حينما تَسْمُو الـنَّفْس البشرية فإنها تَرتَقِي مَطالِع الجوزاء !
ويَتْعب الجِسْم في تحقيق غاياتها ومطالِبها ..
وإذا كانت النفوس كبارا = تعبت في مرادها الأجسام
وتَسْتَلِذّ نَفْس الْحُرّ الْمُرَّ في سبيل التطلّع إلى العلياء
ومَن تَكُن العلياء هِمّة نَفْسِه = فَكُلّ الذي يَلقاه فيها مُحَـبَّبُ
علَيَّ ثياب لو يُباع جميعها = بِفَلْسٍ لكان الفَلْس منهن أكثرا
وفيهن نَفْسٌ لو يُقاس بمثلها = نفوس الوَرَى كانت أجَلّ وأخطرا
وما ضَرّ نَصْل السّيف إخلاق غِمده = إذا كان عَضْبا حيث أنفذته بَرى
فإن تكن الأيام أزْرَتْ بِبَزّتِي = فَكَم مِن حُسام في غِلافٍ مُكَسّرا
أما حين تَهُون الـنَّفْس على صاحِبها .. فإنه يَهون هو في أعْين الناس
مَن يَهُن يَسْهُل الهوان عليه = ما لِجُرْح بِمَيّتٍ إيـلامُ
فإن الناس تَضَع الإنسان حيث يَضَع نَفْسَه
كما قال الجرجاني :
أرى الناس مَن دَاناهم هَان عندهم = ومَن أكْرَمَتْه عِزّة الـنَّفْسِ
أُكْرِمَا
ومَتى هانَتِ الـنَّفْس عند صاحِبها دَسّاها وحقّرها بِكل خُلُق مرذول !
وصَغّرها بما يَشِينها
وتَخَلّق بِكل خُلُق دنيء
ولا يَرْضى بِالدُّون إلا دنيء !
قال ابن القيم :
فلو كانت النفس شَريفة كبيرة لم تَرْضَ بالدُّون ، فأصْلُ الخير كلّه بتوفيق
الله ومشيئته ، وشَرَف الـنَّفْس ونُبْلها وكبرها . وأصْل الشّر خستها ودناءتها
وصغرها . قال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ
دَسَّاهَا) ، أي : أفْلَح مَن كَبّرها وكَثّرها ونَمّاها بِطَاعَةِ الله ،
وخَابَ مَن صَغّرها وحَقّرها بِمَعَاصِي الله ، فالـنُّفُوس الشريفة لا تَرْضَى
من الأشياء إلا بأعلاها وأفضلها وأحْمَدها عاقبة ، والـنُّفُوس الدنيئة تَحُوم
حَول الدَّنَاءات وتَقَع عليها ، كما يَقَع الذُّبَاب على الأقْذَار ،
فالـنَّفْس الشَّرِيفة الْعَلِيّة لا تَرْضَى بالظُّلْم ولا بالفواحش ولا
بالسرقة والخيانة ، لأنها أكبر من ذلك وأجَلّ ، والنّفْس الْمَهِينة الْحَقِيرة
والْخَسِيسة بالضِّدّ مِن ذلك ؛ فَكُلّ نَفْسٍ تَمِيل إلى ما يُناسبها
ويُشاكلها . اهـ .
وقال في ذِكْر عقوبات الذّنُوب :
ومِن عُقُوبَاتها : أنها تُصَغّر الـنَّفْس وتَقْمَعَها وتُدَسّيها وتُحَقّرها
حتى تصير أصْغَر كل شيء وأحْقَره ، كما أن الطاعة تُنَمِّها وتُزَكّيها
وتُكَبّرها . قال تعالى : (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ
دَسَّاهَا) ، والمعنى : قد أفْلَح مَن كَبّرها وأعلاها بِطاعة الله وأظْهَرها ،
وقَد خَسِرَ مَن أخْفَاها وحَقّرها وصَغّرَها بِمَعْصِية الله ... فالطاعة
والْبِرّ تُكَبّر الـنَّفْس وتُعِزّها وتُعْلِيها حتى تصير أشرف شيء وأكْبَره
وأزْكَاه وأعْلاه ، ومع ذلك فهي أذلّ شيء وأحْقَره وأصْغَره لله تعالى ،
وبِهَذا الذّل حَصَلَ لها هذا العِزّ والشَّرَف والـنّمُو ؛ فما صَغّر النفس
مثل مَعْصِية الله ، ومَا كَبّرها وشَرّفها ورَفعها مثل طاعة الله . اهـ .
وإن مما تَهُون بِه الـنَّفْس أن يَعتَاد الإنسان خُلُقا مِن أخلاق المنافِقين
..
بل قد يَسْتَسِيغ ما غَصّ به عُـبّاد الأوثان !
أو يَسْتَحْسِن ما اسْتَقْبَحه أهل الجاهلية الأولى !
وكَفَى بِذَنْبٍ قُـبْحًا أن يَتَبرّأ مِنه أهل الجاهلية ! فيَخْشَى أحدهم أن
يُعيَّرَ بِه !
وحَسْبُك مِن خُلُق رَذَالَة أن يَعِيبَـه من كان يَعبد الأصنام والأوثان !
ذلكم هو " الْكَذِب " الذي عُيِّر بِه " مُسَيلِمة " فاقْتَرَن اسمه بِوصْفِ
الْكَذِب ! فلا يُذكَر إلا ويُعَرّف بـ " الكَذّاب " !
والكَذِب خُلُق من أخلاق المنافِقين ، ففي خِصال الـنِّفاق : " إذا حَدّث كَذَب
" كما في الصحيحين .
قال منصور الفقيه :
قال محمد بن كعب القرظي : لا يَكْذِب الكَاذِب إلا مِن مَهَانَة نَفْسِه عليه .
والكّذِب أبْغض خُلُق إلى صاحِب الْخُلُق العظيم صلى الله عليه وسلم .
قالت عائشة رضي الله عنها : ما كان خُلُق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم مِن الكذب ، فإن كان الرجل يَكذب عنده الكذبة فما يَزال في نفسه عليه حتى
يَعلم أنه قد أحدث منها توبة . رواه عبد الرزاق ومِن طريقه الترمذي وابن حبان .
والمؤمن يُطْبَع على الخلال كلها إلاَّ الخيانة والكذب . كما قال أبو أمامة رضي
الله عنه .
وأخرج البيهقي في الشُّعَب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لا تَجِد
المؤمن كَذّابا
وقال عمر أيضا : لا تَنْظُروا إلى صلاة أحَدٍ ولا إلى صيامه ، ولكن انْظُرُوا
إلى مَن إذا حَدّث صَدق ، وإذا ائتمن أدَى ، وإذا أشْفَى وَرِع .
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في خطبته : ليس فيما دون الصدق من الحديث
خير ، مَن يَكذب يَفْجُر ، ومَن يَفْجُر يَهلك .
وقال أنس رضي الله عنه : إن الرجل ليُحْرَم قيام الليل وصيام النهار بالكِذبة
يَكذبها .
وقال محمد بن سيرين : الكلام أوسع من أن يَكذب ظَريف .
وقال عمر بن عبد العزيز : ما كَذَبْتُ منذ عَلِمْتُ أن الكَذِب يَضُرّ أهله .
وقال الغازي بن قيس : ما كَذَبْتُ منذ احْتَلَمْتُ .
وقال : والله ما كَذَبْتُ كِذبة قَطّ منذ اغتسلت ، ولولا أن عمر بن عبد العزيز
قَالَه ما قُلْتُه
وإذا كان الكذب بِضاعة شيطانية .. فإن الصِّدْق مَنْجَاة ، وهو بِضاعة أهل
الإيمان ..
قال كعب بن مالك رضي الله عنه وهو يُحدِّث بِخبر توبة الله عليه : فو الله ما
علمت أن أحدًا من المسلمين أبْلاه الله في صِدق الحديث منذ ذَكَرْتُ ذلك لرسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا أحسن مما أبلاني الله به ، والله ما
تعمدت كِذبة منذ قلتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا ، وإني
لأرجو أن يحفظني الله فيما بقي . رواه البخاري ومسلم .
وقال علي رضي الله عنه : زِين الحديث الصِّدق .
وخُلِّد في ذِكْر ربعي بن حراش أنه ما كَذَب كذبة !
قال وكيع : لم يَكذب ربعي بن حراش في الإسلام كِذبة . رواه الترمذي .
وروى أبو بردة بن عبد الله بن أبي بردة قال : كان يُقال : إن ربعي بن حراش رضي
الله عنه لم يكذب كذبا قط ، فأقبل ابناه من خراسان قد تأجّلا ، فجاء العَريف
إلى الحجاج فقال : أيها الأمير إن الناس يَزعمون أن ربعي بن حراش لم يكذب قط ،
وقد قدم ابناه من خراسان وهما عاصيان ! فقال الحجاج : عَليّ به ، فلما جاء قال
: أيها الشيخ . قال : ما تشاء ؟ قال : ما فَعل ابناك ؟ قال : المستعان الله
خَلّفتُهما في البيت . قال : لا جَرَم ! والله لا أسوؤك فيهما ، هما لك .
وأصى الخلفاء مُعلّمي أبنائهم بتعليمهم الصِّدْق .
قال أسعد بن عبيد الله المخزومي : أمَرَني عبد الملك بن مروان أنْ أُعَلِّم
بَنِيه الصِّدق كما أُعَلّمُهم القرآن .
وقال مطر الوراق : خَصلتان إذا كانتا في عبدٍ كان سائر عمله تَبَعًا لهما :
حُسْن الصلاة ، وصِدْق الحديث .
وقال الفضيل : لم يَتَزَيّن الناس بشيء أفضل مِن الصدق وطَلَب الحلال .
وقال عبد العزيز بن أبي روّاد : إبْرَار الدنيا : الكَذِب وقِلّة الحياء ؛
فَمَنْ طَلَب الدّنيا بِغيرهما فقد أخطأ الطريق والْمَطْلَب .
وإبْرَار الآخرة : الحياء ، والصِّدق ؛ فمن طلب الآخرة بغيرهما فقد أخطأ الطريق
والْمَطْلَب . اهـ .
وقال يوسف بن أسباط : يُرْزَق العبد بالصِّدْق ثلاث خِصال : الْحَلاوة
والْمَلاحَة والْمَهَابة
قيل لِلُقْمان الحكيم : ما بَلَغَ بك ما نَرى ؟
قال : صِدْق الحديث ، وأداء الأمانة ، وتَرْك ما لا يَعْنِيني .
وإن أعظَم الكذب ما بَلَغ الآفاق ..
وفي رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم : الرجل الذي أتيت عليه يُشْرَشْر شِدْقه
إلى قَفَاه ، ومنخره إلى قفاه ، وعينه إلى قفاه ؛ فإنه الرجل يَغدو من بيته
فيكذب الكِذبة تَبلغ الآفاق . رواه البخاري .
أوْ ما أدّى إلى الطعن في الأعراض ..
وكل كَذِب تَعدّى ضَرَرُه ..
قال ابن حبان : كل شيء يُسْتَعَار لِيُتَجَمّل به سَهْل وُجُوده ، خَلا اللسان
، فإنه لا يُنْبِئ إلاّ عَمّا عُوِّد ، والصِّدق يُنْجِى ، والكَذب يُرْدِي ،
ومَن غَلب لِسانه أمّرَه قومُه ، ومن أكثر الكذب لم يترك لنفسه شيئا يُصَدّق به
، ولا يكذب إلا مَن هَانت عليه نَفسه .
قال : وأنشدني الكريزي :
كَذَبْتَ ومَن يَكْذِب فإن جزاءه = إذا ما أتى بالصدق أن لا يُصَدّقا
إذا عُرف الكذاب بالكذب لم يزل = لدى الناس كذابا وإن كان صادقا
وقال ابن حبان :
أنشدني الأبرش:
الكِذْبُ مُرديك ، وإن لم تخف = والصِّدْقُ منجيك على كل حال
فانطق بما شئت تجد غِبَّه = لم تُبْتَخَسْ وَزنة مثقال
وقال ابن حبان :
لو لم يكن للكذب من الشَّين إلاَّ إنزاله صاحبه بحيث أن صَدَق لم يُصدّق ، لكان
الواجب على الْخَلْق كافَّة لزوم التثبت بالصدق الدائم ، وإن من آفة الكذب أن
يكون صاحبه نسيا ، فإذا كان كذلك كان كالمنادي على نفسه بالْخِزْي في كل لحظة
وطرفة .
قال : وأنشدني محمد بن عبد الله البغدادي :
إذا ما المرء أخطأه ثلاث = فَبِعْه ولو بِكَفّ مِن رَماد
سلامة صدره والصدق منه = وكتمان السرائر في الفؤاد
وأصدق من هذا وأبلغ قول من لا ينطق عن الهوى صلى الله عليه وسلم : عَلَيْكُمْ
بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ ، وَإِنَّ الْبِرَّ
يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى
الصِّدْقَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا ، وَإِيَّاكُمْ
وَالْكَذِبَ فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ ، وَإِنَّ الْفُجُورَ
يَهْدِي إِلَى النَّارِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى
الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا . رواه البخاري ومسلم .
فاخْتَر لِنفسك مَنْزِلتها ومكانتها في الدنيا والآخرة ..