اللغة من أدلة اثبات وجود الخالق جلّ وعلا

اللغة من أدلة اثبات وجود الخالق جلّ وعلا

عبدالله محمد الطوالة

 
بسم الله الرحمن الرحيم

 
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلاماً على عباده الذين اصطفى، وبعد:
فالإنسانُ بطبعه يميلُ للتثبُّت من صحة أيّ أمرٍ لا يتيقنُ منه، لأنَّ سكينةَ النفسِ، وطمأنينةَ القلبِ، وزوالَ الشك لا تحصلُ إلا باليقين، ولا يقينَ من غير تثبُّت، ولا تثبُّت من غير دليلٍ قاطع.. ولذا فمن الطبيعي ألا يقبلَ إنسانٌ دعوىً إلا ببينةٍ وبرهان، ولا يُسلِّمَ لحكمٍ إلا بدليلٍ وإثبات..
وتعريفُ الدليلِ هو الطريقُ الموصلُ إلى إثباتٍ أمرٍ ما أو نفيهِ بطريقةٍ مُعتبرةٍ.. ومن البديهي أنه كلَّما عظمُ الأمرُ اشتدَّت المطالبةُ بالدليلِ..
ولا شكّ أنَّ أعظمَ القضايا هي قضيةُ وجودِ الخالقِ سبحانه، ومصداقيةُ رسولهِ ﷺ، فهي القضيةُ التي ينبني عليها مصيرُ الانسانِ ومستقبلهُ الأخروي: فإمّا سعادةٌ أبدية، أو شقاءٌ سرمدي.. ومن فضل اللهِ ورحمتهِ أنَّ الأدلةَ التي تثبتُ وجودَ الخالقِ كثيرةٌ ومتنوعة، كالدليل العقلي، والدليل العلمي، ودليلُ الفطرة، والدليلُ الأخلاقي، والتاريخي، والجمالي، واللغوي، وغيرها من أنواع الأدلة.. وفي هذا المقالِ سأتحدثُ عن نوعٍ واحدٍ فقط منها، وهو الدليلُ اللغوي.. أمّا بقيةُ الأنواعِ الأخرى فقد تحدثتُ عن كل نوعٍ منها في مقالٍ مستقل، وتم نشرهُ في هذا الموقعِ المباركِ بحمد الله..
أيها القارئ الكريم: منذُ أن وُجدَ الإنسانُ على وجه الأرضِ وجدت معه لغتهُ التي يتكلّمُ بها.. ولا تكادُ توجدُ أمّةٌ في التاريخ إلا وفي لغتها اسمٌ تعبّرُ به عن الخالق العظيمِ جلّ وعلا، سواءً أسمتهُ: إيل، أو إلوه، أو ألُهيم، أو ثيوس، أو ديوس، أو خدا، أو بوغ، أو الله.. فكلّها رغم اختلافِ البيئاتِ واللغاتِ معانٍ متقاربةٍ تعبّرُ عن الإلوهيةِ والعلوِ والجلال.. وتطلق على الإله العظيم، الذي يُعتقدُ أنه خالقُ كلِّ شيءٍ، المدبّرُ، المستحقُّ للعبادة، المنزّهُ عن النقصِ، المجيبُ للنداء، الملاذُ عند الخوفِ، المستغاثُ عندَ الضرِّ.. بل إنّ كثيراً من تلك الأسماء بينها تشابهًا صوتيًا، يدل على أن لها أصلاً مُشتركاً.. وهذا معناهُ أنَّ فكرةَ الإلهِ لم تنشأَ من خيال الإنسان، بل كانت استجابةً لنداءٍ داخليٍّ فيه، اسمهُ الفطرة، عبّرَ عنهُ الإنسانُ بلغته حين تكلّمَ، واستشعرهُ في قلبه قبلَ أن يعرفَ الأحرف..
وهنا يتجلّى الدليلُ اللغوي بوصفه أكثرَ من ملاحظةٍ صوتية، بل هو دليلٌ أنثروبولوجيٌّ فطريٌّ تاريخيٌّ، يتلاقى فيه اللسانُ مع الوجدانِ مع الزمانِ، ليُثبت أنَّ الإيمانَ بالله جزءٌ من اللغات ومن الأبجدياتِ العقلِية..
ومن المقرّر في علم اللغةِ أنَّ المعنى يسبقُ اللفظَ، فما من اسمٍ يوضعُ إلا ويُسبقُ بتصوّرٍ ذهنيٍّ لمعناه.. ولا يَبتَكِرُ الناسُ كلمةً إلا ولها مَدلولٌ يرمزُ لشيءٍ موجودٍ في أذهانهم.. ولذلك لم يكن هناك كلماتٍ مثل: "الهاتف"، و"الكمبيوتر"، و"القمرِ الصناعي" قبل اختراعها، لأنها لم تكن معروفةَ المعنى من قبل.. فإذا كان هذا هو القانونُ اللغوي العام، فكيفَ نُفسّرُ وجودَ اسمِ "الله" أو مرادفاتهٍ في أقدم نقوشِ البشرِ، وفي جميع اللغات، البدائيةِ منها والحديثة.. وكيفَ استقرَ هذا الاسمُ في الوعي البشري، رغمَ تنوّعِ البيئاتِ، وتباعدِ الشعوبِ، واختلافِ الدياناتِ والثقافات؟.. وكيفَ اتفقت عقولُ البشرِ على أنّ هذا الاسمَ يُشيرُ إلى ذاتٍ واحدةٍ: (الإلهُ الخالقُ العظيم)؟..
وما من تفسيرٍ منطقيٍّ لبقائه محفوظًا في أعماق اللغةِ، إلا لأنَّه فطرةٌ مركوزةٌ في النفس البشريةِ منذُ أن خلقها الله.. مُستقرٌّ في الضمير الجمعي، فقام كلٌّ منهم بأطلاقه حسب لسانِ قومه..
ولذلك فإنّ اسمَ الجلالةِ (الله) ليسَ مجردَ اصطلاحٍ بشري، ولا اختراعٍ لغوي، بل هو شاهدٌ لُغويٌّ داخليٌّ على وجود اللهِ في الوجدان الإنساني.. بل إنَّ لهذا الاسمِ حين يُنطَقُ وقعًا لا يُشبهُ غيرهُ من الأسماء: فمهابتهُ، وجلالتهُ، وفرادتهُ، وجرْسهُ ورنّتهُ في القلب، وقداستهُ في الضمير، تجعلهُ مُتميزاً برسمه وبمبناه، مُنفردًا في بنيته الصوتيةِ وفي معناهُ، فلا يُثنّى، ولا يُجمعُ، ولا يُشتقُ، بل هو عَلَمٌ على الذات الإلهيةِ، دالٌ على الكمال من كلّ وجهٍ.. {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65].. وصدق الله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ • اللَّهُ الصَّمَد • لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَد • وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1]..
فاللهُ واحدٌ في ذاته، واحدٌ في اسماءه وصفاته، واحدٌ في فطرة الإنسانِ وكينونته، وسيبقى منقوشاً في ضميره ووجدانه حتى وإن ضلّ عن طريقه وابتعد عن مساره.. وإنّ وجودَ هذا الاسمِ أو ما يرادفهُ في كلّ اللغات والثقافات، لهو دليلٌ على أنَّ الاعتقادَ بالله لم يكن بدعةً دينيةً، ولا طارئًا ثقافيًا، بل هو أصلٌ إنسانيٌّ مُشتركٌ.. والعلماءُ يسمّونَ هذا "ثباتًا ثقافيًّا"، وذلك حين يظهرُ لهم معنىً أو اسماً مُشتركاً في حضاراتٍ مُتباعدةٍ ليس بينها صلةٌ، ويرونَ فيه أثرًا لتجربةٍ عميقةٍ، أو فطرةٍ إنسانيةٍ موحّدةٍ، وهذا ما ينطبقُ تمامًا على اسم الله الأعظم..
فحتى لو اختلفت المذاهبُ، وتنوعت الفلسفاتُ، وتعددت الطقوسُ، فإن اسمَ الإلهِ يظلُّ حاضرًا، شاهداً على وجود شيءٍ أعمقَ من الثقافة: مغروزٌ في الفطر.. فهل بعد هذا يبقى شكٌّ في أنّ للهِ أثرًا في كلِّ فطرةٍ، وله اسمٌ في كلِّ لغةٍ، وله مكانةٌ في كلِّ قلبٍ، وأنه حقيقةٌ نطقت بها كلُّ اللغاتِ، وأنهُ كان ولا يزالُ باقٍ في أعماق الإنسانِ ما بقيت الحياة.. {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين} [الأعراف:172]..
نسألُ اللهَ أن يشرح صدرونا جميعاً للحق، وأن يهدينا سواء السبيل..
وأخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين..