|
ح 250
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : فَتَلْتُ قَلائِدَ هَدْيِ رَسُولِ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ أَشْعَرْتُهَا وَقَلَّدَهَا - أَوْ
قَلَّدْتُهَا - ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إلَى الْبَيْتِ . وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ
, فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَيْءٌ كَانَ لَهُ حِلاُّ.
فيه مسائل :
1= الفَتْل : اللوي والثني .
قال ابن منظور : الفَتل : لَيّ الشيء كَلَـيِّك الحبل ، وكَفَتل الفتيلة .
2= من أي شيء كانت تلك القلائد ؟
في رواية للبخاري : قَالَتْ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : فَتَلْتُ
قَلائِدَهَا مِنْ عِهْنٍ كَانَ عِنْدِي .
وبوّب عليه الإمام البخاري : بَاب الْقَلائِدِ مِنْ الْعِهْنِ .
قال ابن بطال : العِهن : الصوف ، وأكثر ما يكون مصبوغًا ، ليكون أبلغ في
العلامة .
3= هل يُقلّد الهدي بِغير القلائد المفتولة ؟
في هذا الحديث أنه بِشيء من الخيوط المفتولة من الصوف .
وفي حديث جابر أنه قلّدها بالنعلين
قال النووي في شرح حديث جابر رضي الله عنه : وَفِي هَذَا الْحَدِيث
اِسْتِحْبَاب تَقْلِيد الإِبِل بِنَعْلَيْنِ ، وَهُوَ مَذْهَبنَا وَمَذْهَب
الْعُلَمَاء كَافَّة ، فَإِنْ قَلَّدَهَا بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ جُلُود أَوْ
خُيُوط مَفْتُولَة وَنَحْوهَا ، فَلا بَأْس . اهـ .
والْجَمْع بين الحديثين ، واختلاف التقليدين مرّة بالخيوط ومرة بالنعال : أن
حديث عائشة رضي الله عنها وتقليد الهدي بالخيوط كان والنبي صلى الله عليه وسلم
في المدينة ، وكان ذلك قبل حجة الوداع .
وحديث جابر رضي الله عنه في تقليد النبي صلى الله عليه وسلم لِهَدْيه في حجة
الوداع .
قال القرطبي : وأما القلائد فهي كل ما عُلِّق على أسنمة الهدايا وأعناقها علامة
أنه لله سبحانه ، مِن نَعل أو غيره ، وهي سُنة إبراهيمية بَقِيت في الجاهلية
وأقَرّها الإسلام ، وهي سُنَّة البقر والغنم .
4= الإشعار الإعلام ، والشِّعار العَلامَة . قاله ابن منظور .
قال الخطابي : الإشعار أن يطعن في سنامها بِمبضَع أو نحو ذلك حتى يسيل دمها ،
فيكون ذلك عَلَمًا أنها بَدَنة .
5= بوّب عليه الإمام البخاري : بَابُ مَنْ أَشْعَرَ وَقَلَّدَ بِذِي
الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ . وَقَالَ نَافِع : كَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا أَهْدَى مِنْ الْمَدِينَةِ قَلَّدَهُ وَأَشْعَرَهُ
بِذِي الْحُلَيْفَةِ ، يَطْعُنُ فِي شِقِّ سَنَامِهِ الأَيْمَنِ بِالشَّفْرَةِ
وَوَجْهُهَا قِبَلَ الْقِبْلَةِ بَارِكَة .
وقال ابن حجر : الإشعار ، وهو أن يكشط جِلد البَدَنة حتى يسيل دم ثم يَسلته ،
فيكون ذلك علامة على كونها هديا ، وبذلك قال الجمهور من السلف والخلف . اهـ .
6= مشروعية الإشعار
قال ابن عبد البر : قال الشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق وسائر أهل العلم :
تُشْعَر البدن في الشق الأيمن . وحجتهم أن رسول اله صلى الله عليه وسلم قَلّد
بَدَنة وأشعرها مِن الشق الأيمن ، وسَلَت الدم عنها .
وقال ابن حجر : فيه مشروعية الإشعار .
7= فائدة هذا الإشعار :
في أمرين :
الأول : أن يُعلَم أنه هدي فلا يُتعرّض له . وكان الناس يُعظِّمون الهدي حتى في
الجاهلية . وفي قصة صُلح الحديبية : فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ :
دَعُونِي آتِيهِ [ يعني النبي صلى الله عليه وسلم ] فَقَالُوا : ائْتِهِ .
فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَصْحَابِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
هَذَا فُلان ، وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ ،
فَبُعِثَتْ لَهُ ، وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ ، فَلَمَّا رَأَى
ذَلِكَ قَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ! مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلاءِ أَنْ يُصَدُّوا
عَنْ الْبَيْتِ ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ : رَأَيْتُ
الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنْ
الْبَيْتِ . رواه البخاري .
وهذا دالّ على تعظيم أهل الجاهلية كل ما له علاقة بالكعبة أو الحرم عموما .
والثاني : " الإعلام بأنها صارت هديا ليتبعها من يحتاج إلى ذلك ، وحتى لو
اختلطت بغيرها تَميزت ، أو ضَلَّت عُرِفت ، أو عَطبت عَرفها المساكين بالعلامة
فأكلوها " قاله ابن حجر .
8= لا عِبرة بِكراهية من كَرِه الإشعار ، بِحُجّة أنه تعذيب للحيوان ، ولا
بِحُجّة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اتِّخاذ شيء فيه الروح غَرَضًا ،
ولا مِن أجل نَهْيه صلى الله عليه وسلم عن الْمُثْلَة ؛ لأن الذي فَعَل ذلك
وأمَر به وشرَعَه ، هو الذي نهى عن ذلك ، ولا تعارُض بين النهي وبين الفِعْل .
لأن هذا ليس مُثْلَة ، ولا هو مِن باب اتِّخاذه غَرَضًا وهدَفًا للرماية .
قال الخطابي : الإشعار ليس مِن جُملة ما نُهِي عنه من الْمُثْلَة ... وإنما
المثلَة أن يُقطع عضو من البهيمة يُراد به التعذيب ، أو تُبَان قطعة منها للأكل
، كما كانوا يفعلون ذلك ، مِن قطعهم أسنمة الإبل وإليات الشاء ، يبينونها
والبهيمة حية ، فتُعذّب بذلك ، وإنما سبيل الإشعار سبيل ما أُبيح من الكيّ و
التبزيغ والتوديج في البهائم ، وسبيل الختان والفِصاد والحجامة في الآدميين ؛
وإذا جاز الكيّ واللذع بالميسم ليُعرَف بذلك ملك صاحبه ، جاز الإشعار ليُعلَم
أنه بَدَنة نُسُك ، فتتميّز من سائر افبل ، وتُصان ، فلا يُعرض لها حتى تبلغ
المحلّ . وكيف يجوز أن يكون الإشعار مِن باب المثلَة ، وقد نهى رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن المثلة ، وأشعر بُدنَه عام حجّ ، وهو مُتأخِّر . اهـ .
9= " السنة التقليد ، وهو في الإبل كالإجماع مِن أهل العلم " قاله الخطابي .
10= تقليد البقر كتقليد الإبل .
قال البخاري : باب فتل القلائد للبُدْن والبقر .
قال النووي : وَأَمَّا الْبَقَرَة فَيُسْتَحَبّ عِنْد الشَّافِعِيّ
وَمُوَافِقِيهِ : الْجَمْع فِيهَا بَيْن الإِشْعَار وَالتَّقْلِيد كَالإِبِلِ .
وقال : مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجُمْهُور اِسْتِحْبَاب الإِشْعَار
وَالتَّقْلِيد فِي الإِبِل وَالْبَقَر .
وقال ابن حجر : اتفق من قال بالإشعار بإلْحَاق البقر في ذلك بالإبل ، إلاَّ
سعيد بن جبير .
11= لا تُشعر الغنم ، ويُكتفى بتقليدها .
في رواية للبخاري : قالت عائشة رضي الله عنها : كُنّا نُقلِّد الشاء .
قال النووي : وَأَمَّا الْغَنَم فَيُسْتَحَبّ فِيهَا التَّقْلِيد وَحْده .
وَفِيهِ اِسْتِحْبَاب فَتْل الْقَلائِد .
وقال ابن حجر : اتفقوا على أن الغنم لا تُشعر لِضعفها ، ولِكون صوفها أو شعرها
يَستر موضع الإشعار . وأما على ما نُقِل عن مالك فَلِكونها ليست ذات أسنمة .
12= استحباب الجمع بين الإشعار والتقليد .
قال النووي : فِيهِ دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب الْجَمْع بَيْن الإِشْعَار
وَالتَّقْلِيد فِي الْبُدْن ، وَكَذَلِكَ الْبَقَر . وَفِيهِ أَنَّهُ إِذَا
أَرْسَلَ هَدْيَة أَشْعَرَهُ وَقَلَّدَهُ مِنْ بَلَده ، وَلَوْ أَخَذَهُ مَعَهُ
أَخَّرَ التَّقْلِيد وَالإِشْعَار إِلَى حِين يُحْرِم مِنْ الْمِيقَات أَوْ
مِنْ غَيْره . اهـ .
يعني : أوْ مِن غير الميقات لِمَن كان محله دون الميقات ، أو كان يمرّ بِمحاذاة
ميقات من المواقيت .
13= مشروعية إهداء الهدي لغير الْمُحْرِم ، ولا يتعلّق به شيء مِن أحكام
الإحرام .
قال ابن عبد البر : فيه أن تقليد الهدي لا يُوجب على صاحبه الإحرام .
وقال النووي : . وَفِيهِ أَنَّ مَنْ بَعَثَ هَدْيه لا يَصِير مُحْرِمًا وَلا
يَحْرُم عَلَيْهِ شَيْء مِمَّا يَحْرُم عَلَى الْمُحْرِم ، وَهَذَا مَذْهَبنَا
وَمَذْهَب الْعُلَمَاء كَافَّة . اهـ .
وهذا بِخلاف الأضحية ، وسيأتي ما يتعلّق بها في باب الأضاحي في كتاب الأطعمة ،
إن شاء الله .
14= فيه تواضع أمهات المؤمنين ، وأن خدمة المرأة لزوجها لا غضاضة فيها ، وإن
كان في غير الخدمة الواجبة .
قال ابن عبد البر : وفيه عَمَل أزواج النبي عليه السلام بأيديهن ، وامتهانهن
أنفسهن ، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتهن نفسه في عَمَل بَيته ،
فربما خاط ثوبه ، وخَصَف نَعله . اهـ .
والله أعلم .