو هناك
،فالملاحظ في العمل الدعوي أنه فرديٌ ، الشيخ وحده في المسجد ، والمشاريع فردية
، وأغلبها مكررة ، يقيم أحدهم موقعا ـ إلكترونيا ـ فيقلده الباقون . ويخطب
أحدهم في موضوع ويردد الباقون ، أما مسجد التوحيد فعدد من الشيوخ ، ومِنْ عِلية
القوم ، وعدد من المساجد يديرها مسجد التوحيد في غمرة ـ أو فوزي السعيد من غمرة
ـ .
واسمع :
خطباء الجمعة في المسجد الشيخ فوزي السعيد ، والشيخ نشأت أحمد ـ وقل عنه مثل ما
يقال عن الشيخ فوزي وإن شئت فزد ـ والشيخ محمد حسان ـ وهو غني عن التعريف ـ
والشيخ جمال عبد الهادي أستاذ التاريخ الإسلامي ـ وكان يتخلف كثيرا ـ ، ويحضر
بعض الأخيار من فترة لأخرى . وفي المسجد يحاضر ، الشيخ الدكتور / محمد عبد
المقصود ، والشيخ الدكتور سيد العربي ، والشيخ الدكتور / جمال عبد الهادي ،
والشيخ / أبو الأشبال ، وجاء في الأخير الفاضل الماجد الشيخ / محمد عبد الحميد
حبسه ( أبو معاذ ) ـ حفظه الله من كل سوء ـ .
ـ ولم يكن المسجد ، فقط للعلم وللتعلم ، بل كان لـ ( الحض على إطعام المساكين )
. والحضُّ على إطعام المساكين مشروع لإطعام المساكين ، إذ يكفل المسجد ما يزيد
على خمسة آلاف فرد ـ هذا قبل أن أنقطع عن المسجد ويقينا زاد العدد بعد ذلك ـ ،
والمسجد يطبع بعض الكتب بسعر التكلفة ، والمسجد يقيم محاضرات في الإعجاز العلمي
ويستخدم وسائل متطورة في عرضها . والمسجد يقام أمامه كل جمعة وكل يوم بعد الدرس
سوقٌ للكتب والأشرطة الإسلامية بل والملابس التي تعارف الناس على أنها ملابس
شرعية للمرأة . والمسجد يسير في طرحه للقضايا هو والمساجد التي تتبعه في خطط
مدروسة لا تخطئها عين . ويكاد يذهب بعقلك حسن التدبير والإفادة من كل ممكن في
أيديهم . وحسن العشرة بينهم .
ـ ما عرفنا الشيخ ابن باز ـ رحمه الله ـ والشيخ ابن عثيمين ـ رحمه الله ،
والشيخ بكر أبو زيد ، والشيخ سفر الحوالي ، والشيخ ناصر العمر ، وسلمان العودة
، والشيخ عائض القرني ، وعبد الوهاب الطريري ، إلا من الشيخ فوزي السعيد أو
مسجد التوحيد .
ـ كل هذا والقيم على المسجد ـ الشيخ فوزي السعيد ـ مهندس يعمل طول يومه ، وربُّ
أسرة ، ومريض يكاد يقتله السكري وضغط الدم المرتفع ، فأي همة هذه ؟ وأي نفس هذه
التي بين جنبي هذا الشيخ ؟
ـ تحدث الشيخ / سيِّد العربي ذات يوم ـ في دروس الإرجاء ، فقال : أحسب أن الشيخ
فوزي لو وجد شيئا في الطريق ينتفع به الناس هنا في المسجد لحمله على ظهره وأتى
به إليهم من شدة حرصه على الخير .
قلتُ : لحمل الثقيل على الظهر أيسر مما كان يفعل الشيخ ، قد كان يُعرِّضُ ظهره
لسياط الجلادين وفِعال المجرمين كي يصل الحق للناس .
ـ جلستُ أمام كثيرين ، ولم أجد أحدا همه الأول الدعوة وليس رصيده الدعوي كالشيخ
فوزي السعيد . يقول احضروا للشيخ فلان فهو والله خير مني ، ويوم الجمعة يأتيكم
الشيخ فلان فلا تفوتوا الخطبة ، وإني ذاهب إلى مسجد السادس من أكتوبر فلا تأتوا
خلفي فلن تستفيدوا كثيرا فالخطبة هناك تُعنى بالمبتدئين .
ـ قضية الشيخ فوزي السعيد الأولى هي الأسماء والصفات ... أسماء الله وصفاته ،
وأعمال القلوب ، وأمراض الأمة ، والسنن الربانية ، وله في ذلك طرح علمي لم أجده
لغيره ، واتصلت به من فترة أطمئن على حاله ، فإذا به يقول فتح الله علي بأشياء
في الأسماء والصفات لم أسمع أحدا تكلم بها من قبل ، ولم أكن أعلمها من قبل .
فقلتُ ـ في نفسي ـ : ربك مطلع على القلوب يعطي الخير لأوليائه . فهنيئا أبا
أيمن .
ألا مثلُ أبي أيمن وإلا فلا .
ألا مثل مسجد التوحيد وإلا فلا !
موقف من مواقف !
ذات يوم ركبت ( ميكروباص ) من ميدان رمسيس متجها للشمال ـ حيث بلدي التي أعيش
فيها ـ وجلس بجواري عجوز ، فرحٌُ مسرورٌ ، يلتفت يمنة ويسرة من فرحه ، وأحسست
أنه يريد الحديث مع أحد من شدة فرحه ، فكففت مصحفي وتكلمت إليه فإذا به قادم من
محافظة البحيرة ( في شمال مصر .. يمر من بين ثلاثين مليون تقريبا ) كي يسمع
الشيخ فوزي في القاهرة ، وإذا بالميكروباس ستة أفراد على الأقل هذا حالهم .
يحبونك أبا أيمن ، ويقطعون مئات الكيلومترات كي يسمعونك ، ويهشون ويبشون فرحا
بحديثك .
أبا أيمن !
اشتد حسّادك ، والله لا يصلح عمل المفسدين .
سكتوا عنك ، وكأنهم لا يعرفوك ، وكأن القاهرة كلها ـ بل مصر كلها ـ لم تكن
تذكرك فرحا أو حقدا وحسدا .
جلس إليها الخبيث يوسوس لها وتسلط عليها الجبان ، فشدوا وثاقها وأحكموا أُسارها
.
ولم تنساك ...
تحدث عنك بالسرّ خالية ...
ولن تنساك .
فغدا يفكُ أسارها ، وتجلس بين أبنائها تحدثهم بأيامك وتحكي لصبيانها أفعالك ،
فنم قرير العين يا بطل .
حفظك الله أبا أيمن . . وأجزل الله مثوبتك . . وأحسن الله خاتمتي وخاتمتك .
--------------------------------
[1] حي من أحياء القاهرة