|
بسم الله ، والحمد الله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن
أحبه واتبع رضاه ، وبعد :ـ
يُنَظّر بعض التوجهات الإسلامية في مصر حاليا لنموذج ( ديمقراطي إسلامي ) أو
مصالحة تاريخية بين الدين ( الإسلام ) وبين الدنيا ، بين مفاهيم الإسلام وأسسه
وبين ما توصلت إليه الحضارة الغربية اليوم ، لإيجاد ديمقراطية حسيبة نسيبة ذات
أخلاق كريمة تحترم التعددية وينعم فيها الجميع بما يشاءون .
وهذا الكلام عجيب .
عجيب من الناحية الشرعية ، إذ أن الشريعة تأبى تماما التسليم بمساوئ
الديمقراطية ، فالشريعة الإسلامية لا يمكن تركيبها على أسس ديمقراطية ، ببساطة
لأن الحكم في الشريعة الإسلامية لله ، والحكم في الديمقراطية للشعب ، السلطة
التي تعطي النص الصفة الإلزامية ومن ثمَّ تحوله لقانون مُلْزِم هي الشعب في
الديمقراطية أو الطغمة الحاكمة في الديكتاتورية ، وفي الشريعة الإسلامية
السلطان لله وحده لا شريك له ( قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ) (يونس :من الآية 59
) ( أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا
بِهِ يُشْرِكُونَ ) ( الروم : 35) ( قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ
الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ
الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن
تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) ( الأعراف : 33) ، فلو سلمنا
جدلا أننا استطعنا أن نجعل نصوص القوانين المستوردة كلها موافقة للشريعة
الإسلامية , فإن هذا لا يعني ببساطة أن الشريعة الإسلامية قد طبقت ذلك أن الذي
أعطى النصوص صفة الإلزامية ( جعلها أمرا أو قانونا ) هو الشعب ممثلا في بعض
أفراده وليس أن ذلك كلام الله الخالق الرازق المحي المميت مالك يوم الدين .
والشريعة الإسلامية لا تنظر للدنيا بمعزل عن الدين ، بل هذا من ذلك ، ولا تنفصل
السياسة أبدا عن الدين ، تخرج من قواعده وتظل محكومة بمفاهيمه وتصوراته . فليس
ثمت خصومة لإقامة صلح بين الدين والسياسة ، وليس ثمة فجوة في التصور الإسلامي
في السياسة أو غيرها تجعلنا نستورد نظماً ديمقراطية أو غير ديمقراطية ، وليس
ثمت مساحة تجلس فيها الديمقراطية تحت مظلة الشريعة الإسلامية .
والشورى التي تتكلم عنها الديمقراطية غير الشورى في الشريعة الإسلامية ، في
مناطها وفي أفرادها . فهي لا تكون في الشرائع .. في الحلال والحرام وإنما في
آليات التنفيذ ، لا تكون في الثابت وإنما في المتغير المتصل بالثابت ، ولا تكون
لكل من هب ودب وإنما للذين يستنبطونه منهم .
ـ وذلك التنظير لديمقراطية إسلامية عجيب أيضاً من الناحية الواقعية ، إذ أن
الواقعيين يرفضون الديمقراطية من عدة زوايا :
ـ منها أنها مرحلة تاريخية انتهت صلاحيتها أو كادت ، فالذي يبصره كل ذي عينين
أن الديمقراطية بدأت تشد رحالها ، وأن الصراع اليوم بدأ يتجدد على خلفيات دينية
، فكل الصراعات القائمة اليوم على خلفيات دينية ، في أفغانستان ، وفي العراق ،
وفي فلسطين ، وفي الصومال ، حتى الصراعات الفكرية .
ـ ومنها أن الغرب محركه الأساسي هو أن يبقى سيدا يقتات من رزقنا ويتملك رقابنا
، فهو يبارك الأنظمة الديكتاتورية في البلاد الإسلامية وغير الإسلامية ولا
يتكلم عن الديمقراطية إذا كانت ستأتي إليه بمن لا يحافظ على مصالحة .
ـ ومنها أن المد الديني يتزايد في العالم كله ، يدل على هذا انتشار حملات
التنصير في كل بقاع العالم ، ويدل على هذا أن الصحوة الإسلامية هي حديث وكالات
الأنباء ، ومواقع الإنترنت ، وأن كبرى القضايا في مصر وغير مصر مرتبطة بالدين (
أقباط ، إخوان ، جهاد .. الخ ) ، والأمر لا يحتاج استحضار شواهد .
ـ شيء واحد عقلي يملكه المنادون بالديمقراطية من الإسلاميين ، هو أنه إن وجدت
ديمقراطية حقيقية فإن الشعب سوف يختار الإسلام والإسلاميين ، وهذا كلام لا يرقى
لمستوى التطبيق على أرض الواقع ، فليس هناك نظام يفرط في هيكله ويرضى الانقلاب
عليه فقط لأن الشعب أراد ذلك ، وقديما قال فرعون عن موسى (وَقَالَ فِرْعَوْنُ
ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ
دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ ) ( غافر : 26 ) ، وموسى
ـ عليه السلام ـ كان في قصر فرعون مؤمن بالله ، وفرعون كان ديمقراطيا يناقش
الحجج ويقول ( إن كنت جئت بآية فأت بها إن كنت من الصادقين ) ، ولكن حين بدأ
التغير يطال نظامه تغير منطقه وتبدلت أفعاله ، إن الأنظمة .. كل الأنظمة
الدنيوية .. تُلمُّع نفسها بالطيبين ( من إخوان أو سلفيين ) ولكنها لا تقبل
تغييراً حقيقياً .
إن الحديث عن تمكين للإسلام تحت مظلة الديمقراطية أو فوق عربة الديمقراطية حديث
ساذج ، يأباه كل ذي عقل صحيح ، وإن مغازلة الآخر من أجل التقدم كبديل للأنظمة
الديمقراطية على الطريقة العراقية ( الحزب العراقي الإسلامي ) أو الطريقة
التركية ( حزب العدالة ) لا يستقيم في بلد كمصر مثلاً أو ما شابهها من بلاد
عربية ، وأقل ما يقال في شأنه أنه قراءة ساذجة للواقع في هذه البلاد ، حيث إن
بها مداً دعوياً فكرياً قوياً يُحدّث الناس بما لا يحدثون به في تركيا .
وإن وقفه صريحة مع النفس تجعل كل ذي عقل يقول ـ عن هذه الأحلام ـ أنها حالة من
الهمود والركون ، حالة من البحث عن ظل ظليل وماء معين ينعم فيه الإنسان بالنساء
والبنين ، مكتفيا برفع شعار النضال والنصرة للدين .