|
ح 87
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه
وسلم يَسْتَفْتِحُ الصَّلاةَ بِالتَّكْبِيرِ , وَالْقِرَاءَةَ بـ (الْحَمْدُ
لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وَكَانَ إذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ
وَلَمْ يُصَوِّبْهُ وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ , وَكَانَ إذَا رَفَعَ رَأْسَهُ
مِنْ الرُّكُوعِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِماً , وَكَانَ إذَا
رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ السَّجْدَةِ لَمْ يَسْجُدْ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَاعِداً ,
وَكَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ , وَكَانَ يَفْرِشُ
رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى , وَكَانَ يَنْهَى عَنْ
عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ ، وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ
افْتِرَاشَ السَّبُعِ , وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلاةَ بِالتَّسْلِيمِ .
في الحديث مسائل :
1=
تكبيرة الإحرام رُكن لا تنعقد الصلاة بغيرها .
قال عبد الرحمن بن مهدي : لو افتتح الرجل الصلاة بسبعين اسماً من أسماء الله
ولم يُكبِّر تكبيرة الإحرام لم يُجْزِه ، وإن أحدث قبل أن يسلم لم يُجْزِه .
قال ابن عبد البر : اختلف الأئمة من الفقهاء في تكبيرة الإحرام ؛ فذهب مالك في
أكثر الرواية عنه والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه إلى أن تكبيرة الإحرام فرض واجب
من فروض الصلاة . اهـ .
وفي مذهب أحمد أنها رُكن لا تسقط في عمد ولا سهو .
قال ابن قُدامة في المغني : وتختص تكبيرة الإحرام من بين الأركان بأن الصلاة لا
تنعقد بِتَرْكِها .
وقال ابن حجر : فائدة :
تكبيرة الإحرام ركن عند الجمهور ، وقيل شرط ، وهو عند الحنفية ، ووجه عند
الشافعية ، وقيل : سُنة . قال ابن المنذر : لم يقل به أحد غير الزهري ، ونقله
غيره عن سعيد بن المسيب والأوزاعي ومالك ، ولم يثبت عن أحد منهم تصريحا ، وإنما
قالوا فيمن أدرك الإمام راكعا تجزئه تكبيرة الركوع .
وقال القرطبي : والصحيح من مذهبه [ يعني الإمام مالك ] أيجاب تكبيرة الإحرام ،
وأنها فرض وركن من أركان الصلاة ، وهو الصواب ، وعليه الجمهور ، وكل من خالف
ذلك فمحجوج بالسنة .
2=
هل يُجزئ غير التكبير ؟
قال النووي : فقولها : " كان يفتتح الصلاة بالتكبير " فيه إثبات التكبير في أول
الصلاة ، وأنه يتعين لفظ التكبير ، لأنه ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان
يفعله ، وأنه صلى الله عليه وسلم قال : صلوا كما رأيتموني أصلي . وهذا الذي
ذكرناه من تعيين التكبير هو قول مالك والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى ، وجمهور
العلماء من السلف والخلف .
قال القرطبي : واختلف العلماء في اللفظ الذي يَدْخُل به في الصلاة ؛ فقال مالك
وأصحابه وجمهور العلماء : لا يجزئ إلا التكبير ، لا يجزئ منه تهليل ولا تسبيح
ولا تعظيم ولا تحميد ، هذا قول الحجازيين وأكثر العراقيين ، ولا يجزئ عند مالك
إلا ( الله أكبر ) لا غير ذلك ، وكذلك قال الشافعي .
ثم ذَكَر أن الحجة في ذلك هو حديث عائشة هذا .
3=
المؤلف رحمه الله أورد هذا الحديث في باب صِفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ،
والفِعل الْمُجرّد لا يدل على الوجوب ، إلا أنه هنا اقترنت به قرينة ، وهي قوله
عليه الصلاة والسلام : صَلُّوا كما رأيتموني أُصَلِّي . رواه البخاري .
وهنا قد يَرِد إشكال ، وهو أن صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم تضمّنت
الأركان والواجبات والسُنن ، فهذا يُعكّر على هذه القرينة .
والجواب عنه : أن المؤلّف رحمه الله أورد هذا الحديث في باب صفة صلاة النبي صلى
الله عليه وسلم ، ثم عَقَد باباً بعد هذا الباب ، وهو باب وُجوب الطمأنينة في
الركوع والسجود . وسيأتي إن شاء الله .
4=
وُجوب قراءة الفاتحة ، بل هي رُكن للإمام والمنفرِد ، والمأموم في الصلاة
السرِّيَة – على الخلاف – .
5=
وُجوب الطمأنينة ، وهي مأخوذة من ضميمة " صَلُّوا كما رأيتموني أُصَلِّي " مع
الأمر في حديث المسيء بالطمأنينة .
6=
استفتاح القراءة بـ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) هل يدلّ على أن
البسملة ليست آية من الفاتحة ؟
الجواب : لا يدل على ذلك ، فإن ذِكْر ما تُبدأ به القراءة ليس نفياً لما عداها
مما يكون قَبْلَها من الاستفتاح وقراءة البسملة .
ثم إن هذا مفهوم ، والمنطوق مُقدّم عليه .
ومن المنطوق ما رواه البخاري من طريق قتادة قال : سُئِل أنس : كيف كانت قراءة
النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : كانت مدّاً ثم قرأ : (بِسْمِ اللَّهِ
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) يَمُدّ بِـ (بسم الله) ، ويَمُدّ بـ(الرحمن) ، ويَمُدّ
بـ (الرحيم ) .
وروى الدارقطني والبيهقي من حديث أبي هريرة مرفوعا : إذا قرأتم الحمد لله
فاقرؤوا (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) إنها أم القرآن ، وأم الكتاب
، والسبع المثاني ، و (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) إحداها . وصححه
الألباني في الصحيحة .
وروى النسائي من طريق نعيم المجمر قال : صليت وراء أبي هريرة ، فقرأ : (بِسْمِ
اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ، ثم قرأ بأم القرآن حتى إذا بلغ : (غَيْرِ
الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ) فقال : آمين ، فقال الناس : آمين .
7=
هل يَجهر بـ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ؟
السنة أنه لا يَجهر بها .
وسيأتي تفصيل ذلك في حديث أنس رضي الله عنه في باب مُستقل .
8=
قولها : " وَكَانَ إذَا رَكَعَ لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ وَلَمْ يُصَوِّبْهُ
وَلَكِنْ بَيْنَ ذَلِكَ "
قال القاضي عياض : " لَمْ يُشْخِصْ رَأْسَهُ " أي لم يرفعه ، وأصل الشُّخوص
الرّفع .
والمعنى لا يرفعه حتى يكون أعلى من ظهره ، ولا يُطأطئ برأسه فيحني ظهره ، وإنما
يعتدل في ركوعه ، بحيث يكون رأسه في مستوى جسمه .
قال النووي : أي لم يخفضه خفضا بليغا ، بل يعدل فيه بين الأشْخَاصِ والتّصويب .
وفي المسند عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا رَكَع لو وُضِع قَدَحٌ من ماء على ظهره لم يُهراق .
9=
قولها : " وَكَانَ يَقُولُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ التَّحِيَّةَ " يعني التشهّد
، وهو من واجبات الصلاة ، فمن تركه عمدا بَطَلَتْ صلاته ، ومن ترك التشهّد
الأول ( ويُسمى الأوسط ) نسياناً جَبَرَه بسجود السهو .
قال النووي : فيه حجة لأحمد بن حنبل ومن وافقه من فقهاء أصحاب الحديث أن التشهد
الأول والأخير واجبان . اهـ .
وسيعقد المصنف باباً للتشهّد .
10=
تفصيل حال من قام عن التشهّد الأول :
إذا استتم قائما كُرِه له أن يَرجع ، وإن شَرَع في الرّكن حرُم عليه الرّجوع .
أما إذا لم يستتم قائما فله أن يرجع .
ففي المسند وغيره عن المغيرة بن شعبة قال : أمّـنَـا رسول الله صلى الله عليه
وسلم في الظهر أو العصر ، فقام ، فقلنا : سبحان الله ، فقال : سبحان الله ،
وأشار بيده ، يعني قوموا ، فقمنا ، فلما فرغ من صلاته سجد سجدتين ، ثم قال :
إذا ذكر أحدكم قبل أن يستتم قائما فليجلس ، وإذا استتم قائما فلا يجلس .
وفي رواية لأحمد : إذا قام أحدكم فلم يستتم قائما فليجلس ، وإذا استتم قائما
فلا يجلس ، ويَسجد سجدتي السهو .
11=
قولها : " وَكَانَ يَفْرِشُ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ
الْيُمْنَى " هذا في الصلاة ذات التشهّد الواحد ، كالفجر والجمعة والعيدين ،
والنوافل ، وهو جُلوس التشهّد الأول .
أما التشهّد الثاني فإن يتورّك فيه ، وهو ما جاء في حديث أبي حميد الساعدي رضي
الله عنه في صِفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم : فإذا جلس في الركعتين جلس
على رجله اليسرى ونصب اليمنى ، وإذا جلس في الركعة الآخرة قدم رجله اليسرى ونصب
الأخرى وقعد على مقعدته . رواه البخاري .
12=
قولها : " وَكَانَ يَنْهَى عَنْ عُقْبَةِ الشَّيْطَانِ " ، فُسِّر بالإقعاء
المنهي عنه .
وفَسَّره أبو عبيد وغيره بالإقعاء المنهي عنه ، وهو أن يلصق ألييه بالأرض وينصب
ساقيه ويضع يديه على الأرض ، كما يفرش الكلب وغيره من السباع . نقله النووي ،
وقال في شرح عقبة الشيطان : هو الإقعاء الذي فسّرناه ، وهو مكروه باتفاق
العلماء بهذا التفسير الذي ذكرناه ، وأما الإقعاء الذي ذكره مسلم بعد هذا في
حديث ابن عباس أنه سنة فهو غير هذا . اهـ .
والإقعاء الذي قال عنه ابن عباس إنه سُنة ، هو أن ينصب قدميه ، بحيث تكون بطون
الأصابع إلى الأرض ، ويجلس عليهما بين السجدتين ، أي أن يضع إليته على عرقوبَيه
.
13=
قولها : " وَيَنْهَى أَنْ يَفْتَرِشَ الرَّجُلُ ذِرَاعَيْهِ افْتِرَاشَ
السَّبُعِ "
أي في السجود ، بحيث يُلصق ذراعيه بالأرض كحال السِّباع إذا بَرَكت وبسطت
أذرعتها على الأرض .
ولأنه إذا افترش افتراش السّبع فسوف يُخل بسجوده ، ولا يُمكّن أعضاء السجود .
14=
قولها : " وَكَانَ يَخْتِمُ الصَّلاةَ بِالتَّسْلِيمِ "
قال النووي : فيه دليل على وجوب التسليم ... واخْتَلَف العلماء فيه ؛ فقال مالك
والشافعي وأحمد رحمهم الله تعالى وجمهور العلماء من السلف والخلف : السلام فرض
، ولا تصح الصلاة إلاّ به .
15=
هل يجوز أن يقتصر على تسليمة واحدة ؟
قال ابن قدامة : والواجب تسليمة واحدة ، والثانية سُنة .
قال ابن المنذر : أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم أن صلاة من اقتصر على
تسليمة واحدة جائزة .
قال ابن قدامة : وليس نص أحمد بصريح بوجوب التسلميتين ، إنما قال : التسليمتان
أصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ... ويجوز أن يذهب إليه في المشروعية
والاستحباب دون الإيجاب ، كما ذهب إلى ذلك غيره .
والله تعالى أعلم .