|
=
أيها الخطيب المسلم .
=
يا من صعدت المنابر ، وتحدثت إلى الآخرين .
=
يا من تُنصت لك الأسماع ، و تستمع لك الجماهير .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد ؛
فإن الخطابة فن أدبي راقٍ من فنون القول . وهي صناعةُ عظيمةُ تهدف إلى التأثير
في نفوس الآخرين ، كما أنها تُعد أبرز وسائل مخاطبة الجماهير منذ القدم في شؤون
الحياة المُختلفة للدعوة ، والتعليم ، والتوعية ، واستنهاض الهمم ، وحل
المشكلات ، وفك النزاعات ، وقيادة الجماعات ، وغير ذلك من الأحوال والمناسبات
المتنوعة .
وفيما يلي أُوجه هذه الرسالة إلى الخطيب المسلم الذي تُعلّق عليه الآمال
الكبيرة في توعية الناس وتبصيرهم بأمور دينهم ودُنياهم ؛ فأقول مُستعيناً بالله
تعالى :
• أيها الخطيب المسلم ،
اعلم أنك صاحب رسالة عظيمة ، ومهمةٌ جسيمة ، وأن عليك أن تؤديها بكل صدقٍ
وإخلاص ، وأن تبذل ما وسعك الجهد لأدائها على الوجه الأكمل الذي يُرضي الله
تعالى ، ومحاولة إيصالها إلى الآخرين بكل ثقةٍ واقتدارٍ ، دونما كللٍ أو ملل ،
ولا تنس ( أجزل الله مثوبتك ) أن يكون قصدك من خطبتك ابتغاء وجه الله تعالى ،
والتقرب إليه تعالى بإصلاح النية وإخلاصها ؛ حتى ولو كانت تلك وظيفتك التي
تقتات منها ؛ لأن الأعمال بالنيات ولكل امرىءٍ ما نوى .
• أيها الصوت الناطق بالحق
، لا تنس أن الخطابة فن لا يُجيده إلا من امتلك أدواته ومهاراته ؛ وأن على من
اختارها أن يكون ذا موهبة واستعدادٍ في هذا الشأن ،وأن يكثر من التدرب عليها ،
وأن يكون واسع الاطلاع على العلوم المختلفة ، والفنون ، والآداب ؛ فسعة الإطلاع
خير معين للخطيب لأداء خطبته بقوةٍ وتأثيرٍ وفاعلية ، كما أن على الخطيب
الاتصاف باللين والرفق والتلطف مع الناس لأن ذلك أدعى إلى استمالتهم وإقناعهم ،
وأن يكون في المقابل حاضر البديهة ، جيد الإعداد لموضوعات خُطبه ، واثقاً من
نفسه . وأن يُحسن توظيفها تبعاً لاختلاف الظروف والمُناسبات .
• أيها المؤثر في الناس ،
إياك والخوض في ما لا علم لك به من القضايا الشرعية أو الاجتماعية أو غيرها من
القضايا الدينية أو الدنيوية . وليكن قولك وطرحك مبنياً على الحقائق والأدلة
والبراهين حتى لا يزل بك اللسان ، أو تهوي بك القدم في ما لا يُحمد عقباه من
القول بغير علمٍ أو التجني في الخطاب أو نحو ذلك . واحرص على تبيّن الأمور ،
والبُعد عمّا أشكل منها أو غمُض أو ترتب عليه مفسدة عملاً بقوله تعالى : { يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا
أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ
نَادِمِينَ } ( سورة الحُجرات : الآية 6 ) .
• يا من تحملت مسؤولية المنبر ، كن قدوةً حسنةً في قولك وعملك وسلوكك وهيئتك
وكل شأنك ، واعلم أنك مأجور إن شاء الله تعالى على ذلك كله متى احتسبته عند
الله تعالى وابتغيت به ما عنده جل في عُلاه ؛ و تأكد أن الناس ينظرون إلى سلوك
الخطيب ، ويدققون النظر فيه لما يُفترض أن يكون عليه من حُسن الخُلق وجميل
السلوك ، ولذا ينبغي أن تتطابق أفعالك مع أقوالك، لأن التزام الخطيب بأحكام
الإسلام بوجه عام ، وتطبيقه لما يدعو إليه في خطبته، يجعل كلامه مقبولاً عند
المستمعين ، أما مخالفة العمل للقول ، فإنه يجعل المستمعين لا يثقون به ، ولا
يحترمون كلامه وصدق الله القائل : { أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ
وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ
} ( سورة البقرة :الآية رقم 44 ) .
• يا من تسعى لإصلاح الفرد وبناء المجتمع ، لا تنس أن مُهمتك تتمثل في الدعوة
إلى الله تعالى بالحكمة والموعظة الحسنة التي تفرض عليك تعليم الناس ما يجهلون
، وتذكيرهم بما ينسون ، وتنبيههم إلى ما يغفلون عنه ؛ فكان عليك تُخاطبهم بما
يوافق حالهم إذ إن لكل مقامٍ مقال ، ولكل مُناسبةٍ ما يُلائمها من الخطاب الذي
يجب أن يُراعى فيه مستوى المستمعين ؛ فلا يُخاطبون بما لا يفهمون ، ولا يُطرح
عليهم ما لا يستوعبون ، فما خوطب أُناسٌ بما لا يفهمون إلا كان فتنةً عليهم ،
مصداقاً لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ما أنت بمُحدثٍ
قوماً حديثاً لا تبلُغُهُ عقولهم ، إلا كان لبعضهم فتنةً " ( رواه مسلم ،
الحديث رقم 14 ، ص 9 ) . فاحرص ( سدّد الله قولك وعملك ) على اختيار موضوعات
خطبك بعنايةٍ فائقةٍ ، وعليك أن تتلمَّس حاجات المستمعين الذين جاءوا لاستماع
خطبتك ، ولا تنس أن حُسن القول مطلوبٌ منك في الظروف والأحوال كلها ، لاسيما
وأنك ممن يدعو إلى الله تعالى بالحسنى وليس هناك أحدٌ أحسن قولاً ممن حمل راية
الدعوة إلى الله تعالى ، وإلى إتباع منهجه القويم ، والالتزام بأحكام وتعاليم
الدين الحنيف . قال تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى
اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ } ( سورة فصلت
: الآية 33 ) . وأعلم أن اختيار موضوع الخطبة من واقع حياة الناس أمرٌ إيجابيٌ
وفاعل ، وأن مناقشة المشكلات الاجتماعية ومحاولة طرح الحلول المناسبة لها واجبٌ
يفرضه عليك تحملك لهذه المسؤولية .
• يا من تُشنفُ الآذان بقولك الجميل المُدعّم بالآيات البينات ، والأحاديث
النبوية المختارة ، والأقوال المأثورة عن السلف الصالح ، احرص على ما يُعرف
ببراعة الاستهلال في خُطبك ، واجتهد في فصاحة اللسان ، وسلامة مخارج الحروف ،
وعليك بمراعاة مهارات حسن الإلقاء من تنويعٍ للأسلوب ، وضربٍ للأمثال ، وجودة
الاقتباس ، ودقة الاستشهاد ، وحُسن العرض ؛ فإن ذلك مما يُساعد على نجاح الخطيب
في أداء رسالته الدعوية والتوعوية على الوجه الصحيح الذي يؤثر في المستمعين ،
ويأسر أفئدتهم ، ويجذبهم إلى ما يقوله ويطرحه من موضوعات .
• يا من ينظر إليك الناس قدوةً ومثلاً ، إياك ( سدّد الله خُطاك ) من بعض
الصفات التي لا تليق بالخطيب المسلم كأن تُطيل في إلقاء خطبتك ، أو أن تُكرر
موضوعها حتى تُمل ، أو أن ترفع صوتك أو تخفضه عن الحد المطلوب لإسماع الحاضرين
،أو أن تُكثر من الحركات والإشارات . واحذر ( كفانا الله وإياك ) من الكبر ،
والغرور ، والإعجاب بالنفس ، وتصيد أخطاء الآخرين ، ونحو ذلك من الصفات التي قد
تُحبط الأجر وتضيع الثواب والعياذ بالله . وإياك من التقعر في الكلام ، أو
التكلف في الخطاب ، أو أن يراك الناس في مواقع الشُبه والريبة ؛ فإن ذلك مما
يُفقد الخطيب مصداقيته واحترامه عند الآخرين .
• يا من تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، اجتهد ( وفقك الله تعالى ) أن يأتي
حديثك في كل خطبةٍ مناسباً لظروف الزمان والمكان فمعايشة الواقع أجدى وأنفع
وأكثر قبولاً عند المستمعين . وليكن موضوع الخطبة عن القضايا الكلية دون التعمق
في الجزئيات التي قد لا تؤدي إلى كثير نفعٍ وفائدةٍ للمستمعين . واعلم أن من
الجميل جداً أن يُخفف الخطيب زمن الخطبة ، وألاّ يُطيل فيها أبداً حتى لا يمل
الناس أو ينفرون ، ولأن ذلك مخالفٌ لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن يُطيل الخطبة وهو
أبلغ الناس ، فقد روي عن عمارٍ رضي الله عنه أنه قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إنّ
طول صلاة الرجل ، وقصَرَ خطبته مئنّّةٌ من فقهه ، فأطيلوا الصلاة ، وأقصُرُوا
الخُطبة ، وإنّ من البيان سحراً " ( رواه مسلم ، الحديث رقم 2009 ، ص 349 ) .
وما روي عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال : " أمرنا رسول الله بإقصار الخُطب " ( رواه
أبو داود ، الحديث رقم 1106 ، ص 173 ) . وعن جابر بن سمُرة قال : " كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم لا يُطيل الموعظة يوم الجمعة ؛ إنما هُنَّ كلماتٌ يسيراتٌ " ( رواه أبو
داود ، الحديث رقم 1107 ، ص 173 ) . فعليك ( وفقنا الله وإياك ) بالحرص على
إتباع الهدي النبوي ، وعدم الإطالة في الخُطبة فخير الكلام ما قل ودل .
• وختاماً / أسأل الله الكريم ، رب العرش العظيم ، أن يوفقنا جميعاً لصالح
القول ، وجميل العمل ، وأن يُجنبنا الخطأ والزلل ، والحمد لله رب العالمين .
أخي الحبيب :
ساهم في نشر الخير وإيصالها لمن عرفت من الخطباء والدعاة
نسخة على ملف وورد للطباعة
