|
ح 263
عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ : حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله
عليه وسلم فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ . فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ . فَأَرَادَ
النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ .
فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , إنَّهَا حَائِضٌ . قَالَ : أَحَابِسَتُنَا
هِيَ ؟ قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ , أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ :
اُخْرُجُوا .
وَفِي لَفْظٍ : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : عَقْرَى , حَلْقَى .
أَطَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ ؟ قِيلَ : نَعَمْ . قَالَ : فَانْفِرِي
فيه مسائل :
1= قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : " حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى
الله عليه وسلم " يعني في حجة الوداع .
2= " فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ " أي : طُفْنَا طواف الإفاضة ، وهو رُكن من
أركان الحج . والسنة تعجيله يوم العيد لِمن يَخْشَى أن يَعرِض له عارِض .
3= " فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ " أي : بعد طواف الإفاضة .
ففي رواية للبخاري : عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ صَفِيَّةَ
بِنْتَ حُيَيٍّ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاضَتْ ،
فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ،
فَقَالَ : أَحَابِسَتُنَا هِيَ ؟ قَالُوا : إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ ، قَالَ :
فَلا إِذًا .
وفي رواية لمسلم : فقلت : يا رسول الله ، إنها قد كانت أفاضت وطافت بالبيت ، ثم
حاضت بعد الإفاضة .
وفي رواية له : طَمِثَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بَعْدَ مَا أَفَاضَتْ
طَاهِرًا .
فيُطلق على الحيض : حيض وطَمث ونفاس .
ففي هذه الرواية : طَمِثَتْ صَفِيَّةُ .
وفي حديث عائشة : ما لك أنَفِسْت .
4= جواز التلميح بِحاجة الرجل إلى أهله .
قال الحافظ العراقي : لعل الرواية التي فيها إرادة الوقاع وَهْم ، ولم أقف
عليها في صحيح البخاري ، ففي ذِكْر عبد الغني المقدسي لها في العمدة نَظَر .
اهـ .
والرواية في الصحيحين ؛ فقد رواها البخاري في بَاب الزِّيَارَةِ يَوْمَ
النَّحْرِ . بلفظ : فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ فَأَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ .
ورواها مسلم بلفظ : أن رسول الله صلى الله عليه و سلم أراد مِن صفية بعض ما
يُريد الرجل مِن أهله .
5= " أَحَابِسَتُنَا هِيَ ؟ " استفهام ، وهو محمول على لو لم تَطُف طواف
الإفاضة .
وفيه إشكال : كيف يُريدها النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم يقول : أَحَابِسَتُنَا
هِي ؟ فإن المرأة لا تَحِلّ لزوجها ما لم تطُف طواف الإفاضة ، وترمي جمرة
العقبة وتُقصّر مِن شعرها ؟
قال الحافظ العراقي : هذه الرواية مُشْكِلة ؛ لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن
عَلِم بأنها طافت طواف الإفاضة ، كما اتفقت عليه سائر الروايات ، فكيف يُريد
وقاعها وحُكم الإحرام في حقها بالنسبة إلى الوقاع باقٍ قبل الطواف ؟
وجوابه : أنه عليه الصلاة والسلام ظن أنها طاهرة ، وأنها طافت طواف الإفاضة ،
فلما تبين له أنها حائض توهّم حينئذ أنها لم تَطُف طواف الإفاضة ، فما حَدَث له
هذا التوهّم إلاَّ بعد علمه بأنها حائض ، فلم يجتمع إرادة الوقاع وتَوَهَّم
عَدَم الطواف في زمن واحد . اهـ .
وقال ابن حجر : وهذا مشكل ؛ لأنه صلى الله عليه وسلم إن كان عَلِم أنها طافت
طواف الإفاضة ، فكيف يقول : أحابستنا هي ؟ وإن كان ما عَلم فكيف يُريد وقاعها
قبل التحلل الثاني ؟ ويُجاب عنه : بأنه صلى الله عليه وسلم ما أراد ذلك منها
إلاَّ بعد أن استأذنه نساؤه في طواف الإفاضة ، فأذِن لهن ، فكان بَانِيًا على
أنها قد حَلَّت ، فلما قيل له إنها حائض جَوَّز أن يكون وَقَع لها قبل ذلك حتى
منعها من طواف الإفاضة ، فاستفهم عن ذلك فأعلَمَتْه عائشة أنها طافت معهن ،
فزال عنه ما خشيه مِن ذلك . اهـ .
ويدل عليه قول عَائِشَةَ رضي الله عنها لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ قَدْ حَاضَتْ ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَعَلَّهَا تَحْبِسُنَا ،
أَلَمْ تَكُنْ قَدْ طَافَتْ مَعَكُنَّ بِالْبَيْتِ ؟ قَالُوا : بَلَى . قَالَ :
فَاخْرُجْنَ . رواه البخاري ومسلم .
ويُشكل على هذا ما جاء في رواية في الصحيحين عن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا قَالَتْ : أَرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَنْفِرَ فَرَأَى صَفِيَّةَ عَلَى بَابِ خِبَائِهَا كَئِيبَةً حَزِينَةً ؛
لأَنَّهَا حَاضَتْ ، فَقَالَ : عَقْرَى حَلْقَى - لُغَةٌ لِقُرَيْشٍ - إِنَّكِ
لَحَابِسَتُنَا ، ثُمَّ قَالَ : أَكُنْتِ أَفَضْتِ يَوْمَ النَّحْرِ ؟ يَعْنِي
الطَّوَافَ . قَالَتْ : نَعَمْ . قَالَ : فَانْفِرِي إِذًا .
وهذا محمول على أنها ظنّت وُجوب طواف الوداع ، فكانت حزينة لأجل ذلك .
6= " أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ " : يعني : طافتْ طواف الإفاضة . ويوم النحر :
هو يوم العيد . وسُمّي كذلك لِكثرة ما يُنْحَر فيه مِن الهدي .
7= " اُخْرُجُوا " هو بمعنى الرواية الثانية: " فَانْفِرِي " ، إلاّ أن الرواية
ألأولى عامة لِنسائه صلى الله عليه وسلم ، والثانية خاصة بِصفية رضي الله عنها
.
قال الحافظ العراقي : يُحتمل أنه أمْر إباحة ، ويحتمل أنه أمْر إيجاب ، لا لأجل
النسك ، بل لِحَقِّه عليه الصلاة والسلام في كونها زوجته . اهـ .
ويُحمَل على أنه أمْر إباحة . ففي بعض الروايات : فَاخْرُجْنَ . وفي بعضها :
قَالَ : لا بَأْسَ ، انْفِرِي .
8= " عَقْرَى , حَلْقَى " معناه الدعاء بالعَقْر والْحَلْق . ولا يُراد ظاهره .
ومعنى " عَقْرَى " أي : عَقَرها الله ، أي : جَرَحها . وقيل : جَعَلها عاقرا لا
تَلِد .
ومعنى " حَلْقَى " أي : حَلَق شعرها . وقيل : أي : أصابه وَجَع في حَلْقِه .
قَالَ أَبُو عُبَيْد : مَعْنَى ( عَقْرَى ) عَقَرَهَا اللَّه تَعَالَى ، وَ (
حَلْقَى ) حَلَقَهَا اللَّه . قَالَ : يَعْنِي عَقَرَ اللَّه جَسَدهَا ،
وَأَصَابَهَا بِوَجَعٍ فِي حَلْقهَا . نَقَله النووي .
9= فيه دليل على أن طواف الإفاضة رُكن مِن أركان الحج ، وأنه لا يسقط عن الحائض
ولا عن غيرها ؛ لأن الحائض تحبس رفقتها حتى تطوف طواف الإفاضة .
قال ابن عبد البر : أجمع العلماء على أن تمام الحج الوقوف بِعَرفة ، والطواف
بالبيت ، طواف الإفاضة . اهـ .
وقال النووي : وقت هذا الطواف مِن نِصف ليلة النحر ويبقى إلى آخر العمر ، ولا
يزال محرما حتى يأتي به . اهـ .
10= أجاز بعض أهل العلم للحائض أن تطوف طواف الإفاضة وهي حائض إذا اضْطُرَّتْ
إلى ذلك .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : لا يَجُوزُ لِحَائِضِ أَنْ تَطُوفَ إلاَّ
طَاهِرَةً إذَا أَمْكَنَهَا ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ ، وَلَوْ قَدِمَتْ
الْمَرْأَةُ حَائِضًا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ ، لَكِنْ تَقِفُ بِعَرَفَةَ ،
وَتَفْعَلُ سَائِرَ الْمَنَاسِكِ كُلِّهَا مَعَ الْحَيْضِ إلاَّ الطَّوَافَ
فَإِنَّهَا تَنْتَظِرُ حَتَّى تَطْهُرَ إنْ أَمْكَنَهَا ذَلِكَ ، ثُمَّ تَطُوفُ
، وَإِنْ اُضْطُرَّتْ إلَى الطَّوَافِ فَطَافَتْ أَجَزْأَهَا ذَلِكَ عَلَى
الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ .
وقال : إِذَا دَارَ الأَمْرُ بَيْنَ أَنْ تَطُوفَ طَوَافَ الإِفَاضَةِ مَعَ
الْحَدَثِ وَبَيْنَ أَنْ لا تَطُوفَهُ ؛ كَانَ أَنْ تَطُوفَهُ مَعَ الْحَدَثِ
أَوْلَى ، فَإِنَّ فِي اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ نِزَاعًا مَعْرُوفًا وَكَثِيرٌ
مِنْ الْعُلَمَاءِ ، كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَد فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
عَنْهُ يَقُولُونَ : إنَّهَا فِي حَالِ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّهَارَةِ إذَا
طَافَتْ مَعَ الْحَيْضِ أَجْزَأَهَا وَعَلَيْهَا دَمٌ ، مَعَ قَوْلِهِمْ
إنَّهَا تَأْثَمُ بِذَلِكَ .
وقال : الْحَائِضُ تَقْضِي الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إلاَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ
، فَإِنَّهَا تَجْتَهِدُ أَنْ لا تَطُوفَ بِالْبَيْتِ إلاّ طَاهِرَةً ، فَإِنْ
عَجَزَتْ عَنْ ذَلِكَ وَلَمْ يُمْكِنْهَا التَّخَلُّفُ عَنْ الرَّكْبِ حَتَّى
تَطْهُرَ وَتَطُوفَ ، فَإِنَّهَا إذَا طَافَتْ طَوَافَ الزِّيَارَةِ وَهِيَ
حَائِضٌ أَجْزَأَهَا فِي أَحَدِ قَوْلَيْ الْعُلَمَاءِ .
وسيأتي حُكم طواف الوداع في الحديث التالي ، حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
والله أعلم .