|
الحمد لله خيرٌ مما نقول ، والحمد لله فوق ما نقول ، والحمد لله مثل ما نقول .
اللهم لك الحمد بالإيـمـان ، ولك الحمد بالإسـلام ، ولك الحمد بالقرآن ، ولك
الحمد بـمحـمدٍ ( صلى الله عليه وسلم ) الذي بعثته رحـمة للعالـمين ، وقدوةً
للسالكين ، وإماماً للمتقين ، فعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم ، وعلى آله
الطاهرين وصحابته الغُر الميامين ، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم
الدين . أما بعد :
فقد اهتمت تعاليم وتوجيهات ديننا الإسلامي الحنيف ببعض الأيام ، وأفردتها عن
غيرها بخصائص معينة ، تميزها عن غيرها وتُبيِّن ما فيها من الفضائل وما لها من
المنزلة ، ويأتي من الأمثلة على هذه الأيام المباركة يوم عرفة ، ويوم عيد النحر
، ويوم عاشوراء ، وغيرها من الأيام التي تنتشـر على مدار العام .
ولعل من فضل الله سبحانه وتعالى علينا أننا في هذه الأيام نعيش مناسبة مباركة
تتمثل في ( أيام التشـريق المباركة ) , وهي الأيام الثلاثة التي تلي يوم عيد
النحر ، وسوف نتحدث في هذه الخطبة بإذن الله تعالى عنها وعن تعريفها وتحديدها
وفضلها وبعض الأحكام التي وردت في شأنها.
إخوة الإيمان : يقول الله تعالى في كتابه العزيز : " وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي
أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ " . وقد قال كثيرٌ من أهل العلم : أنه لا خلاف بين
العلمـاء أن الأيام المعدودات التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآية هي أيام منى
، وهي أيام التشـريق ، وهي أيام رمي الجمـار للحاج.
ويؤيد ذلك ما جاء في مسند الإمام أحمد من حديث عبد الرحمن بن يعمر الديلي الذي
يقول فيه : " أيام منى ثلاثة ، فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا
إثم عليه ". وجاء فيمـا يرويه مالك عن ابن عباس ( رضي الله عنهمـا ) أنه قال :
" الأيام الـمعدودات أيام التشـريق ، أربعة أيام يوم النحر وثلاثة بعده ".
أما فضل العمل الصالح في أيام التشـريق فقد جاء عَنْ نُبَيْشَةَ الْهُذَلِيِّ
أنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : "
أَيَّامُ التَّشْـرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ" ( رواه مسلم ).
وفي روايةٍ أخرجها الإمام مسلم أن النبي ( صلّى الله عليه وسلّم ) قال : " أيام
منى أيام أكل ٍ، وشُـربٍ ، وذكر لله عز وجل "، وجاء في بعض الروايات أن النبي (
صلّى الله عليه وسلّم ) بعث في أيام منى منادياً ينادي :" لا تصوموا هذه الأيام
، فإنها هي الأيام المعدودات التي قال الله عز وجل فيها : { وَاذْكُرُوا
اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ } ( البقرة: 203 ) .
وجاء في الحديث المرفوع عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ، أن رسول الله ( صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ حُذَافَةَ يَطُوفُ
فِي مِنًى : " لا تَصُومُوا هَذِهِ الأَيَّامَ ؛ فَإِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ
وَشُرْبٍ وَذِكْرٍ للَّهِ عَزَّ وَجَلَّ " .
ومن جميل ما يُذكر في فضل الإكثار من الأعمال الصالحة في أيام التشـريق سواءً
أكانت هذه الأعمـال من الحُـجاج في مـنـى أو من غيرهم من المسلمين في أي مكان
آخر ، ما ذكره صاحب ( فتح الباري ) في تعليقه على باب فضل العمل في أيام
التشـريق حيث يقول : " العمل في أيام التشـريق أفضل من العمل في غيره فقد شُـرع
فيها أعلى العبادات وهو ذكر الله تعالى ، وسـرُ كون العبادة فيها أفضل من غيرها
أن العبادة في أوقات الغفلة فاضلة على غيرها ، وأيام التشـريق أيام غفلةٍ ( في
الغالب ) ، فصار للعابد فيها مزيدُ فضلٍ على العابد في غيرها ، كمن قام في جوف
الليل وأكثر الناس نيام " .
قال بعض أهل العلم : ولما كان صومُ هذه الأيام مانِعًا من تحقيق ذلك ، فقد
نُهِيَ عن صيامِها في مِنى وفي غيرها من الأمصار؛ إذ هي من أعياد المُسلمين ،
كما أخبرَ بذلك رسولُ الله ( صلى الله عليه وسلم ) في الحديث الذي أخرجه الإمام
أحمد في "مسنده" بإسنادٍ صحيحٍ عن عقبة بن عامرٍ ( رضي الله عنه ) أنه قال :
قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) : « يومُ عرفة ويومُ النَّحر وأيامُ
التشـريق عيدُنا أهل الإسلام ، وهنَّ أيامُ أكلٍ وشُربٍ " .
والمعنى الذي نخلُص إليه أن جمهور العلماء قد اتفقوا على منع صيام هذه الأيام
سواءً أكان الصيام تطوعاً ، أو قضاءً ، أو نذراً .
فيا عباد الله ؛ اشكروا نعمة الله عليكم حيث هيأ سبحانه وتعالى لكم مواسم
الخيرات لتتزودوا فيها من الطاعات ، ولتغتنموها في الأعمـال الصالحات التي منها
على سبيل المثال :
زيارة الأقارب وصلة الأرحام ، وتفقد أحوال الإخوان والجيران والأصدقاء ،
والتواصل الودي مع الإخوة والـمعارف والأقارب ، والسؤال عنهم ، ومد يد العون
والمساعدة لهم ولغيرهم من المحتاجين والفقراء والمساكين بمـا يُمكن تقديمه لهم
من الصدقة والعون المادي والمعنوي .
ومن الأعمال الصالحة التوبة النصوح ، ورد الـمظالم ، والإقلاع عن الذنوب ،
وإصلاح ذات البين ، وتعليم الناس ونُصحهم وإرشادهم ، والأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر ، وقضاء الحاجات ، ونُصـرة المظلوم ، وما إلى ذلك من الأعمـال الطيبة
التي تتضاعف أجورها ويعظم ثوابها وتزيد حسناتها في مثل هذه الأيام الـمباركة
بفضل الله تعالى ورحمته وعظيم كرمه سبحانه .
وفي هذا المقام لا يفوتنا جـميعاً أن نتواصى بالإكثار في هذه الأيام - على وجه
الخصوص - من الدعاء والابتهال إلى الله تعالى بأن يحفظ حجاج بيت الله الحرام في
حلهم وترحالهم ، وأن يُعينهم على أداء مناسكهم ، وأن يجعل حجهم حجاً مبروراً ،
وسعيهم سعياً مشكوراً ، وأن يتقبل من قَدِم منهم إليه سبحانه وهم ملبين
مُـحرمين تائبين منيبين .
كمـا أننا نسأل الله تعالى في هذه الأيام الفضيلة أن يحمي بلادنا وبلاد
الـمسلمين من كل شـر وضُـر ، وأن يُديم علينا نعمة الإيمـان والأمن والأمان ،
وأن ينصـر من نصـر الدين ، وأن يؤيد بنصـره حُـمـاة البلاد المخلصين , وأن يكون
جل في عُلاه عوناً للمرابطين على الحدود , وأن يرزقهم التوفيق والتسديد والثبات
على الحق ، وأن يصـرف عنّا وعنهم كل سوءٍ وشـر ومكـر وضُـر، وأن يكون لهم
مؤيداً وظهيراً , ومعيناً ونصيراً .
أقول ما تسمعون ، وأستغفر الله العظيم لي ولـكم ولجميع المسلمين والمسلمـات من
كل ذنبٍ وخطيئة ، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله نحمده سبحانه حمداً كثيراً ، ونشكره جل في علاه شكراً جزيلاً ،
ونُثني عليه الخير كُله ، ونتوب إليه ونستغفره ، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شـريك له ، ونشهد أن سيدنا ونبينا وحبيبنا محمداً عبده ورسوله ، إمام
الـمرسلين ، وخاتم النبيين ، وسيد الأولين والآخرين ، صلى الله عليه وسلم
تسليمـاً كثيرًا ، أما بعد :
فاتقوا الله - عباد الله - واعلموا - بارك الله فيكم - أنكم ستودعون عمّا قريبٍ
عاماً كاملاً مضى من أعماركم بما أودعتموه من أقوالٍ وأعمـالٍ ، فالسعيد من
قدَّم في أيامه ولياليه عملاً صالحاً وقولاً طيباً ونيةً خالصةً لله تعالى ،
والشقي من كانت صحيفة أعماله مليئةٌ بالذنوب والمعاصي والآثام والخطايا نعوذ
بالله تعالى من ذلك .
عباد الله ، إن من الواجب علينا جميعاً أن نتذكر بما نراه وبما نعيشه من تعاقب
الليل والنهار ، وأن تكون لنا عظةً وعبرةً بانقضاء الآجال وانتهاء الأعمار ، و
أن نُدرك تمام الإدراك أن الدنيا ليست بدار مقام ، وإنمـا هي مـمرٌ إلى دار
القرار ، وأن هذه الدنيا ما هي إلا كما وصفها ربنا جل في علاه بقوله : {
إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ
الْقَرَارِ } ( غافر : 38 ) .
فيا عباد الله : اتقوا الله جل في عُلاه ، واذكُروا نِعمةَ الله عليكم؛ إذ
هيَّأَ لكم من مواسِم العُمر ونفائسِ الأيام ما يُمكن لكم أن تستثمروه بعبادةٍ
عظيمة الأجر يسيرة الأداء ، تُرضونَ بها ربَّكم ، وتطمئنُّ بها قلوبُكم ،
وتزكُو بها نفوسُكم ، وتطيبُ بها حياتُكم ، وتسعدون بها في آخرتكم .
ثم اعلموا - بارك الله فيكم - أن أصدق الحديث كتاب الله تعالى ، وخير الهدي هدي
محمدٍ ( صلى الله عليه وسلم ) ، وشر الأمور محدثاتـها ، وكل محدثةٍ بدعة ، وكل
بدعةٍ ضلالة ، وكل ضلالةٍ في النار . واعلموا أن الله تعالى أمركم بالصلاة
والسلام على النبي فقال جل شأنه : { إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا
تَسْلِيمًا } ( الأحزاب : 56 ) .
وقد صحَّ عن النبي ( صلى الله عليه وسلّم ) أنه قال : " من صلى عليَّ صلاةً ،
صلى الله عليه بها عشـراً " . فاللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد ،
وعلى آله وصحبه الطاهرين ، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين : أبي بكرٍ وعمر
وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ، وتابع التابعين
ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم أصلح لنا ديننا ، وأصلح لنا دنيانا ، وأصلح لنا آخرتنا ، واجعل الحياة
زيادةً لنا في كل خير ، والموت راحةً لنا من كل شـر .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين في كل مكان ، واحفظ اللهم بلادنا وبلاد المسلمين
من كيد الكائدين ، وحسد الحاسدين ، ومكر الماكرين ، وتربُص المتربصين ، واعتداء
المُعتدين ، وإرجاف المُرجفين ، وترويع الآمنين ، واحفظ اللهم لنا ولاة أمرنا
الصالحين ، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة التي تدُلهم على الخير وتُعينهم
عليه . اللهم من أراد بلادنا بسوءٍ فأشغله في نفسه ، ورد كيده في نحره ، واجعل
تدبيره تدميرًا له يا رب العالمين .
اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أنزل علينا من بركات السمـاء
، اللهم اسقنا ولا تحرمنا ولا تجعلنا من القانطين . اللهم إنا نسألك الهدى
والتقى والعفاف والغنى . اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك ، وأغننا اللهم بفضلك عمن
سواك يا رب العالمين .
اللهم أحسن حياتنا ، وأحسن مماتنا ، وأحسن ختامنا ، وأحسن مآلنا ، وأكتب لنا
عفوك ورضوانك يا أعظم مسؤولٍ وأكرم مرجو . اللهم أعنّا على كل خير ، واكفنا من
كل شر ، وأغفر اللهم لنا ما قدّمنا وما أخّرنا ، وما أسـررنا وما أعلنّا ، وما
أنت أعلم به منّا .
اللهم اغفر لنا ولآبائنا، وأمهاتنا، وإخواننا، وأخواتنا ، وأزواجنا، وذرياتنا،
وتجاوز اللهم عن ذنوبنا وخطايانا ، وارحمنا يا رحمان برحمتك التي وسعت كل شيء .
ربنا آتنا في الدنيا حسنة ، وفي الأخرة حسنة ، وقنا عذاب النار ، يا عزيز يا
غفّار ، يا رب العالمين .
عباد الله : { إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي
الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ
لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } .
وَأَقِمِ الصَّلاةَ ، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ .