قال ابن القيم في قوله تعالى : ( إن الأبرار لفي نعيم * وإن الفجار لفي جحيم 
      ) .
      قال : هذا في دورهم الثلاث ليس مختصا بالدار الآخرة وإن كان تمامه وكماله 
      وظهوره إنما هو في الدار الآخرة وفي البرزخ دون ذلك ، كما قال تعالى : ( وإن 
      للذين ظلموا عذابا دون ذلك ) .
      فالأبرار في نعيم في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة . 
      والفجار والكفار في جحيم في الدنيا وفي البرزخ وفي الآخرة . انتهى .
      وقد يرد إشكال من بعض الناس ، وقد قرأته في بعض المنتديات ، وهو : 
      نحن نرى الكفار في نعيم في دنياهم وسعادة !!
      فأقول :
      أولا :
      لا بد أن يعلم أن الدنيا جنة الكافر . 
      كما في صحيح مسلم عنه صلى الله عليه وسلم .
      فما يمتّع به الكافر هو جزء من هذه الجنة ، أي جنة الدنيا وزهرتها ، وهذا 
      بالنسبة للنار يُعتبر جنة بما فيه من مشكلات ومنغصات .
      ثانيا : 
      أن الكفار في جحيم في دورهم الثلاث ، وبيان ذلك أنهم في الدنيا ليسوا في راحة 
      نفسية ولا في طمأنينة كما هو الحال عند المسلم الموقن ، الذي يعلم أين مصيره 
      بعد الموت ، وأنه وإن فاتته هذه الدنيا فإنه موعود جنة عرضها السماوات والأرض 
      .
      
      والكافر يعيش الخوف والقلق على المستقبل ومن المستقبل .
      ولذا لما قرب عام 2000 م انتحر من انتحر ظنا منهم أنها نهاية الدنيا ، وكذلك 
      حدث عند اقتراب خبر الكسوف الكلي للشمس في نفس العام عندهم .
      ثم إن الكافر في جحيم لأن وعد الله حق ، والله لا يخلف الميعاد ، ( ومن أعرض 
      عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ) وكلما زاد البعد عن الله ازداد الضيق والضنك .
      وقال تبارك وتعالى : ( ومن يُشرك بالله فكأنما خـرّ من السماء فتخطفه الطير 
      أو تهوي به الريح في مكان سحيق )
      وفي الآية الأخرى قال جل وعلا : ( ومن يُرد أن يُضلّه يجعل صدره ضيقا حرجا 
      كأنما يصّعّد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون ) .
      وجاء في تفسير هذه الآية :
      أن صدر الكافر ضيّق كضيق التنفس لدى من يصعد طبقات الجو .
      ويدل على شدة الضيق وزيادة الضنك كثرة حوادث الانتحار في بلاد الكفار .
      وهي نسب متزايدة في كل عام .
      لكن من يعيش خارج تلك المجتمعات يرى بريق الحضارة ويعمى أحيانا عن حقيقة حياة 
      القوم ، فهي حياة شقاء في شقاء ، وتعاسة تتلوها تعاسة .
      لقد بلغوا شأنا في الحضارة المادية بل لعلهم بلغوا قمة الحضارة المادية ، غير 
      أن ذلك على حساب الروح والأخلاق .
      فكلما ارتفعت صروح الحضارة كلما تهاوت القيم والأخلاق والمبادئ .
      وصدق الله القائل في محكم التنزيل : ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم 
      أولئك لهم الأمن وهم مهتدون ) 
      والمعنى أن الذين آمنوا ولم يُخالط إيمانهم شرك – كما فسّره بذلك النبي صلى 
      الله عليه وسلم – أن لهم الأمن في الدنيا والآخرة ، الأمن بنوعيه : الأمن 
      النفسي والأمن الحسي .
      وهم مهتدون فلهم الهداية في الدنيا والآخرة .
      والكافر وإن أمِـن في الدنيا فإنه أمان حسي ، وهو ما يكون في الديار ، إلا 
      أنه ليس في أمان نفسي .
      
      وحدثني بعض المسلمين الذين يُقيمون في أوربا أنهم عاشوا سنين مسغبة وفقر عند 
      قومهم لأوربا أول مرة ، وكان أحدهم يرى بعض الكفار ممن انقطعوا عن العمل أو 
      طـُـردوا منه وعندهم من الأموال ما يكفيهم فكانوا يرون في وجوههم القلق 
      والاضطراب ، بينما أولئك المسلمين يمزحون ويتضاحكون ، وإن أكلوا الخبز الجاف 
      !! وإن طبخوا القهوة في قدر !!
      فقلت لهم :
      هذا هو الغنى الذي عناه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : ليس الغنى عن 
      كثرة العرض ، ولكن الغنى غنى النفس – كما في الصحيحين – 
      فلو كان لابن آدم أودية الدنيا ذهبا وهو خائف قلق عليها لما تحقق له الغنى 
      النفسي ولما تحقق له الأمن النفسي .