|
ح 264
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ : أُمِرَ النَّاسُ
أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ , إلاَّ أَنَّهُ خُفِّفَ عَنْ
الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ .
فيه مسائل :
1= قوله : " أُمِرَ النَّاسُ " الآمِر هو النبي صلى الله عليه وسلم .
قال النووي : قول الصحابي : أُمِرنا بكذا ، ونُهينا عن كذا ، أو أُمِرَ الناس
بكذا ، ونحوه ؛ فَكُلّه مرفوع ، سواء قال الصحابي ذلك في حياة رسول الله صلى
الله عليه وسلم ، أم بعد وفاته .
وقال أيضا : إذا قال الصحابي : السُّنة كذا ، أو : مِن السُّنة كذا ، فهو في
الْحُكم كَقَوله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كذا . هذا مذهبنا ومذهب
المحدِّثين وجماهير السلف والخلف ، وجعله بعضهم موقوفا ، وليس بشيء . اهـ .
أي : جَعَله بعضهم مِن قول الصحابي ، وهذا القول ليس بشيء .
2= الأمْر محمول على الوجوب ، لهذا الحديث ، ولِحديث عَائِشَةَ رضي الله عنها ،
وهو الحديث السابق .
قال الإمام الشافعي : أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال : لا يَصدرّن
أحدٌ مِن الحاج حتى يكون آخر عهده بالبيت ، فإن آخر النسك الطواف بالبيت .
ثم قال : وبهذا نقول ، وفي أمرِ رسول الله صلى الله عليه وسلم الحائض أن تَنفر
قبل أن تطوف طواف الوداع دلالة على أن ترك طواف الوداع لا يُفسد حجا ، والحج
أعمال متفرقة ، منها شيء إذا لم يعمله الحاج أفسد حجه ، وذلك الإحرام ، وأن
يكون عاقلا للإحرام ، وعرفة ، فأي هذا ترك لم يُجْزه عنه حجه .
ومنها : ما إذا تركه لم يَحِلّ مِن كُلّ إحرامه ، وكان عليه أن يعمله في عمره
كُله ، وذلك الطواف بالبيت والصفا والمروة الذي يَحِلّ به إلاّ النساء ، وأيهما
ترك رَجع مِن بلده ، وكان محرما مِن النساء حتى يقضيه .
ومنها : ما يُعمل في وقت ، فإذا ذهب ذلك الوقت كله لم يكن له ولا عليه عمله ولا
بَدَله ، وعليه الفدية ، مثل المزدلفة والبيتوتة بمنى ورمى الجمار .
ومنها : ما إذا تركه ثم رجع إليه سقط عنه الدم ، ولو لم يرجع لزمه الدم ، وذلك
مثل الميقات في الإحرام ، ومثله - والله أعلم - طواف الوداع . اهـ .
وقال ابن عبد البر : إن كانت الحائض قد طافت قبل أن تَحيض جاز لها بالسُّنة أن
تَخْرُج ولا تُوَدِّع البيت ، ورُخِّص ذلك للحائض وحدها دون غيرها .
وهذا كله أمْر مجتمع عليه من فقهاء الأمصار ، وجمهور العلماء عليه لا خلاف
بينهم فيه .
وقال النووي : هذا دليل لِوجوب طواف الوداع على غير الحائض ، وسقوطه عنها .
3= مَن تَرَك طواف الوداع مِن أهل الآفاق فعليه أن يرجع ليطوف ، وإلاّ لزمه دم
، ما عدا الحائض .
واخْتَلَفُوا في رُجوع مَن تَرَك طواف الوداع .
قال ابن عبد البر : وجُمْلة قول مالك فيمن لم يَطُف للوداع : أنه إذا كان قريبا
رَجع فطاف لِوداع البيت ، وإن بَعُد فلا شيء عليه .
وقال أبو حنيفة وأصحابه : يَرْجِع إلى طواف الوداع ما لم يبلغ المواقيت ، فإن
بَلَغَها ولم يرجع فعليه دم .
وقال سفيان الثوري والشافعي : مَن لم يَطُف الوداع فعليه دم إن يغدو ، وإن
أمكنه الرجوع رجع .
وهو قول الحسن البصري والحكم وحماد ومجاهد ، كلهم يقولون : عليه دم .
وثبت عن بن عباس أنه قال : " مَن نَسِي مِن نُسُكِه شيئا فليهرق دما " ولا خلاف
أن طواف الوداع من النسك . اهـ .
4= هذا الأمر مُختَصّ بالحج دون العمرة ، لقوله : " أَنْ يَكُونَ آخِرُ
عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ "
وفي رواية لمسلم : كان الناس ينصرفون في كل وَجْه ، فقال رسول الله صلى الله
عليه و سلم : لا ينفرن أحد حتى يكون آخر عهده بالبيت . فلو لم يكن من الناسك لم
يُلْزَم به الحاج .
وهذا القول منه عليه الصلاة والسلام إنما كان في حجة الوداع ، ولم يأمُر النبي
صلى الله عليه وسلم مَن اعتمر أن يَطوف للوداع .
وهذا يردّ قول مَن قال إن هذا القول منه عليه الصلاة والسلام كان في حجّة
الوداع ، فيشمل الحج والعمرة . لأنه لو كان يشمل العمرة لأمَر النبي صلى الله
عليه وسلم عائشةَ أن تطوف طواف وداع لِعُمرتها ، وقد اعتمرت بعد الحج ، ولم
تطُف بعد عمرتها طواف وداع .
ويدلّ على أن طواف الوداع خاص بالحج دون العُمرة : ما رواه الإمام الشافعي :
أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أنه قال : لا يَصدرّن أحدٌ مِن الحاج حتى يكون
آخر عهده بالبيت ، فإن آخر النسك الطواف بالبيت .
والشاهد قوله : " لا يَصدرّن أحدٌ مِن الحاج " ، فخَصّ الحاج بذلك دون المعتمر
.
ويُنظر تفصيل هذه المسألة في كتاب " مُشكل المناسك " لشيخنا د. إبراهيم الصبيحي
وفقه الله وسدده .
5= قوله : " خُفِّفَ عَنْ الْمَرْأَةِ الْحَائِضِ "
هذا التخفيف مُسْقِط للوجوب ، ومُسقِط للإثم والكفارة .
قال النووي : هذا دليل لوجوب طواف الوداع على غير الحائض ، وسقوطه عنها ، ولا
يلزمها دم بتركه ؛ هذا مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد والعلماء كافة .
اهـ .
6= " آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ " لا يُفهَم مِنه أنه لو اشترى أو بات أنه
يلزمه إعادة طواف الوداع ، لقوله عليه الصلاة والسلام : يُقِيمُ الْمُهَاجِرُ
بِمَكَّةَ بَعْدَ قَضَاءِ نُسُكِهِ ثَلاثًا . رواه البخاري ومسلم .
ومعلوم أن طواف الوداع مِن النُّسُك على الصحيح مِن أقوال أهل العلم ؛ لقوله
عليه الصلاة والسلام : لا ينفرن أحدٌ حتى يكون آخر عهده بالبيت .
فإذا كان يَجوز له أن يُقيم ثلاثة أيام بعد انتهاء نُسُكِه ، فلا يُمنع مِن
إقامة أو مَبِيت أو شراء ، سواء للتجارة أو لغيرها .
قال ابن عبد البر : وإنما أرخص رسول الله للمهاجر أن يُقيم بمكة بعد قضاء نسكه
ثلاثا ، يعني : لقضاء حاجاته . اهـ .
وقال القرطبي : فَجَعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم للمهاجر ثلاثة أيام ؛ لتقضية
حوائجه ، وتهيئة أسبابه ، ولم يحكم لها بحكم المقام ، ولا في حيز الإقامة . اهـ
.
ولأنه عليه الصلاة والسلام بات بالأبطح عند خروجه مِن مكة .
وكذلك فعل عمر رضي الله عنه . كما في الموطأ .
ولأنه عليه الصلاة والسلام أذِن لعائشة أن تأتي بِعمرة بعد قضاء الحج .
فلم يكن آخر عهد عائشة رضي الله عنها بالبيت ، بل بالصفا والمروة ، وعُفي عن
ذلك لكونه شيئا يسيرا .
ومِن هنا قال العلماء بجواز تأخير طواف الحج والسعي إلى قبيل أن ينفر الحاج .
7= لا يجب على أهل مكة طواف وداع ؛ لأن الوداع على أهل الآفاق ، ولأن أهل
الآفاق هُم الذين ينفِرون مِن مكة بعد انقضاء الحج ، وفي الحديث : لا ينفرن أحد
حتى يكون آخر عهده بالبيت .
8= إذا أخّر طواف الإفاضة ، ثم جَمَعه مع طواف الوداع في طواف واحد أجزأه على
الصحيح ، ولو كان بعده سعي الحج ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذِن لعائشة
رضي الله عنها أن تعتمر ، مع أن آخر عهدها سيكون بالسعي ، وليس بالطواف بالبيت
.
قال أبو الوليد الباجي : مَنْ أَفَاضَ بَعْدَ النَّحْرِ وَاتَّصَلَ خُرُوجُهُ
بِإِفَاضَتِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ طَوَافُ وَدَاعٍ ؛ لأَنَّ طَوَافَ الإِفَاضَةِ
يُجْزِئُ عَنْهُ ، وَيَكُونُ آخِرَ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافُ . اهـ .
وقال ابن قدامة : إن أخَّر طواف الزيارة ، فطافه عند الخروج ، ففيه روايتان :
إحداهما ، يُجزئه عن طواف الوداع ، لأنه أُمِر أن يكون آخر عهده بالبيت ، وقد
فَعَل ... وعنه ، لا يُجزئه عن طواف الوداع ؛ لأنهما عبادتان واجبتان ، فلم
تُجْزِ إحداهما عن الأخرى ، كالصلاتين الواجبتين .
والله أعلم .