|
ح 253
عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قال : أَمَرَنِي النبي صلى الله
عليه وسلم أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ , وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا
وَجُلُودِهَا وَأَجِلَّتِهَا , وَأَنْ لا أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا
. وقال : نحن نُعطيه مِن عِندنا .
فيه مسائل :
1= " أَنْ أَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ " القيام على الشيء بِحسبِه . والمقصود به
هنا : الاحتياط والعناية بها .
2= في رواية للبخاري : قال عَلِيّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَهْدَى النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةَ بَدَنَةٍ ، فَأَمَرَنِي
بِلُحُومِهَا فَقَسَمْتُهَا ، ثُمَّ أَمَرَنِي بِجِلالِهَا فَقَسَمْتُهَا ،
ثُمَّ بِجُلُودِهَا فَقَسَمْتُهَا .
وتقدّم في شرح حديث ابن عمر رضي الله عنهما : أن مجموع هَديه صلى الله عليه
وسلم إلى البيت مائة من الإبل ، نَحَر منها عليه الصلاة والسلام ثلاثا وستّين ،
وتولّى عليّ رضي الله عنه نحر ما بقي .
وفي حديث جابر : ثم انصرف إلى المنحَر ، فنحر ثلاثا وستين بيده ، ثم أعطى
عليًّا ، فَنَحَر ما غَبَر ، وأشركه في هديه . رواه مسلم .
قال القاضي عياض : وَالظَّاهِر أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ نَحَرَ الْبُدْن الَّتِي جَاءَتْ مَعَهُ مِنْ الْمَدِينَة ،
وَكَانَتْ ثَلاثًا وَسِتِّينَ ، كَمَا جَاءَ فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ . اهـ
.
والجمع بين القولين : أنه عليه الصلاة والسلام أهدى مائة بَدَنة ، وأنه ساق من
المدينة ثلاثا وستين بَدَنة .
أن الأول محمول على مجموع الهدي ، الذي ساقَه رسول الله صلى الله عليه وسلم
والذي جاء به عليّ معه من اليمن ، والثاني على ما سَاقَه النبي صلى الله عليه
وسلم من المدينة .
وتدلّ عليه رواية مسلم لحديث جابر : قال : فكان جَمَاعَةُ الْهَدْيِ الَّذِي
قَدِمَ بِهِ عَلِيٌّ مِنْ الْيَمَنِ وَالَّذِي أَتَى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةً .
والذي جاء به عليّ رضي الله عنه منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أيضا ؛ لأن
عليّ كان عامله على اليمن .
3= نَحَر عليّ رضي الله عنه ( 37 ) بَدَنة ؛ لأن المجموع مائة ، ورسول الله صلى
الله عليه وسلم نَحَر ثلاثا وستين .
قال القاضي عياض : وَأَعْطَى عَلِيًّا الْبَدَن الَّتِي جَاءَتْ مَعَهُ مِنْ
الْيَمَن ، وَهِيَ تَمَام الْمِائَة . اهـ .
4= قوله : " وَأَنْ أَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا وَجُلُودِهَا وَأَجِلَّتِهَا " لا
يعني هذا أنه لا يُؤكل منها .
ففي حديث جابر : ثُمَّ أَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ ، فَجُعِلَتْ فِي
قِدْرٍ فَطُبِخَتْ ، فَأَكَلا مِنْ لَحْمِهَا وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهَا .
وإنما يدُلّ على أنه يُتصدّق بشيء مِن لحمها من غير وُجوب .
وعليه تُحمَل رواية : " وَأَمَرَهُ أَنْ يَقْسِمَ بُدْنَهُ كُلَّهَا " ، أي :
الغالب ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام أخذ منها وأكل .
وهذا في هدي التمتّع وفي الأضحية .
أما في جزاء الصيد وفي الـنَّذْر والفدية ؛ فلا يُؤكل منه .
قال نافع : عن ابن عمر : لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر ، ويؤكل مما سوى ذلك .
5= يجوز أن يدّخر من لحوم الهدي والأضحية .
قال جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : كُنَّا لا
نَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلاثِ مِنًى ، فَرَخَّصَ لَنَا
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : كُلُوا وَتَزَوَّدُوا
. فَأَكَلْنَا وَتَزَوَّدْنَا . رواه البخاري ومسلم .
وقوله : " فَوْقَ ثَلاثِ مِنًى " يعني : ثلاثة أيام مِنى . الأيام الثلاثة
المختصة بِمنَى .
قَالَتْ عائشة رضي الله عنها : فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ
بَقَرٍ ، فَقُلْتُ : مَا هَذَا ؟ فَقِيلَ : ذَبَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَزْوَاجِهِ . رواه البخاري ومسلم .
6= لا يجوز بيع ما أُخرِج لله ، فلا يجوز بيع لُحوم الهدي ولا جلودها ولا
أجلّتها .
وفي الصحيحين أن أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه حَمَلَ عَلَى
فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، فَوَجَدَهُ يُبَاعُ ، فَأَرَادَ أَنْ يَبْتَاعَهُ
، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فقَالَ : لا
تَبْتَعْهُ ، وَلا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكَ .
قال القرطبي : فيه دليل على أن جلود الهدي وجلالها لا تُباع لِعَطفها على اللحم
وإعطائها حُكمه ، وقد اتفقوا على أن لَحمها لا يُباع ، فكذلك الجلود والجلال .
نقله ابن حجر .
قال البغوي : فيه دليل على أن ما ذَبَحه قُربة إلى الله تعالى لا يجوز بيع شيء
منه ، فإنه عليه السلام لم يُجَوِّز أن يُعطى الجزار شيئا من لحم هَدْيِه ،
لأنه يُعطيه بمقابلة عَمله ، وكذلك كل ما ذَبَحه لله سبحانه وتعالى من أضحية
وعقيقة ونحوها . اهـ .
7= الأجِلّة : جَمْع جِلال .
قال القاضي عياض : جلال البُدن : بكسر الجيم ، وأجلتها أيضا هي الثياب التي
تُلبسها .
وفي القاموس في معنى " الجلّ " : وبالضم وبالفتح : ما تُلْبَسُهُ الدابَّةُ
لتُصَانَ به، وقد جَلَّلْتُها وجَلَلْتُها، والجمع : جِلالٌ وأجْلال .
وفي " تاج العروس " : جِلالٌ بالكسر وأَجْلالٌ ، وجَمْعُ الجِلالِ : أَجِلَّةٌ
.
8= قال النووي : وَفِي هَذَا الْحَدِيث فَوَائِد كَثِيرَة مِنْهَا :
اِسْتِحْبَاب سَوْق الْهَدْي ، وَجَوَاز النِّيَابَة فِي نَحْره ، وَالْقِيَام
عَلَيْهِ وَتَفْرِقَته ، وَأَنَّهُ يُتَصَدَّق بِلُحُومِهَا وَجُلُودهَا
وَجِلالهَا ، وَأَنَّهَا تُجَلَّل ، وَاسْتَحَبُّوا أَنْ يَكُون جِلاًّ حَسَنًا
، وَأَلاّ يُعْطَى الْجَزَّار مِنْهَا ، لأَنَّ عَطِيَّته عِوَض عَنْ عَمَله
فَيَكُون فِي مَعْنَى بَيْع جُزْء مِنْهَا ، وَذَلِكَ لا يَجُوز . وَفِيهِ :
جَوَاز الاسْتِئْجَار عَلَى النَّحْر وَنَحْوه ، وَمَذْهَبنَا أَنَّهُ لا
يَجُوز بَيْع جِلْد الْهَدْي وَلا الأُضْحِيَّة وَلا شَيْء مِنْ أَجْزَائِهِمَا
؛ لأَنَّهَا لا يُنْتَفَع بِهَا فِي الْبَيْت وَلا بِغَيْرِهِ ... وَلا يَجُوز
إِعْطَاء الْجَزَّار مِنْهَا شَيْئًا بِسَبَبِ جِزَارَته ، هَذَا مَذْهَبنَا
وَبِهِ قَالَ عَطَاء وَالنَّخَعِيُّ وَمَالِك وَأَحْمَد وَإِسْحَاق ، وَحَكَى
اِبْن الْمُنْذِر عَنْ اِبْن عُمَر وَأَحْمَد وَإِسْحَاق : أَنَّهُ لا بَأْس
بِبَيْعِ جِلْد هَدْيه ، وَيَتَصَدَّق بِثَمَنِهِ
9= قَالَ الْقَاضِي : التَّجْلِيل سُنَّة ، وَهُوَ عِنْد الْعُلَمَاء مُخْتَصّ
بِالإِبِلِ ، وَهُوَ مِمَّا اُشْتُهِرَ مِنْ عَمَل السَّلَف ، قَالَ :
وَمِمَّنْ رَآهُ مَالِك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَاق . قَالُوا :
وَيَكُون بَعْد الإِشْعَار لِئَلا يَتَلَطَّخ بِالدَّمِ ، قَالُوا وَيُسْتَحَبّ
أَنْ تَكُون قِيمَتهَا وَنَفَاسَتهَا بِحَسَبِ حَال الْمُهْدِي ، وَكَانَ بَعْض
السَّلَف يُجَلِّل بِالْوَشْيِ ، وَبَعْضهمْ بِالْحِبَرَةِ ، وَبَعْضهمْ
بِالْقُبَاطِيِّ وَالْمَلاحِف وَالأُزُر ، قَالَ مَالِك : وَتُشَقّ عَلَى
الأَسْنِمَة إِنْ كَانَتْ قَلِيلَة الثَّمَن لِئَلا تَسْقُط . نقله النووي .
قال النووي : واتفق الشافعي والأصحاب وغيرهم من العلماء على استحباب تجليل
الهدي ، والصدقة بذلك الْجُلّ .
10= فائدة شقّ الأجلّة :
قَالَ الْقَاضِي : وَفِي شَقّ الْجِلال عَلَى الأَسْنِمَة فَائِدَة أُخْرَى
وَهِيَ إِظْهَار الإِشْعَار لِئَلا يَسْتَتِر تَحْتهَا .
قال النووي : وَفِي هَذَا الْحَدِيث الصَّدَقَة بِالْجِلالِ ، وَهَكَذَا
قَالَهُ الْعُلَمَاء ، وَكَانَ اِبْن عُمَر أَوَّلاً يَكْسُوهَا الْكَعْبَة ،
فَلَمَّا كُسِيَتْ الْكَعْبَة تَصَدَّقَ بِهَا .
11= قوله : " وَأَنْ لا أُعْطِيَ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا " أي : على سبيل
المعاوضة عن عمله ، أما إن يُعطى منها هدية أو صدقة ، فلا بأس بذلك ، بشرط أن
يكون بعد استيفاء أجرة عمله .
قال البغوي : وهذا إذا أعطاه على معنى الأجرة ، فأما أن يتصدق عليه بشيء منه ،
فلا بأس به ، هذا قول أكثر أهل العلم . اهـ .
12= فَهِم بعض العلماء أن لا يُعطَى الجزاّر شيئا مِن أجرته ، وظاهره " أن لا
يُعطي الجزار شيئا البتة ، وليس ذلك المراد ، بل المراد أن لا يعطي الجزار منها
شيئا ، كما وقع عند مسلم " قاله ابن حجر .
ويدلّ على هذا رواية في الصحيحين : أَمَرَنِي النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَقُومَ عَلَى الْبُدْنِ وَلاَ أُعْطِيَ عَلَيْهَا
شَيْئًا فِي جِزَارَتِهَا .
13= قوله : " وقال : نحن نُعطيه مِن عِندنا "
أي : نُعطيه أجرة عمله مِن غير الهدي .
14= تقدمت الإشارة إلى حديث جابر ، وفيه : ثم انصرف إلى المنحَر ، فنحر ثلاثا
وستين بِيدِه ، ثم أعطى عليًّا ، فَنَحَر ما غَبَر .
ففيه أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر ثلاثا وستين ، وأن عليًّا رضي الله عنه
نَحر الباقي ، فكيف يُنهَى عن إعطاء الجزار منها شيئا ؟ وليس ثمّ جزّار ؟
والجواب عنه :
أن هذا بيان لِحُكم عام لِجميع الناس ، وتنبيه لِعليّ رضي الله عنه إذا تولّى
الذبح إن هو أوْكَل الذبح أو النحر لِغيره أن لا يُعطِه شيئا .
15= دُخول النيابة في هذه الأشياء ؛ لأنها مما تدخله النيابة ، فيجوز التوكيل
على الذبح والنحر ، وإن كان الأفضل أن يليها المسلم بِنفسه .ومن هذا الباب :
توكيل المؤسسات أو المصارف التي تقوم على ذبح الهدي في منى .
قال النووي : وَفِيهِ اِسْتِحْبَاب ذَبْح الْمُهْدِي هَدْيه بِنَفْسِهِ ،
وَجَوَاز الاسْتِنَابَة فِيهِ ، وَذَلِكَ جَائِز بِالإِجْمَاعِ إِذَا كَانَ
النَّائِب مُسْلِمًا ، وَيَجُوز عِنْدنَا أَنْ يَكُون النَّائِب كَافِرًا
كِتَابِيًّا بِشَرْطِ أَنْ يَنْوِي صَاحِب الْهَدْي عِنْد دَفْعه إِلَيْهِ أَوْ
عِنْد ذَبْحه . اهـ .
وكيف يصحّ أن يكون كتابيا ونحر الهدي في الحرم ، وقد مُنِع الكافر مِن دُخول
الْحَرَم ؟!
وقد نقل النووي عن الْقَاضِي قوله : فِيهِ دَلِيل عَلَى أَنَّ الْمَنْحَر
مَوْضِع مُعَيَّن مِنْ مِنًى ، وَحَيْثُ ذَبَحَ مِنْهَا أَوْ مِنْ الْحَرَم
أَجْزَأَهُ . اهـ .
فهم يشترطون نحر الهدي في منى أو في مكة داخل حدود الْحَرَم . والكافر لا يدخل
داخل حدود الحرم .
والله أعلم .