الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على إمام المتقين وسيد المرسلين سيدنا
ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد :
فليس الالتزام بأوامر الله والاجتناب عن نواهيه : حاجباً من الولوج في ساحات
المعارف ، ولا مانعاً من الدخول في ميادين الثقافة ، بل لابد لأهل الخير
والصلاح أن يكونوا في ذلك على درجة من الوعي ، وعلى اهتمام ورعاية للثقافة .
وقد أوضح ذلك ، وأكد عليه ، وتحدث عن جوانب تتعلق به فضيلة الشيخ الفقيه : صالح
بن محمد الأسمري - حفظه الله ونفع بعلمه - في محاضرة قيمة بعنوان : ( الصالحون
والثقافة ) .
ولأهميتها وحاجة كثير من الصالحين إليها ، فقد لخِّصت ؛ لنشرها في هذه الصفحة
المباركة ؛ ليعم النفع بها ، والله من وراء القصد.
[ مقدمة ]
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عاملاً بالثقافة ، وكذلك كان نساؤه رضي الله عنهن ، ومن ذلك
معرفة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالطب والنسب وأشياء أخرى .
والثقافات كثيرة ، والتي ننوه إليها هي الثقافة النافعة المفيدة .
وخلاصة تعريف الثقافة : أنها العلوم والمعارف والفنون التي يطلب الحَذْق فيها .
[أهمية الثقافة]
تتبين أهمية الثقافة للصالحين من خلال أمرين :
أولهما : أنها تشارك في تنمية الفرد والمجتمع ، ولا تولد الثقافة مع الشخص عند
ولادته ، بل لابد من طَرْق أبوابها ، ولابد من معرفة الضروري منها ومن ثم السعي
إليه ، والابتعاد عن الثانوي والتحسيني ، حتى ينفع المرء نفسه .
ولن يصل الأفراد إلى التمام في بناء شخصياتهم إلا إذا جمعوا أشياء منها :
الثقافة النافعة في تنمية الأنفس والذوات .
والثاني : أن الاكتساب للثقافة عليه تبنى الحضارات بعد أسِّها وهو : الديانة
الصحيحة.
والحضارات لا تقوم إلا بأسباب شرعية وأخرى قدرية ، ومن ذلك الثقافة بأنواعها :
إسعافات أولية ، مهارات الحوار الناجح ، ثقافة حربية ، ثقافة زراعية ، ثقافة
صناعية ... الخ.
[حال الأمة اليوم ]
حال أمتنا اليوم - مع أسف - في تقهقر من حيث الحضارة الدنيوية ، وأمتنا الآن في
ذيل تلك القافلة .
ونجد الصالحين - مع أسف - أقل الناس سعياً في ميادين الثقافة وتحصيلها .
[أسباب ابتعاد الصالحين عن الثقافة ]
لابتعاد الصالحين عن الثقافة أسباب متعددة ، جماعها ثلاثة :
أولها : أن جذوة الإرادة في اكتساب الثقافة : خامدة ، ولا توجد الهمة لقراءة
كتاب يتعلق بالصحة ( مثلاً ) ، أو الأحياء ، أو المهارات البشرية ، أو نحو ذلك
من الثقافات.
وللأسف أن أكثر الأمم أميّة في الكتابة والقراءة هي : العالم الإسلامي ! وكثير
ممن يقرأ إنما يقرأ فيما لا يبني عنده ثقافة نافعة ، فهو يقرأ في صحيفة، أو
كتاب جنسي ، أو مجلة ماجنة ونحوها .
بينما نجد أن إحصائية إحدى الدول الإفرنجية كانت بأن 25% يقرؤون كتاباً كل شهر،
و 50 % كل عام ، و 65% يقرؤون مجلة أسبوعية بانتظام ، و 80% يقرؤون صحيفة يومية
بانتظام .
وثانيها : تتعلق بالمجتمع والبيئة التي تحيط بالإنسان ، فهو لا يعلم كيف ينال
الثقافة ؟ ولا دُورها ، ولا مجلاتها ولا مؤسساتها .
وكذلك ما يقوم به أفراد كثيرون من تعظيم وإجلال لصاحب الجاه أو الأُبَّهة
والبزَّة الحسنة ، واحتقار وازدراء أرباب الثقافة والمعرفة . فكيف يرتقي هذا
المجتمع بهذا الفكر ؟! .
وثالثها : نظرة كثيرين من الصالحين إلى الثقافات باشمئزاز وكراهية ، ويقولون :
أكثرها أتى من الكفار ! وهي قاعدة تحتاج إلى تصحيح ، بل ينبغي أن نأخذ منهم كل
نافع لا محظور فيه شرعاً ، وقرر شيخ الإسلام ابن تيميّة في " مجموع الفتاوي " (
4/114 ) جواز الانتفاع بآثار الكفار والمنافقين في أمور الدنيا .
[مرجع الثقافة]
ترجع الثقافة في أصلها إلى شيئين :
أولهما : التجربة الصحيحة .
والثاني : إنتاج القرائح الصحيحة والعقول السليمة .
وهذان المصدران لم يأت في الكتاب والسنة ما ينهى عنهما .
[خصائص الثقافة النافعة المنشودة ]
وللثقافة التي ندعو إليها خصائص جماعها ثلاث :
أولها : أن تكون نافعة ، وأما الضارة أو غير النافعة فإنها تُجْتَنب ، كثقافة
السحر والألعاب البهلوانية مثلاً .
والثقافة النافعة تكتسب من خلال أشياء :
1- أن يأتي بها النقل . وهو إما أن يكون عن شرعنا الحنيف ، أو عن أهل الكتاب ما
لم يُعْلم خطَؤه أو كذبه في شرعنا أو صدقه ، فيُؤخذ به للاستشهاد به لا
للاعتماد كما قرّره ابن تيميّة - رحمه الله - .
2- العقل الصحيح .
3- التجربة الصحيحة السليمة .
وليس معنى هذا أن يأخذ المرء بثقافة ما حتى يعلم بأنها ناتجة عن شيء مما سبق ،
وإنما يكفي أن يأخذها عمن يثق به ، وإلا لما تعلم الناس من ذلك شيئاً .
ثانيها : أن تكون متجددة . فقد تأتي حقائق جديدة في ثقافة ما تنفي نظريات سابقة
ولذلك لابد من المتابعة .
فمثلاً : الحدود الجغرافية للبلدان العالمية تتغير ما بين فترة وأخرى ، وربما
تقوم دول جديدة ، وقس على ذلك أمثلة .
ثالثها : أن تكون شاملة . فالثقافة النافعة ينبغي أن تكون شاملة لما وضعت له من
مفردات ، فليست في مفردة دون أخرى .
وكذلك شمولية الثقافة ، فلا تكون قاصرة على ثقافة مهنية أو اقتصادية فقط ، بل
تكون في جميع مناحي الحياة .
[ضوابط شرعية للتعامل مع الثقافات ]
للتعامل مع الثقافات إلا أن هناك أصولاً وضوابط شرعية ، وجماع ذلك ثلاثة ضوابط
:
أولها : اعتبار المعيار الشرعي مع الثقافات أنّى كانت . يقول الله تعالى : {فلا
وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم } .
ولمعرفة الميزان الشرعي في ذلك طريقان :
1- سؤال أهل العلم . { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ، بالبينات والزبر
} .
2- البحث من ذي أهلية ، كالعلماء ومن إليهم .
ثانيها : الحذر عند التعامل مع الثقافات العامة الواردة من الكفار ؛ لأنه ربما
وضع الخطر حيث المأمن .
والناس مع أخذ الحذر على صنفين :
1- من يتثاقل عن الأخذ بالحيطة والحذر .
2- من عنده حذر شديد حتى ضيّق واسعاً ، وأصبح ذا وسوسة في كل شيء .
والوسط هو الذي ينبغي أن يسار عليه .
ثالثها : الاعتزاز بالإسلام ورفع الرأس به عند تلقي المرء لثقافات واردة من دول
الإفرنج { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون } .
[تنبيهان مهمان]
وينبه إلى أمرين يتعلقان بالثقافة :
أولهما : العناية ينبغي أن تتأكد في الثقافة المستقبلية لا الماضية ، فينظر
الإنسان إلى الأمام ، لا إلى الوراء .
ولذا فقد اهتم الإفرنج بذلك ، ففي أمريكا ستمئة مؤسسة مختصة بالدراسات
المستقبلية لأمتها !! وأمتنا بحاجة إلى مثل ذلك .
وينبغي للصالحين أن يُعنوا بالتخطيط للمستقبل ، والارتقاء الثقافي في شتى
المجالات .
والثاني : أن الثقافة تراكمية ، ولا تأتي دفعة واحدة ، ولكن مع الأيام ، ومع
القراءة ، والمطالعة لقنوات الثقافة المختلفة ، فلا بد حينئذ من الصبر ؛ حتى
ينال المرء ما يريد ، { يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا
الله لعلكم تفلحون } .
[قواعد في كسب الثقافة]
لكسب الثقافة قواعد على رأسها ثلاث قواعد :
أولها : مراعاة الأولويات . ونضرب عليها بصورتين :
1- من الثقافة ما هو ضروري ، كما أن من الدين ما هو ضروري ، فليبدأ المرء
بالضروري ، ولا ينشغل بأمر تحسيني أو جزئي على حساب الضروري .
2- أن من يأخذ بمجلة طبية ( مثلاً ) بشكل دوري ربما قلَّبها ولم يفهم منها
شيئاً فلا بد من أن يأخذ كتاباً تأسيساً في الصحة العامة ( مثلاً ) ، وثانٍ عن
الجسم ووظائفه ، وهكذا فإنه حينئذ سيفهم الكلام ، ويعي ما يقال .
ثانيها : التدرج في اكتساب الثقافات ؛ إذ الثقافات كثيرة ، ولا يمكن أخذها
جميعها جملة .
ثالثها : العناية بالثقافات التي تتناسب مع المرء : مهمٌ ؛ إذ الناس أجناس ،
فإكمال نقص في ثقافة ما عند المرء أولى من غيرها ، وما كان راغباً فيه أولى من
غيره ، وهكذا .
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه .