|
عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال ( سبعة يظلهم الله في
ظله يوم لا ظل إلا ظله ، إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجل قبله معلق
بالمساجد ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل دعته امرأة
ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله . ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم
شماله ما تنفق يمينه ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه )
أخرجه البخاري في كتاب الزكاة باب الصدقة باليمين 3/292
رقم ( 1423 ) وفي كتاب الأذان ، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة 2/143 رقم (
660 ) ، ورواه مسلم ، كتاب الزكاة ، باب فضل إخفاء الصدقة 2/715 برقم ( 1031 )
.
الراوي :
هو الصحابي الجليل ، سيد الحفاظ الأثبات ، أبو هريرة رضي الله عنه ، اختلف في
اسمه واسم أبيه على أقوال كثيرة ، أرجحها أنه : عبد الرحمن بن صخر الدوسي ،
أسلم عام خيبر ، أول سنة سبع . قال الذهبي : ( حمل عن النبي صلى الله عليه وسلم
علماً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، لم يلحق في كثرته )
ولم يرو أحد عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر منه ، لملازمته له ، فقد بلغت
مروياته 5374 حديثاً .
وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إنكم تقولون : إن أبا هريرة يكثر
الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتقولون : ما بال المهاجرين والأنصار
لا يحدثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل حديث أبي هريرة ؟ وإن إخوتي من
المهاجرين كان يشغلهم لصفق بالأسواق وكنت ألزم رسول الله صلى الله عليه وسلم
على ملء بطني ، فأشهد إذا غابوا ، وأحفظ إذا نسوا . وكان يشغل إخوتي من الأنصار
عمل أموالهم ، وكنت امرأ مسكيناً من مساكين الصفة أعي حين ينسون ، وقد قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم في حديث يحدثه : إنه لن يبسط أحد ثوبه حتى أقضي مقالتي
هذه ثم يجمع إليه ثوبه إلا وعى ما أقول ، فبسطت نمرة علي ، حتى إذا قضى رسول
الله صلى الله عليه وسلم مقالته جمعتها إلى صدري ، فما نسيت من مقالة رسول الله
صلى الله عليه وسلم شيء) أخرجه البخاري في صحيحه ، في كتاب البيوت ـ باب ما جاء
في قول الله عز وجل : ( فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض ) في 4/247 .
توفي أبو هريرة رضي الله عنه سنة سبع وخمسين للهجرة ينظر : سير أعلام النبلاء
2/578 ، وتهذيب 12/262 .
الكلمات اللغوية :
سبعة :
هذا العدد لا مفهوم له ، فقد وردت روايات أخرى تبين أن هناك من يظلهم الله في
ظله يوم لا ظل إلا ظله ، غير هؤلاء المذكورين في الحديث .
يظلهم الله في ظله :
المراد به : ظل العرش ، كما في رواية أخرى : " في ظل عرشه " .
يوم لا ظل إلا ظله :
المراد : يوم القيامة .
إمام عدل :
الإمام لغة : هو كل من ائتم به من رئيس وغيره .
واصطلاحاً : كل من وكل إليه نظر في شيء من مصالح المسلمين من الولاة والقضاة
والوزراء وغيرهم والعدل ، ضد الجور ، والعادل من حكم بالحق .
شاب نشأ في عبادة الله :
خص الشاب بالذكر ، لأنه مظنة غلبة الهوى والشهوة والطيش ، فكان ملازمته للعبادة
مع وجود الصوارف أرفع درجة من ملازمة غيره لها .
اجتمعا عليه :
أي : على الحب في الله ، وتفرقا عليه كذلك ، والمراد : أن الذي جمع بينهما
المحبة في الله ، ولم يقطعها عارض دنيوي ، سواء اجتمعا حقيقة أم لا ، فالرابط
بينهما المحبة في الله حتى الموت .
ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال :
دعته ، أي : طلبته ، ومنصب : المراد به: الأصل والشر والمكانة ، ويدخل فيه
الحسب ، والمراد أنها دعته إلى الفاحشة .
ورجل تصدق بصدقة :
الصدقة : ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة ، سواء كان فرض كالزكاة
المفروضة ، أو تطوعاً ، ثم غلب استعمال الصدقة على صدقة التطوع .
فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق
يمينه : المراد بذلك المبالغة في إخفاء
الصدقة بحيث إن شماله قربها من يمينه لو تصور أنها تعلم لما علمت ما فعلت
اليمين ، لشدة الخفاء .
خالياً :
من الخلو ، بحيث لا يكون عنده أحد ، وإنما خص بالذكر لأنه في هذه الحالة أبعد
عن الرياء
ففاضت عيناه :
من الدموع ، خشية لله عز وجل .
الأحكام والتوجيهات :
1-
من فضل الله سبحانه وتعالى أن جعل بعض الأعمال ينال صاحبها جزاء خاصاً ، لتميزه
بهذا العمل ، وهذا فيه حث وترغيب في أمور كثيرة من الخير
وهنا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم جزاء هؤلاء السبعة الذين تميز كل منهم
بميزة خاصة ، وذكر هذا الفضل في أحاديث أخرى لغير هؤلاء السبعة ، مثل : الغازي
في سبيل الله ، والذي ينظر المعسر ، ومعين الغارم ، وكثير الخطى إلى المساجد ،
وغيرهم ، مما جعل أهل العلم يقولون أن العدد المذكور لا مفهوم له ، فلا يراد به
الحصر .
وقد تتبع الحافظ ابن حجر رحمه الله تلك الخصال ، وأفرادها في كتاب اسمه: (
معرفة الخصال الموصلة إلى الظلال ) .
2-
ذكر الرجال في هذا الحديث لا مفهوم له أيضاً ، إذ تدخل النساء معهم فيما ذكر
إلا في موضعين ، هما :
أ- الولاية العظمى والقضاء ، فالمرأة لا تلي المسلمين ولاية عامة ، ولا تكون
قاضية ، لكن ينطبق عليها العدل فيما تصح به ولايتها ، كمديرة المدرسة ، ونحوها
.
ب- ملازمة المسجد ، لأن صلاة المرأة في بيتها أفضل من المسد . وباقي الخصال
تدخل فيها المرأة .
3-
لقد عظم الشرع أمر العدل ، سواء كان في الولاية العظمى ، أو فيما دونها من
الولايات ، حتى في أمور الإنسان الأسرية ، كالعدل بين الزوجات ، والعدل بين
الأولاد ، وغير ذلك ، قال تعالى : ( وقل آمنت بما أنزل الله من كتاب وأمرت
لأعدل بينكم ) آية 15 من سورة الشورى . وقال صلى الله عليه وسلم : " اتقوا الله
واعدلوا بين أولادكم ) أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الهبة ، باب الإشهاد في
الهيبة ، 5/211 ، برقم ( 2587 ) ، أخرجه مسلم في صحيحه ، كتاب الهبات ، باب
كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة 2/1243 ، برقم ( 1623 ) . وقال تعالى : ( إن
الله يأمر بالعدل والإحسان ) آية 90 من سورة النحل . ، وقال صلى الله عليه وسلم
" إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل ، وكلتا يديه
يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا ) رواه مسلم في صحيحه ، كتاب
الإمارة ، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر 3/1458 برقم ( 1827 ) .
وذكر الإمام العادل في أول الخصال لعظم أمر الإمامة والعدل فيها .
4-
مرحلة الشباب من أهم مراحل العمر ، تقوى فيها العزيمة ، وتكثر الآراء ، وتمتلئ
بالحيوية والنشاط ، ولهذا من سلك منهج الله في شبابه ، وغالب هواه ونزواته ،
استحق تلك الدرجة العالية المذكورة في الحديث ، وما يعين الشباب على تحقيق هذه
الخصلة :
أ- طلب العلم والانشغال به .
ب- تعويد النفس على استغلال الوقت بشتى الوسائل ، كبر الوالدين ، وقضاء
حوائجهما ، وقراءة سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وسيرة السلف الصالح .
ج- مصادقة الصالحين المستقيمين على منهج الله تعالى .
د- محاولة استغلال فرصة الشباب بحفظ كتاب الله تعالى أو شيء منه .
5-
المساجد بيوت الله ، ومكان أداء العبادة المفروضة ، وأنواع من العبادات
المستحبة ، وميدان العلم والتعلم ، والمذاكرة و المناصحة ، وكلها أعمال جليلة،
يستحق الملازم لها ذلك الثواب العظيم ، بالإضافة إلى أن المتعلق بالمسجد بعيد
عن رؤية المنكرات ، وقريب من الله سبحانه وتعالى ، فيصفو قلبه ، وتنجلي همومه
وأكداره ، ويعيش في روضة من رياض الجنة ، وبذلك تكفر سيئاته ، وتكثر حسناته
والتعلق بالمساجد لا يعني الجلوس فيها جميع الأوقات ، بل وقت دون وقت ، لكن إذا
خرج منها فإنه يحب الرجوع إليها ، وإذا جلس فيها أنس واطمأن وارتاحت نفسه .
6-
العلاقات بين الناس قائمة على أسس متعددة من مصالح مادية ، وقرابة ، وشراكة
مالية ، وتجانس خلقي ، ونحوها ، والإسلام يشجع قوة الترابط بين المسلمين على
أساس من المحبة في الله ، والقاسم المشترك فيها طاعة الله تعالى ، ونصوص الكتاب
والسنة تركز على هذا الجانب ، يقول تعالى : (إنما المؤمنون إخوة ) آية 10 من
سورة الحجرات . ويقول تعالى ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ) آية
67 من سورة الزخرف . ، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم : " أوثق عري الإيمان :
الحب في الله . والبغض في الله ) أخرجه الطبراني في الكبير 10/271 ، برقم (
10531 ) ، والحاكم في المستدرك 2/480 ، وصححه الشيخ الألباني بشواهده في
السلسلة الصحيحة 4/206 برقم ( 1728 ) .
7-
للنفس البشرية رغبات وشهوات ، وجه الإسلام لإشباعها بمنهج ثابت معلوم ،
والشيطان حريص على أن يميل الإنسان مع شهواته ويتبعها حتى يشاركه في الغي
والضلال ، ومما يميل إليه الرجل المرأة ، فإن اتصفت بصفات الجمال والمنصب
والحسب والشرف ، كان إليها أكثر ميلاً ، فإذا ما كانت الدعوة موجهة منها ، مع
الأمن من الخوف تساقت إليها نفس الرجل أكثر ، وهنا يظهر داعي الإيمان عند
المؤمن الصادق ، فيقول : إني أخاف الله ، فإذا قالها بلسان وصدقها عمله ، نال
جزاءه العظيم المذكور في الحديث ، وهكذا يريد الإسلام بأن يكون الرجال والنساء
أعفاء شرفاء ، بعيدين عن الفواحش والآثام والمحرمات ، يراقبون الله سراً
وعلانية .
قال الشاعر :
وإذا خلوت ريبة في ظلمة *** والنفس داعية إلى
الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها *** إن الذي خلق الظلام يراني
8- الصدقة
مبدأ عظيم ، وفضلها جسيم ، وثمارها يانعة ، في الدنيا والآخرة ، لا تحصى النصوص
في بيان فضلها وثوابها ، ومضاعفة الأجر لصاحبها ، وقربه من الجنة ورضا الله ،
وحجبه عن النار ، يقول الله تعالى : ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله
كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله
واسع عليم ) آية 261 من سورة البقرة .
والصدقة فاضلة سراً وعلانية ، يقول تعالى : ( إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن
تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم والله بما تعملون
خبير ). الآية 271 من سورة البقرة .
والأفضل في إظهار الصدقة أو إخفائها يختلف باختلاف الأحوال ، فإن كان في
إظهارها مصلحة فهو أفضل ، وإلا فإخفاؤها أفضل فرضاً ونفلاً.
9-
ذكر الله تعالى من أفضل الأعمال ، ومن أيسرها ، فقيه ثناء على الله ، وتمجيد ،
وحمد ، وشكر له بما هو أهله ، واعتراف بالتقصير تجاهه ، وإذا كان هذا الثناء
والذكر بعيداً عن أعين الناس ، وأثر في صاحبه خوفاً وخشية دمعت منها عيناه ،
أثابه الله تعالى على هذا الذكر الصادق الخالص بأن يظله في ظله يوم لا ظل إلا
ظله .
10-
مما أفاده الحديث : إخلاص العبادة لله جل وعلا ، فالأمر الجامع بين العمال
المذكورة في الحديث إخلاصها لله سبحانه وتعالى ، وتجريدها عن المقاصد الأخرى .
11-
ومن الأمور الجامعة بين هذه الصفات أيضاً : الصبر والتحمل ، ولا شك أن طاعة
الله تعالى وتنفيذ أوامره تحتاج إلى صبر و مصابرة ، لأن فيها معارضة للشيطان
والنفس والهوى ، فإذا جاهدهم وانتصر عليهم استحق الجزاء الأوفى.
12-
مما يرشدنا إليه الحديث أيضاً : أن يحرص المؤمن على أن يوجد له عملاً خفياً لا
يعلم عنه أحد من الناس ، ليكون أبعد عن الرياء ، وليتعود الإخلاص، فإن هذا مما
يزيد ممارسته لتلك الأعمال الجليلة .
نقل بتصرف وتعديل