|
ح 266
وعنه قال : جَمَع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بِجَمْع , لكل
واحدة منهما إقامة ، ولم يُسبّح بينهما , ولا على إثر واحدة منهما .
فيه مسائل :
1= " وعنه " أي : عن ابن عمر رضي الله عنهما ، إذ هو صحابي الحديث السابق .
2= جَمَع النبي صلى الله عليه وسلم بين المغرب والعشاء بِجَمْع ، فيه مشروعية
الْجَمْع بمزدلفة ، بل هو السنة للحاج .
وروى الترمذي أن ابن عمر صلى بِجَمْع فجمع بين الصلاتين . ثم قال الترمذي :
والعمل على هذا عند أهل العلم ؛ لأنه لا تُصلَّى صلاة المغرب دون جَمْع ، فإذا
أتى جَمْعًا - وهو المزدلفة - جَمَع بين الصلاتين بإقامة واحدة ، ولم يتطوع
فيما بينهما ، وهو الذي اختاره بعض أهل العلم ، وذهب إليه ، وهو قول سفيان
الثوري قال سفيان : وإن شاء صلَّى المغرب ثم تعشّى ووضع ثيابه ثم أقام فصلى
العشاء .
وقال بعض أهل العلم : يَجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة بأذان وإقامتين ؛
يؤذّن لصلاة المغرب ويُقيم ويُصلي المغرب ، ثم يقيم ويصلى العشاء ، وهو قول
الشافعي . اهـ .
قال ابن المنذر : وأجمع العلماء على ذلك ، ثم اختلفوا في من صلاهما قبل أن يأتي
المزدلفة .
قال مالك : إن كانت به عِلّة أو بدابته أجزأه ، وإن لم يكن به عِلّة لم تجزئه
ويُعيد .
وقال أبو يوسف والأوزاعي : تُجزئه .
وقال الشافعي : إن أدرك نصف الليل قبل أن يأتي المزدلفة صلاّهما دون المزدلفة .
وقال ابن عبد البر : واختلفوا فيمن صلى الصلاتين المذكورتين قبل أن يَصِل إلى
المزدلفة :
فقال مالك : لا يصليهما أحدٌ قبل جَمْع إلاّ مِن عُذر ، فإن صلاهما مِن غير عذر
لم يجمع بينهما حتى يغيب الشفق .
وقال الثوري : لا يصليهما حتى يأتي جَمْعا ، وله السعة في ذلك إلى نصف الليل ،
فإن صلاهما دون جَمْع أعاد .
واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم حين قيل له : الصلاة قال : الصلاة أمامك . يعني
بالمزدلفة .
ومذهب أبي حنيفة في ذلك نحو قول الثوري
وقال أبو حنيفة : إن صلاّهما قبل أن يأتي المزدلفة فعليه الإعادة ، وسواء
صلاهما قبل مغيب الشفق أو بعده عليه أن يعيدهما إذا أتى المزدلفة .
وقال ابن بطال : وحُجّة من أجاز الصلاة أن النبي صلى الله عليه وسلم جَعل وقت
هاتين الصلاتين مِن حين تغيب الشمس إلى آخر وقت العشاء الآخرة ، وجَعَل له إن
شاء أن يصليهما في أول وقتهما ، وإن شاء في آخره ، فأوقات الصلوات إنما هي
محدودة بالساعات والزمان ، فمن صلاّهما بعد غروب الشمس بِعرفة أو دون المزدلفة
، فقد أصاب الوقت ، وإن ترك الاختيار لنفسه في الموضع ، والصلاة لا تبطل بالخطأ
في الموضع إذا لم يكن نجسا ؛ ألاَ ترى أن مَن صلاّهما بعد خروج وقتهما
بالمزدلفة ممن لم يَصل إلى المزدلفة إلاّ بعد طلوع الفجر أنه قد فاته وقتهما ،
فلا اعتبار بالمكان .
3= " بِجَمْع " أي : مُزدلفة ، وسُمّيت كذلك ؛ إما لاجتماع الناس فيها ليلة
العيد ، أو لأن الناس يَجْمعون الصلاة فيها . وقيل غير ذلك .
وهي مُزدلفة ، ويُقال : المزدلفة .
قال القرطبي في " المفهم " : وَسُمِّيت المزدلفة بذلك ؛ لاقتراب الناس بها إلى
منى بعد الإفاضة من عرفات ، والازدلاف : القُرب ، يقال : ازدلف القوم ؛ إذا
اقتربوا .
وقال ثعلب : لأنها مَنْزِلة قُربة لله تعالى .
وقال الهروي : سُمِّيت بذلك : لازدلاف الناس بها . والازدلاف : الاجتماع .
وقيل : سُمِّت بذلك : للنُّزول بها بالليل . وزُلف الليل : ساعاته .
4= لا تُتشرط الموالاة بين الصلاتين المجموعتين ، ولا بأس بتفريقهما ، والأفضل
أن يُوالَى بينهما .
ففي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه قال : دَفَع رسول الله
صلى الله عليه وسلم مِن عرفة فَنَزل الشعب فبال ثم توضأ ولم يُسبغ الوضوء ،
فقلت له : الصلاة ، فقال : الصلاة أمامك ، فجاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ ، ثم
أقيمت الصلاة فصلى المغرب ، ثم أناخ كل إنسان بعيره في مَنْزِله ، ثم أقيمت
الصلاة فصلى ، ولم يُصَلّ بينهما .
قال الباجي : وقوله : " فصلى المغرب ، ثم أناخ كل إنسان بعيره ، ثم أقيمت
العشاء فصلاّها " يريد - والله أعلم - تعجيل صلاة المغرب عند الوصول ، أو قبل
أن يُعدّ كل إنسان مكان نَزوله ، فلما صلى المغرب اتسع الوقت للعشاء ، فذهب كل
إنسان إلى تعيين مكان نزوله وإناخة بعيره به ، وتعشى النبي صلى الله عليه وسلم
بعد ذلك - على رواية ابن مسعود - ليتمم كل إنسان ما يحتاج إليه مِن إناخة بعيره
والتخفيف عن راحلته . قال أشهب : يَحطّ عن راحلته بعد المغرب إن شاء ، وإن لم
يكن بها ثقل ، فإن ذلك قريب لا تفاوت فيه بين الصلاتين ، وليس ذلك بعمل مشروع
بين الصلاتين فيعتبر ، وإنما هو مباح مُوسّع فيه . اهـ .
روى البخاري عن عمرو بن خالد ، حدثنا زهير ، حدثنا أبو إسحاق قال : سمعت عبد
الرحمن بن يزيد يقول : حج عبد الله [يعني : ابن مسعود] رضي الله عنه ، قال :
فأتينا المزدلفة حين الأذان بالعتمة أو قريبا من ذلك ، فأمَر رجلا فأذّن وأقام
، ثم صلّى المغرب وصَلّى بعدها ركعتين ، ثم دعا بعشائه فتعشّى ، ثم أمَر -
أُرَى رجُلا - قال عمرو : لا أعلم الشك إلاّ من زهير - فأذّن وأقام ، ثم صلى
العشاء ركعتين .
قال ابن حجر : أُرى بضم الهمزة ، أي : أظن . وقد بَيّن عمرو وهو بن خالد شيخ
البخاري فيه أنه مِن شيخه زهير . اهـ .
وفَهِم بعض أهل العِلْم أن ذلك ليس جَمْعا بين الصلاتين ؛ لأنه أذّن وأقام لكل
صلاة ، وهذا خلاف ما فهمه الإمام البخاري ، فقد بوّب : باب مَن أذن وأقام لكل
واحدة منهما .
قال ابن حجر : أي : مِن المغرب والعشاء بالمزدلفة . اهـ .
وروى أبو داود أن عليًّا رضي الله عنه كان إذا سافر سار بعدما تغرب الشمس حتى
تكاد أن تُظلِم ، ثم يَنْزِل فيصلي المغرب ، ثم يدعو بعشائه فيتعشى ، ثم يصلي
العشاء ، ثم يرتحل ويقول : هكذا كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يصنع .
5= قوله : " لكل واحدة منهما إقامة "
اخْتُلِف في الأذان والإقامة ؛ فالأكثر على أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى
الصلاتين بمزدلفة بأذان واحد وإقامتين ؛ إقامة لصلاة المغرب ، وإقامة لصلاة
العشاء .
وقال بعض أهل العلم : يَجْمَع بين الصلاتين بإقامة واحدة . كما ذَكَره الترمذي
.
ويُقابِل هذا القول ما تقدّم عن ابن مسعود رضي الله عنه : فأمَر رجلا فأذّن
وأقام ، ثم صلّى المغرب وصَلّى بعدها ركعتين ، ثم دعا بعشائه فتعشّى ، ثم أمَر
- أُرى رجُلا - فأذّن وأقام .
وهو ما فهمه الإمام البخاري ، فقد بوّب : باب مَن أذن وأقام لكل واحدة منهما .
قال ابن حجر : أي : مِن المغرب والعشاء بالمزدلفة . اهـ .
قال ابن بطّال : اختلف العلماء في الأذان والإقامة لهاتين الصلاتين ؛ فروى ابن
القاسم عن مالك أنه يُؤذِّن ويُقيم لكل صلاة ، على ظاهر حديث ابن مسعود ، وقد
رُوي مثله عن عمر بن الخطاب .
وذهب ابن الماجشون وأحمد بن حنبل وأبو ثور إلى أنه يَجمع بينهما بأذان واحد
وإقامتين، واختاره الطحاوي ، وذكر عن أبى حنيفة وأبى يوسف ومحمد بأذان واحد
وإقامة واحدة ، خلاف قولهم في الجمع بين الظهر والعصر بعرفة .
6= قوله : " ولم يُسبّح بينهما ، ولا على إثر واحدة منهما "
يُسبِّح : أي : يتنفّل .
وتنفّل ابن مسعود رضي الله عنه بعد المغرب ، كما تقدّم ، وهو عند البخاري .
7= قوله : " ولا على إثر واحدة منهما " أي : لم يتنفّل بعد المغرب ولا بعد
العشاء ، وهذا من باب التأكيد ؛ لأن قوله : " ولم يُسبّح بينهما " يقتضي أنه لم
يتنفّل بعد صلاة المغرب .
واخْتُلِف في مطلق النافلة ، وفرّق العلماء بين مطلق النافلة وبين السنن
الرواتب .
قال ابن حجر : نقل النووي - تبعا لغيره - أن العلماء اختلفوا في التنفُّل في
السفر على ثلاثة أقوال :
المنع مطلقا ، والجواز مطلقا ، والفَرْق بين الرواتب والْمُطْلَقَة ، وهو مذهب
ابن عمر ، كما أخرجه بن أبي شيبة بإسناد صحيح عن مجاهد قال : صحبت ابن عمر مِن
المدينة إلى مكة وكان يُصلّي تطوعا على دابته حيثما توجهت به ، فإذا كانت
الفريضة نزل فصلّى .
وأغفلوا قولا رابعا ، وهو الفَرْق بين الليل والنهار في الْمُطْلَقَة . اهـ .
8= مَن صلّى العشاء جَمْعا ، فإن له أن يُصلّي صلاة الوتر بعد ذلك ؛ لأن الوقت
بعد الْجَمْع يكون وقت الصلاة الثانية .
قال ابن قدامة رحمه الله : وإذا جمع في وقت الأولى فله أن يصلي سنة ثانية منهما
، ويُوتر قبل دخول وقت الثانية ؛ لأن سُنّتها تابعة لها ، فيتبعها في فعلها
ووقتها ، والوتر وقته ما بين صلاة العشاء إلى صلاة الصبح ، وقد صلى العشاء فدخل
وقته .
وقال أيضا : والنهي عن الصلاة بعد العصر مُتَعَلّق بِفِعل الصلاة ، فمن لم
يُصلِّ أُبِيح له التنفّل وإن صلى غيره ، ومن صلى العصر فليس له التنفُّل ، وإن
لم يُصَلّ أحد سواه ، لا نعلم في هذا خلافا عند مَن يمنع الصلاة بعد العصر .
اهـ .
والله تعالى أعلم .