الجمال من أدلة اثبات وجود الخالق جلّ وعلا

الجمال من أدلة اثبات وجود الخالق جلّ وعلا

عبدالله محمد الطوالة

 
بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلاماً على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فالإنسانُ بطبعه يميلُ للتثبُّت من صحة أيّ أمرٍ لا يتيقنُ منه، لأنَّ سكينةَ النفسِ، وطمأنينةَ القلبِ، وزوالَ الشك لا تحصلُ إلا باليقين، ولا يقينَ من غير تثبُّت، ولا تثبُّت من غير دليلٍ قاطع.. ولذا فمن الطبيعي ألا يقبلَ إنسانٌ دعوىً إلا ببينةٍ وبرهان، ولا يُسلِّمَ لحكمٍ إلا بدليلٍ وإثبات..
وتعريف الدليلِ هو الطريقُ الموصلُ إلى إثباتٍ أمرٍ ما أو نفيهِ بطريقةٍ مُعتبرةٍ.. ومن البديهي أنه كلَّما عظمُ الأمرُ اشتدَّت المطالبةُ بالدليلِ..
ولا شكّ أنَّ أعظمَ القضايا هي قضيةُ وجودِ الخالقِ سبحانه، ومصداقيةُ رسولهِ ﷺ، فهي القضيةُ التي ينبني عليها مصيرُ الانسانِ ومستقبلهُ الأخروي: فإمّا سعادةٌ أبدية، أو شقاءٌ سرمدي.. ومن فضل الله ورحمته أنَّ الأدلة التي تثبتُ وجودَ الخالقِ كثيرةٌ ومتنوعة، كالدليل العقلي، والدليل العلمي، ودليلُ الفطرة، والدليلُ الأخلاقي، والتاريخي، والجمالي، واللغوي، وغيرها من أنواع الأدلة.. وفي هذا المقال سأتحدثُ عن نوعٍ واحدٍ فقط منها، وهو الدليلُ الجمالي.. أمّا بقيةُ الأنواع الأخرى فقد تحدثتُ عن كل نوعٍ منها في مقالٍ مستقل، وتم نشرهُ في هذا الموقع المبارك بحمد الله..
أيها القارئ الكريم: حبُّ الجمالِ مغروسٌ في أعماق النفسِ البشرية.. والكلُّ يتذوقُ الجمالَ وينجذبُ إليه بلا تعليمٍ سابقٍ، حتى الصغيرُ وقليلُ التَّعلُّمِ، وحتى الأعمى يشعرُ بنبراتِ الجمالِ في الصوت والكلمةِ والملمَسِ الحاني.. فمن الذي أودعَ فينا حبُّ الجمال؟.. ومن الذي بثّ كلَّ في ربوع الكونِ كلِه هذا الجمال الفاتن؟..
فحيثما وجهتَ بصركَ وبصيرتك فسترى إبداعاً وتناسُقاً، وجمالاً ساحراً.. جمالٌ يمتدُ ليملأ الوجود كُلّهُ من أدناهُ إلى أقصاه.. انظرُ إلى ارتفاع السماءِ، وشموخِ الجبالِ، وانحدارِ الأودية، وخُضرةِ الغابات، وزُرقةِ البحار، وانبساطِ الأرض وامتدادِها.. تأمّل في تكوين البلورات، في تناسقِ ألوانِ الطيورِ والأسماكِ والفراشات، في تموّج الرمالِ الذاريات، في هدير الأمواجِ العاليات، وفي تنوّع الزروعِ والنباتات.. فكُلُّ ورقةٍ لها خُضرتها ولها شكلُها، وكلُّ زهرةٍ لها لونها ولها عِطرُها، وكل شجرةٍ لها ثمرتها ولها طعمُها..
فإذا تأملتَ عالم الحيوانِ، فإنك لا تجدُ كائنًا حيًّا إلا وفيه لمسةُ جمالٍ ظاهرة، وبصمةُ حُسنٍ وإبداعٍ مبهرة..
انظر إلى الطاووس حين يستعرضُ بجمالِ ريشِه، وانظر إلى الفَرَسِ العربيّ وروعةِ تقاسيمه.. وتأمّل في رقة الغزالِ ورشاقته، وجمالِ عينيهِ وتناسُقِ حركته.. وانظر إلى النمرِ وألوانهِ الزاهية، وعضلاتهِ المشدودةِ القوية، وجسدهِ الرشيقِ المتناسقِ، قد جمعَ الجمالَ والهيبة معاً.. وتأمّلِ الوعلَ الجبليَّ، بجمال قرونهِ وخفةِ حركاتهِ، ورشاقةِ قفزاتهِ فوقَ الصخورِ العالية.. حتى الثعلبَ في مكْرهِ وتحايله، يوحيِ لك بأنَّ الجمالَ ليسَ في الصورة فقط، بل قد يكونُ في التحايلِ والدهاء.. وانظر إلى الدبِّ القطبيّ، وقد جمعَ بين القوةِ واللُّطْف، والرّهبةِ وصفاءِ اللون، كأنما نُحتَ من الثلج.. وانظر إلى الأسدَ في عُلوّ جبهتهِ، وكثافةِ لُبدتهِ، وقوةِ شخصيتهِ، وكيف تجسدت فيه قوةُ الجمالِ، وجمالُ القوةِ.. وانظر إلى الأبلِ بعينٍ خاصةٍ، فكم هي عجيبةٌ في خِلقتها، قويةٌ في تحمُلِها، صبورةٌ في خدمتِها، حفيَّةٌ بمن يركبُها، طيعةٌ له رغمَ ضخامتها.. قد جمعت بين قوةِ التّحمُّلِ وروعةِ الجمالِ ما لم يجمعهُ غيرها.. وهكذا فما مِن حيوانٍ إلا وفيه صورةٌ من صور الجمال: في هيئته وألوانهِ، أو في مهارته وأدائهِ، أو في رقته وصفائهِ، أو في تحايله وذكائهِ، أو في صوته وغنائهِ، أو في تضحيته ودفاعه عن أبناءهِ..
أمّا إذا نظرتَ إلى تراكيب السُّحبِ وتكويناتها، فإنها أشبهُ ما تكونُ بالجبال الشّاهقة، لكنها ليست ثابتةً، وإنما هي في تغيّرٍ وحركةٍ دائمة، {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُون} [النمل:88].. وإذا نظرت إلى الجبال والتلال، فكأنما هي تماثيلٌ منحوتة، بعضها مكسوةٌ بالنبات، وبعضها جرداءُ ملساء، وأخرى قد تجمّلت بقممٍ من الثلج بيضاء.. ولو نزلْتَ إلى أعماق البحار، ستجدُ شِعاباً مُرجانيةً كأنها حدائقُ غناء، معلقةٌ في وسط الماء.. وانظر إلى الأزهار كيفَ تميلُ برأسها نحو الشمسِ تتابُعها، وكيف يفوحُ عِطرها ليجذبَ النّحلَ يُلقِّحُها.. وتأمّل بيوتَ النحلِ ما أبدعها، كأنما رُسمت بمسطرة مُهندسٍ.. وانظر إلى العناكب كيفَ تنسِجُ بيوتها بخيوطٍ دقيقةٍ رقيقة, لكنها أقوى من الفولاذ نسبةً إلى وزنها، قد حاكتها بإتقانٍ مُذهل، فمن ألهمها، ومن درّبها؟.. ومن علّمَ العصفورَ بناءَ عُشهِ بطريقةٍ فنيةٍ فائقةِ الاتقان.. ومن جعلَ القمرَ مضرباً للمثل في الروعة والجمال؟.. ومن صَبغَ الأفقَ مع كل غروبٍ بذلك اللون البرتقالي المهيب؟..
أما الجمالُ السمعي فشاهدٌ آخرُ على يد القدرةِ المبدعةِ، التي تملأ الكونَ بالمتعة والبهاء.. أصواتُ الرياح، وحفيفُ الأشجارِ، وخريرُ الجداولِ، وهديرُ الأمواجِ والشلالاتِ، وتغريدُ البلابلِ وشقشقةُ العصافيرِ.. وغيرها من الأصوات العذبة، والألحان الشجية، والتي تشكلُ لوحاتٍ ومشاهدَ لا تنتهي من الجمال السَّاحرِ، والإبداعِ الفتّان، وكلُّ لوحةٍ فيها من الروعة والحكمةِ، واللطفِ والرحمة، ما يُبهجُ النفسَ، ويبهرُ العقلَ، ويستثيرُ المشاعرَ، ويستنطقُ الأفواهَ، تسبيحاً للخالق الجليلَ، {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُون} [الروم:17].. فهل يُعقلُ أن يكونَ كلُّ هذا وليدَ صُدفةٍ لا عقلَ لها؟!..
أليس في جمال خِلقةِ الإنسانِ وروعةِ تركيبهِ ما يلفتُ الأنظارَ، وكيف أنهُ قد جمعَ بين جمالِ الخِلقة، وجمالِ العقلِ، وجمالِ النفسِ، وجمالِ الأخلاقِ، وجمالِ التعبيرِ، وجمال الصوتِ.. وأنّ كل هذا بصمةُ خالقٍ جميلٍ يُحبُّ الجمال، و{الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِين} [السجدة:7].. وخلقه في أحسن تقويم.. وأنّ كلَّ ذلك ينمُّ عن رسالةٍ واضحةٍ، أنَّ ما أنعمَ اللهُ به من الجمال على جميع مخلوقاته هو جمالٌ مقصودٌ بذاته.. جمالٌ له هدفٌ وغاية، جمالٌ يُشعركَ أنّ الله تعالى لم يكتفِ بأن خلقَ الخلقَ ورزقَهم، بل وأرادَ أيضاً أن يُسعدَهم، وأن يملأ قلوبهم سُرورًا وبهجة.. ولا غرابةَ فاللهُ جميلٌ ويحبُّ الجمال..
ولو أنّ الكونَ وجِدَ صُدفةً كما يزعمون، لما كان فيه شيءٌ من هذا السِّحرُ الفتَّان، ولما حوى كلَّ هذهِ البهجةِ المنتشرةِ في كلِّ مكان.. ولكانَ كُلُّ شيءٍ أكواماً من الخرابَ والفوضى.. لكننا أينما توجهنا نرى الجمال في كلّ مكان، ثم هو جمالٌ موزونٌ بنسبٍ دقيقةٍ وثابتةٍ.. وكلُّ هذا دليلٌ قويٌ على وجود خالقٍ مُحبٍّ للجمال، مُبدعٍ لكلِّ كمال.. ولك أن تتأملَ فالكونُ كلّهُ كتابُ جمالٍ مفتوح، ومحرابٌ كبيرٌ لسجود العقلِ والروح.. فإذا هزّكَ الجمالُ وابهرك، وأثارَ شجونك وألهبَ مشاعرك، فاعلم أنَّ كلَّ ما في الكون من إبداعٍ وجمالٍ، إنما هو أثرٌ من آثار جمالِ الكبيرِ المتعال.. وأنّ اللهَ ما خلقَ الجمالَ وبثهُ في الكون إلا ليُعرفَ به ويُعْبَدَ من خلاله، وليكونَ طريقًا إلى محبته وتعظيمهِ وإجلاله.. {أَفَلَمْ يَنظُرُوا إِلَى السَّمَاء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوج * وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيج * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيب} [ق:6]..
فالجمالُ طريقٌ موصِلٌ إلى الله.. لأنه يوقظُ الإحساس، ويستثيرُ العقل، ويُبهرُ النفس، ويقودُ القلبَ إلى التعظيمِ والتسبيح.. {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} [آل عمران:191].. إنه رسالةٌ واضحةٌ من الخالق الجليل: "أنهُ جميلٌ يُحبُّ الجمال.. ويريدكَ أن تتعرفَ عليَّه من خلال الجمالِ الذي بَثَّهُ في كلِّ شيء"..
حتى في مشاهد العُنفِ الطبيعي، كالبراكينِ والعواصفِ والأمواجِ العاتية، فإنك ستجدُ مع الرهبةِ عظمةً وجمالًا خاصًا: تأمّل: أشكالَ الحممِ المتدفقة.. وضرباتِ البرقِ الصاعقة.. وأصواتَ الرعدِ المزمجرة.. وتموجاتِ الأعاصيرِ الهادرة.. وأمواجَ البحرِ العاتية.. لترى جمالاً "مهيباً"، لا يمكنُ تفسيرهُ بالعشوائية، بل هو توقيعُ العظمةِ الإلهية.. بما فيه من قوةٍ ونظامٍ وهيبة..
ولقد ألهمَ اللهُ الإنسانَ حبَّ الجمالِ وتذوقه؛ فالشعراءُ يتغنّونَ بجمال المحبوبِ، والرسّامونَ يُحاكونَ مشاهدَ الطبيعة، وما من أحدٍ إلا ويتذوق الجمال وينجذب له، حتّى الأطفالُ بفطرتهم يحبّونَ الألوانَ الزاهيةَ والأصواتَ العذبة.. فمن أين جاءَ هذا الميلُ إنْ لم يكن موهوباً من الخالقِ الجليل، والذي هو أصلُ كل جمالٍ ومصدره..
وكلما ازددنا تأملًا في الجمال، ازددنا يقينًا أنَّه لم يُخلق عبثاً ولم يوجد صُدفةً.. وإنما هو لمسةٌ مقصودة، وإبداعٌ له هدفٌ وغاية، ورسالةٌ ممهورةٌ بتوقيع الخالق: (صُنْعَ اللهِ الذي أتقنَ كلَّ شيءٍ)..
وإذا أردت أمثلةً حيةً فتأمّل تصميم قزحيةِ العينِ ودقتها الهندسية الفائقة.. وفي تركيب الأسنانِ وكأنها عقدٍ من اللؤلؤ المنضود، وفي تشكيلات الشعابَ المرجانيةَ وألوانِها البديعة، وتموّجاتِها العجيبة.. وفي قوسَ المطرِ وكأنه جسرٌ من الألوان يحيرُ الناظرين، وفي تغريد العندليبَ بألحانٍ تُشجي السامعين.. وفي سحر الأزهارِ وروعةِ منظرها، ورقّة ملمسِها، وجاذبيةِ عطرَها.. ألا إنَّ الذي بثَّ الجمالَ في المخلوقات، وسكبهُ في صورها وأرواحها وعلاقاتها، لهو الجميلُ الذي يحبُّ الجمالَ.. ألا وإنَّ القلوبَ السليمةَ حين تتذوقُ الجمالَ وتتعمقُ فيه، توقنُ أنَّه لم يوجد إلا عن علمٍ وإرادة.. وأنه لا يمكنُ أبداً أن ينشأَ صُدفةً بلا تدبير، ولا أن يتوالدَ عشوائيًا بلا تقدير.. فالصدفةُ يستحيلُ أن تُبدعَ هذه اللوحات الجمالية، أو أن تعزفَ هذه الألحانَ الشجية، أو أن تنفُثَ هذه العطورَ الزكية.. ولو كانَ الجمالُ صدفةً، لَما اتّسقَ قلبُ الإنسانِ وبصرهُ معَ ألوان الطبيعةِ ومناظرها الخلابة، ولما ارتاحت أذنُه لألحانِ الطيرِ وحفيفِ الأشجارِ وهمسِ النسيم، ولما أنِسَ أنفُهُ لعبيرِ الزهورِ وعبقِ المطر.. فكلُّ ما في الوجود من حُسنٍ وإبداعٍ وجمالٍ، إنما هو أثرٌ من آثار الجميلِ المتعال.. {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير} [الروم:50]..
نسألُ اللهَ أن يشرح صدرونا جميعاً للحق، وأن يهدينا سواء السبيل..
وأخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين..