الحمدُ للهِ وكفى، وصلاةً وسلاماً على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فالإنسانُ بطبعه يميلُ للتثبُّت من صحة أيّ أمرٍ لا يتيقنُ منه، لأنَّ
سكينةَ النفسِ، وطمأنينةَ القلبِ، وزوالَ الشك لا تحصلُ إلا باليقين، ولا
يقينَ من غير تثبُّت، ولا تثبُّت من غير دليلٍ قاطع.. ولذا فمن الطبيعي ألا
يقبلَ إنسانٌ دعوىً إلا ببينةٍ وبرهان، ولا يُسلِّمَ لحكمٍ إلا بدليلٍ
وإثبات..
وتعريفُ الدليلِ هو الطريقُ الموصلُ إلى إثباتٍ أمرٍ ما أو نفيهِ بطريقةٍ
مُعتبرةٍ.. ومن البديهي أنه كلَّما عظمُ الأمرُ اشتدَّت المطالبةُ
بالدليلِ..
ولا شكّ أنَّ أعظمَ القضايا هي قضيةُ وجودِ الخالقِ سبحانه، ومصداقيةُ
رسولهِ ﷺ، فهي القضيةُ التي ينبني عليها مصيرُ الانسانِ ومستقبلهُ الأخروي:
فإمّا سعادةٌ أبدية، أو شقاءٌ سرمدي.. ومن فضل اللهِ ورحمتهِ أنَّ الأدلةَ
التي تثبتُ وجودَ الخالقِ كثيرةٌ ومتنوعة، كالدليل العقلي، والدليل العلمي،
ودليلُ الفطرة، والدليلُ الأخلاقي، والتاريخي، والجمالي، واللغوي، وغيرها
من أنواع الأدلة.. وفي هذا المقالِ سأتحدثُ عن نوعٍ واحدٍ فقط منها، وهو
الدليلُ التاريخي.. أمّا بقيةُ الأنواعِ الأخرى فقد تحدثتُ عن كل نوعٍ منها
في مقالٍ مستقل، وتم نشرهُ في هذا الموقعِ المباركِ بحمد الله..
أيها القارئ الكريم: من يقرأ التاريخَ بتأملٍ وتجرّدٍ، يلحظُ أنَّ هناكَ
أمراً موحداً مشتركاً بين جميعِ الأممِ والحضاراتِ، رغمَ تباينِ البيئاتِ،
واختلافِ الثقافةِ واللغاتِ، هذا الأمرُ الموحدُ هو الإيمانُ العميقُ بوجود
قوةٍ عُليا تُسيّرُ الوجودَ، وتتحكَّمُ في شوؤن الكائناتِ.. يَشهدُ لذلك
وجودُ ما لا يُحصى من النقوشِ والرسومات، والطقوسِ وأماكنِ العبادات..
وإنه لأمرٌ مثيرٌ أن نرى الإنسانَ حيثما وُجدَ، يُعبّرُ عن حاجتهِ إلى "ما
وراء" هذا العالمِ المحسوس، ويتجهُ إلى معابدَ وصلواتٍ، وطقوسٍ وممارساتٍ،
يستمدُ بها العونَ من قوةٍ غيبيةٍ يراها أعلى وأقدر.. وهذا ما يجعلنا
نتساءل: لماذا لم تنشأ ولو أُمَّةً واحدةً بلا مُعتقدٍ ديني أو بدونِ تصورٍ
ما عن قوةٍ غيبيةٍ عُليا؟.. فلو كان الدينُ اختراعًا اجتماعيًا محضًا، أو
مجرّدَ خُرافةٍ مُفيدةٍ كما يزعمُ بعضَ الملاحدةِ، فلماذا لم تنشأ مجتمعاتٌ
بلا أيّ مظهرٍ إيمانيٍّ؟.. ولماذا استمرَ هذا الميلُ الغريزيٌ إلى الإيمان
آلافَ السنين، رغمَ تبدُلِ الفلسفاتِ والأيديولوجياتِ، وتعاقبِ الأجيالِ
وتنوعِ الثقافاتِ..
ثم إنّه من الثابت تاريخياً أنَّ الدينَ سابقٌ للكتابة، وأنهُ أقدمُ من
سائر الفنونِ والآدابِ، بل إنهُ كان هو الحافزُ الأولُ لبناء المدنيَّةِ
والحضارة، يشهدُ لذلك نماذجُ عمرانيةٌ متقدمةٌ، كمعابد بابلَ، وأهراماتِ
مصرَ، وأبراجِ حضارةِ المايا، وكنائسِ النصارى، ومساجدِ المسلمين..
بلغةٍ أخرى: فهذا الإيمانُ بوجود قوةٍ عليا ليس طارئًا على الإنسانِ، بل هو
جزءٌ أصيلٌ من تكوينهِ الفطريِّ والتاريخيِّ.. ولو تتبعنا تحولاتِ التاريخِ
الكبرى، لوجدنا أنَّ أبرزها وأقواها هي التحولاتِ الدينيةِ..
فدعوةُ نوحٍ عليه السلامُ غيّرت ملامحَ البشريةِ، وحنيفيةُ إبراهيمَ عليه
السلامُ أسقطت صنميةَ بابلَ، وموسى عليه السلامُ أقامَ أمَّةً جديدةً وسطَ
التيه، وتعاليمُ عيسى عليه السلامُ غيرت قبائلَ وشعوبَ البحرِ المتوسطِ،
وبعثةُ محمدٍ ﷺ أعادت رسمَ خريطةَ العالمِ الروحيةِ والثقافيةِ..
ثم إنَّ محاولاتِ إقصاءِ الإيمانِ عبرَ الإلحادِ الرسمي كما في الشيوعيةِ،
أو عبرَ ماديةِ الغربِ الحديث، لم تستطع أن تُطفئَ هذا الميلَ العميقَ نحو
الإيمانِ، فما أن زالت الموانعَ حتى عادت الشعوبُ تبحثُ عن الإيمانِ من
جديد..
كما أنّ هناك نمطٌ من أنماط التاريخ، يتكررُ باستمرار، إلا أنه من الصعب
تبريرُه تبريراً ماديًا.. فهذا النمطُ الغريبُ يحصلُ عندما ينشبُ صراعٌ بين
قلةٍ مؤمنةٍ مستضعفة، ضدَ كثرةٍ طاغية متجبرة.. والذين مهما بلغوا في
كثرتهم وسطوتهم، وقوةِ عتادهم وأسلحتهم، فإنهم لا يلبثُوا أن ينهاروا أمامَ
ثباتِ أهلِ الحقِّ وصمودهم، وصبرهم المذهل، وأنَّ هناكَ "قوةً ما" تجعلُ
كفّة القلة ترجحُ على كفّة الكثرةِ فتغلبها.. كما قال تعالى: {كَم مِّن
فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ
الصَّابِرِين} [البقرة:249].. ولئن قال قائلٌ: إنما هي مجردُ مُصادفاتٍ، أو
تقلباتٍ في ميزان القوى.. فإن ما أثبتهُ التاريخُ من تكرارها مِرارًا، لا
يتوافقُ مع تصنيفها كصدفٍ عشوائيةٍ..
والعاقلُ المنصفُ يجزمُ أنّ هناكَ قوةً خفيةً تتدخلُ لكي تحفظَ التوازنَ،
وتنصرَ المظلومَ، وتُعاقِبَ الظَّالمَ، وتُديرَ هذا الكونَ بحكمةٍ وميزانٍ
دقيقٍ..
وإنَّ من يدرسُ حياةَ الأنبياءِ، وسِيرَ المصلحينَ، ويتأمّلُ في كيفية
سقوطِ الجبابرةِ، ومَصارعِ الطُّغاةِ، ونهايةِ الظّلمةِ، يُدركُ أنّ للكون
قانونًا غيرَ مرئيٍ لكنه لا يقلُ حضورًا وتأثيراً عن قانون الجاذبيةِ، إنه
قانونٌ يحكمُ قيامَ الأُممِ وسُقوطها، ويميلُ بالكفة -ولو تأخر- لصالح
المظلومِ، ويجعلُ نهايةَ الباطلِ وهلاكهِ حتمياً، ولو بدا عظيمًا منيعاً في
وقتٍ من الأوقات.. إنه "قانونُ العدالةِ المؤجلة".. الذي لخصهُ بعضُ
الفلاسفةِ بقوله: "عجلةُ العدالةِ وإن كانت تدورُ ببطءٍ، لكنها لا تتوقفُ
أبدًا"..
وإذا بحثنا عن تفسيرٍ موضوعيٍّ لهذه القوانينِ الأخلاقيةِ والتاريخيةِ، فلن
نجدَ في المنهج الماديِّ المحضِ ما يشفي الغليل.. على الرغم من أن الإنسانَ
لا يحتاجُ إلى مُعجزةٍ خارقةٍ ليشعرَ بأنّ الأمورَ تسيرُ بإتجاهٍ مُعاكسٍ
لما هو مُتوقعٌ.. وأن هناك واقعاً يُفرضُ فرضاً لينصرَ المستضعفين رغمَ
قلتهم وضعفهم، ويُهلك الطغاةِ رغمَ كثرتهم وقوتهم..
مما يبين بوضوح: أنَّ هناكَ ما هو وراءَ المادةِ، وما فوقَ التوازناتِ
والمصالح.. هناك قوةٌ خفيةٌ تُمسكُ بخيوط الأحداثِ من وراءَ الستارِ،
وتُهيّئُ للحقِّ انتصارهُ، وللباطل نهايتهُ، وللأممِ مصائرها؟.. هناكَ
"عدالةٌ عُليا" تُديرُ هذا العالمَ بكلِّ حِنكةٍ واقتدار..
ربما كانَ من الصعب إثباتُ هذا بالمعادلات، لكنَّ القلبَ حين يتجردُ،
والعقلَ حينَ يتأمّلُ، فإنَّ كلاهما يقولُ: ما من شيءٍ في الكون يجري
عبثًا، والنهاياتُ مرتبطةٌ بالمقدمات، والتاريخ كلهُ دروسٌ وحِكمٌ
ودِلالات..
ولئن أنكرَ البعضُ وجودَ الخالقِ جلَّ وعلا، فإنَّ التاريخَ لا يُنكرهُ،
ولئن جَحدوا آثارَ ربوبيتهِ، فإنَّ حركةَ الزمانِ وتقلباتهِ تُبرزها
بوضوحٍ، ولئن غَفلت بعضُ القلوبِ، فإنَّ مصارعَ الطغاةِ تُوقظِها وتُعيدها
إلى فطرتها..
{قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ
الْمُجْرِمِين} [النمل:69]..
ومتى تجردَ الانسانُ وأصغى لصوت الفطرةِ في داخله.. فسيجدُ أنَّ كلَّ
الشواهدِ، وكلَّ السُّننِ، وكلَّ الوقائعٍ تصرخُ في وجه الغفلةِ: كفى فإنَّ
لهذا الكونِ رباً عظيماً، لم يخلق خلقَهُ سُدى، ولم يتركهُم هملاً، بل
أرسلَ إليهم رُسلاً، وأنزلَ معهم كُتباً، وزيّنَ في قلوبهم حُبَّ الإيمان..
فـ{مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا
رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيد} [فصلت:46].. وإنّك لترى في كلِّ حضارةٍ
آثارَ عبادةٍ، وفي كلِّ أمةٍ بقايا دعوةٍ، وفي كلِّ نفْسٍ توقاً إلى العدلِ
والجمالِ والحقِّ، فهل كلُّ هذا من عبث المصادفةِ؟.. أم هيَ البصمةُ
الخالدةُ لربٍّ عظيم، أودعَ نورها في الفِطر، وخلّدَها في ضمير الإنسان،
وبثها في ربوع الكون، وكررها في أحداث التاريخ.. {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي
الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ
يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى
الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور} [الحج:46]..
وهكذا فإنَّ التاريخَ ليس مجردَ وقائعَ باردةٍ، بل هو دليلٌ حيٌّ مُتجددٌ
على وجود الإلهِ ورحمته، وعدلهِ وحكمتهِ.. وأنهُ حيٌّ قيومٌ لا يغفل ولا
ينسى، له سُننٌ ربانيةٌ لا تتخلف، وقانونٌ سماويٌّ مُنصف.. يتسللُ بلطفٍ
وخفاءٍ، لينصرَ الحقَّ وأهلهُ، ويُديرَ الدائرةَ على الِباطل وأهله..
{كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ
عَزِيز} [المجادلة:21]..
فنسألُ اللهَ أن يشرحَ صدرونا جميعاً للحق، وأن يهدينا سواء السبيل..
وأخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين..