أقدم جهلاء الأرض من اليهود والنصارى على سبِّ الحبيب المصطفى فداه روحي وأهلي
ومالي ، وما ذلك إلا لأنهم يجهلون من هو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم
والله والله لو عرفوه لأحبوه ، ألا شاهت وجوههم فوالله ما زاده سبهم وازدراؤهم
إلا تألقاً وارتفاعاً.
حب الرسول - صلى الله عليه وسلم - تابع لحب الله تعالى ، ولازم من لوازمه ؛ لأن
النبي - صلى الله عليه وسلم - حبيب ربه سبحانه ، ولأنه المبلغ عن أمره ونهيه ،
فمن أحب الله تعالى أحب حبيبه - صلى الله عليه وسلم - وأحب أمره الذي جاء به ؛
لأنه أمر الله تعالى .
ثم إن النبي - صلى الله عليه وسلم - يُحب لكماله، فهو أكمل الخلق والنفس تحب
الكمال ، ثم هو أعظم الخلق - صلى الله عليه وسلم - فضلاً علينا وإحسانـًا إلينا
، والنفس تحب من أحسن إليها ، ولا إحسان أعظم من أنه أخرجنا من الظلمات إلى
النور ، ولذا فهو أولى بنا من أنفسنا ، بل وأحب إلينا منها .
هو حبيب الله ومحبوبه .. هو أول المسلمين ، وأمير الأنبياء ، وأفضل الرسل ،
وخاتم المرسلين .. - صلوات الله تعالى عليه - .
هو الذي جاهد وجالد وكافح ونافح حتى مكّن للعقيدة السليمة النقية أن تستقر في
أرض الإيمان ونشر دين الله تعالى في دنيا الناس ، وأخذ بيد الخلق إلى الخالق -
صلى الله عليه وسلم - .
هو الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه وجمّله وكمّله : (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ
عَظِيمٍ) (القلم/4) ، وعلمه : (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ
فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً)(النساء/113) وبعد أن رباه اجتباه واصطفاه
وبعثه للناس رحمة مهداة : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً
لِلْعَالَمِينَ)(الأنبياء/107) ، وكان مبعثه - صلى الله عليه وسلم - نعمة ومنّة
: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً
مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ
الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ )(آل عمران/164) .
هو للمؤمنين شفيع ، وعلى المؤمنين حريص ، وبالمؤمنين رؤوف رحيم : (لَقَدْ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ
عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ)(التوبة/128) - صلى الله عليه
وسلم - .
على يديه كمل الدين ، وبه ختمت الرسالات - صلى الله عليه وسلم - .
هو سيدنا وحبيبنا وشفيعنا رسول الإنسانية والسلام والإسلام محمد بن عبد الله
عليه أفضل صلاة وسلام ، اختصه الله تعالى بالشفاعة ، وأعطاه الكوثر ، وصلى الله
تعالى عليه هو وملائكته : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى
النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا
تَسْلِيماً)(الأحزاب/56) صلى الله عليك يا سيدي يا حبيب الله ، يا رسول الله ،
يا ابن عبد الله ورسول الله .
هو الداعية إلى الله ، الموصل لله في طريق الله ، هو المبلغ عن الله ، والمرشد
إليه، والمبيّن لكتابه والمظهر لشريعته .
ومتابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - من حبّ الله تعالى فلا يكون محبـًّا لله
عز وجل إلا من اتبع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؛ لأن الرسول - عليه
الصلاة والسلام - لا يأمر إلا بما يحب الله تعالى ، ولا يخبر إلا بما يحب الله
عز وجل ، التصديق به ، فمن كان محبـًا لله تعالى لزمَ أن يتبع الرسول - صلى
الله عليه وسلم - فيصدقه فيما أخبر ويتأسَّى به - صلى الله عليه وسلم - فيما
فعل ، وبهذا الاتباع يصل المؤمن إلى كمال الإيمان وتمامه ، ويصل إلى محبة رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - .
وهل محبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا من محبة الله تعالى ؟! وهل طاعة
الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلا من طاعة الله عز وجل ؟! : (قُلْ إِنْ
كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ
لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(آل عمران/31) .
يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية الشريفة : " إن هذه الآية الكريمة حاكمة على
من ادعى محبة الله تعالى وليس هو على الطريقة المحمدية ، فإنه كاذب في دعواه في
نفس الأمر حتى يتبع الشرع المحمدي والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله ، كما
ثبت في الصحيح عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : ((من عمل عملاً
ليس عليه أمرنا فهو ردّ)) ولهذا قال الله تعالى : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ
تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) أي يحصل لكم فوق ما
طلبتم من محبتكم إياه وهو محبته إياكم، وهو أعظم من الأول كما قال بعض الحكماء
: ليس الشأن أن تحب ، إنما الشـأن أن تُحبَّ .
وحبّ سنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حب رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - .
يقول - عليه الصلاة والسلام - : ((من أحب سنتي فقد أحبني ، ومن أحبني كان معي
في الجنة)) .
وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لها مكانتها ومنزلتها ، فرتبتها تلي
رتبة القرآن الكريم ، فهي في المنزلة الثانية بعد كتاب الله عز وجل ، توضح
القرآن الكريم وتفسره وتبين أسراره وأحكامه ، وكثير من آيات القرآن الكريم جاءت
مجملة، أو عامة ، أو مطلقة ، فجاءت أقوال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وأعماله كاشفة للمراد الإلهي وموضحة له عندما فصّلت المجمل ، أو قيدت المطلق ،
أو خصصت العام : (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا
نُزِّلَ إِلَيْهِمْ )(النحل/44) .
وهي الينبوع الثاني من ينابيع الشريعة الإسلامية .
هي المصدر الثاني من مصادر التشريع بعد كتاب الله عز وجل : (لَقَدْ مَنَّ
اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ
يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ)(آل عمران/164) والحكمة هنا : السُّنَّة .
ولقد أمرنا المولى سبحانه باتباعها ونهانا عن مخالفتها : (وَمَا آتَاكُمُ
الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(الحشر/7) ليس لنا
إلا التسليم المطلق بها والإذعان لأحكامها : (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا
مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ
الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِم)(الأحزاب/36) .
كما جعل سبحانه التسليم بها دلالة وعلامة على الإيمان الحق الصادق : (فَلا
وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ
لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا
تَسْلِيماً)(النساء/65) .
وهي حجة في التشريع ؛ لأنها وحي يوحى : (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ
هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى)(النجم/3 ، 4) .
من أجل ذلك كانت أقواله وأعماله - صلى الله عليه وسلم - بوصفه رسولاً - داخلة
في نطاق التشريع .
وما دامت أحكامه صادرة عن طريق الله تعالى : (لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا
أَرَاكَ اللَّهُ )(النساء/105) ، وما دام هو مهدي إلى صراط الله تعالى وهو يهدي
إلى صراط الله عز وجل ، فعلى الناس الائتمار بأمره ، والابتعاد عن نهيه :
(وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ
فَانْتَهُوا)(الحشر/7) .
فإذا كان الأمر كذلك ، فالسؤال الذي يطرح نفسه هو : كيف نحب النبي - صلى الله
عليه وسلم - ؟
إن حبه - صلى الله عليه وسلم - يكون بتعظيمه وتوقيره واتباع سنته والدفاع عنها
ونصرة دينه الذي جاء به ، وبمعنى آخر أن نحبه كما أحبه أصحابه - رضوان الله
عليهم - .
فمن المعلوم أن المجتمع المكي كان مجتمعـًا كافرًا فجاءه النور المبين - صلى
الله عليه وسلم - ، فدعا إلى الله سبحانه ، ولقي ما لاقى من الصد والإعراض
والأذى ، وأبى أكثر الناس إلا كفورا ، وفتح الله سبحانه بعض القلوب لهذه الدعوة
الخالدة ، ولهذا النور المبين ، فدخلت مجموعة بسيطة في دين الله سبحانه ، فكيف
كان الحب بينهم ؟
لقد بدأ هذا الحب بينهم وبين من أخرجهم الله تعالى به من الظلمات إلى النور،
بينهم وبين محمد - صلى الله عليه وسلم - .
فهذه زوجه خديجة - رضي الله عنها - ومنذ اللحظة الأولى التي أبلغها فيها بنزول
الوحي ، هاهي تدفع - رضي الله عنها - عنه ، وتثبت فؤاده بكلمات تبدو فيها
المحبة ، جلية ، إذ تقول : " كلا والله ، ما يخزيك الله أبدًا ، إنك لتصل الرحم
، وتحمل الكلَّ ، وتكسب المعدوم ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الدهر " .
ولئن كانت هذه زوجه ، فانظر ما فعل أبو بكر - رضي الله عنه - يوم وقف في قريش
خطيبـًا يدعوهم إلى الإسلام ، وما زال المسلمون في المرحلة السرية للدعوة،
وعددهم قليل ، فقام إليهم المشركون يضربونهم ضربـًا شديدًا ، وضرب أبو بكر -
رضي الله عنه - حتى صار لا يعرف أنفه من وجهه ، فجاء قومه بنو تيم فأجلوا
المشركين عنه وأدخلوه منزله وهم لا يشكون في موته - رضي الله عنه - ، وبقي أبو
بكر - رضي الله عنه - في غشية لا يتكلم حتى آخر النهار ، فلما أفاق كان أول ما
تكلم به : " ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ " فلامه الناس .
لاموه على أن يذكر محمدًا - صلى الله عليه وسلم - في مثل هذا الموقف الذي
يفترضون فيه أن يذكر نفسه ، وأن يتحسر على حاله .
لاموه فما أبه لهم ، وصار يكرر ذلك ، فقالت أمه : " والله ما لي علم بصاحبك
محمد " ، فقال : " اذهبي إلى أم جميل فاسأليها عنه " ، وكانت أم جميل امرأة
مسلمة ، فلما سألتها أم أبي بكر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قالت أم جميل حُبًّا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وحرصـًا عليه : " لا
أعرف محمدًا ، ولا أبا بكر " ثم قالت : " تريدين أن أخرج معك ؟ " قالت : " نعم
" ، فخرجت معها إلى أن جاءت أبا بكر - رضي الله عنه - فوجدته صريعـًا ، فصاحت
وقالت : " إن قومـًا نالوا هذا منك لأهل فسق ، وإني لأرجو أن ينتقم الله منهم "
فقال لها أبو بكر - رضي الله عنه - : " ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- ؟ " فقالت له : هذه أمك تسمع " ، قال - رضي الله عنه - : " فلا عين عليك منها
" - أي أنها لن تفشي سرك - فقالت : " سالم هو في دار الأرقم " فقال - رضي الله
عنه - : " والله لا أذوق طعامـًا ولا أشرب شرابـًا أو آتي رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - " فقالت أمه : فأمهلناه حتى إذا هدأت الرِّجل وسكن الناس خرجنا به
يتكئ عليَّ ، حتى دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرقّ له رقّة شديدة
، وأكب عليه يقبله ، وأكب عليه المسلمون كذلك، فقال أبو بكر - رضي الله عنه - :
" بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، ما بي من بأس إلا ما نال الناس من وجهي ، وهذه
أمي برَّةٌ بولدها فعسى الله أن يستنقذها بك من النار " ، فدعا لها رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - ودعاها إلى الإسلام فأسلمت.
أيُّ حبٍ تكنه يا أبا بكر لصاحبك ؟! أما انشغلت بنفسك وجراحك ووجهك الذي تغيرت
معالمه ؟ لو شغلتك آلامك لما لامك أحد من العالمين ، ولكن ماذا تصنع بحب ملك
عليك كل جوارحك ؟
إنه يحب في محمد - صلى الله عليه وسلم - الخُلق الذي طالما امتدحوه به قائلين :
هذا الصادق الأمين .
إنه يحب فيه الخُلق الحسن ، والرأي السديد ، والعشرة الطيبة ، وكل ذلك قد خبره
محمد - صلى الله عليه وسلم - ، وهو اليوم يحب فيه إلى جانب ذلك كله النبي - صلى
الله عليه وسلم - .
أما خبر سعد بن الربيع - رضي الله عنه - فعجيب ، حيث سأل النبي - صلى الله عليه
وسلم - : ((أفي الأحياء سعد أم في الأموات ؟)) فخرج أُبيّ بن كعب - رضي الله
عنه - يستطلع الخبر ، فوجده في الرمق الأخير ، فقال سعد : " بل أنا في الأموات
، فأبلِغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عني السلام ، وقل له : إن سعد بن
الربيع يقول لك : جزاك الله عنَّا خيرًا ، ما جزى نبيـًا عن أمته " ، ثم قال
لأبي : " وأبلغ قومك عني السلام ، وقل لهم : إن سعد بن الربيع يقول لكم إنه لا
عذر لكم عند الله أن يخلص إلى نبيكم - صلى الله عليه وسلم - وفيكم عين تطرف " ،
ثم لم يبرح أن مات ، فجاء أبي بن كعب - رضي الله عنه - النبي - صلى الله عليه
وسلم - فأخبره الخبر ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ((رحمه الله ، نصح لله
والرسول حيـًا وميتـًا)) .
ومن حب الأنصار لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما رواه ابن هشام في سيرته
من أنه مر - صلى الله عليه وسلم - بدار من دور الأنصار من بني عبد الأشهل وظفر
، فسمع البكاء والنواح على قتلاهم ، فذرفت عينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- فبكى ، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - : ((لكن حمزة لا بواكي له ! )) فلما
رجع سعد بن معاذ وأسيد بن حضير - رضي الله عنهما - إلى دار عبد الأشهل أمرا
نساءهم أن يتحزمن ، ثم يذهبن فيبكين على عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فلما سمع بكاءهن على حمزة - رضي الله عنه - خرج - صلى الله عليه وسلم - عليهنَّ
وهنَّ على باب المسجد يبكين عليه ، فقال : ((ارجعن يرحمكنَّ الله ، فقد آسيتن -
عزيتن وعاونتن - بأنفسكنَّ)) ، وفي رواية أنه قال - صلى الله عليه وسلم - لما
سمع بكاءهنَّ : ((رحم الله الأنصار ، فإن المواساة منهم ما علمت لقديمة،
مروهنَّ فلينصرفن)) .
ومما يذكر أيضـًا من هذا الحب الذي لا نهاية له حكاية تلك المرأة من بني دينار
، وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأُحد ،
فلما نُعُوا لها قالت : " فما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ " قالوا
: " خيرًا يا أم فلان ، هو بحمد الله كما تحبين " ، قالت : " أرونيه حتى أنظر
إليه " ، فأشير لها إليه ، حتى إذا رأته قالت : " كل مصيبة بعدك جلل " - أي
صغيرة- .
مقابلة الحب بالحب
وبما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ودينه الذي جاء به هو مصدر هذا الحب ،
فمن البداهة أن نرى حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأصحابه ، وكيف بادلهم
حبـًا بحب ، ومودة بمودة ، وسأسوق في ذلك حادثة كلما ذكرتها أو قرأتها أعظمت
المحب والمحبوب .
كان ذلك عقب غزوة حنين ، حيث حرص النبي - صلى الله عليه وسلم - في توزيعه
للغنائم على أن يتألف بها من دخل في الإسلام من أهل مكة وقبائل العرب ، ولذا
فقد كانت معظم الغنائم بينهم ، إن لم تكن كلها ، ولم يجعل النبي - صلى الله
عليه وسلم - فيها للأنصار نصيبـًا ، فوجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم ، حتى
كثرت فيهم القالة ، حتى قال قائلهم : لقي والله رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- قومه ، فدخل عليه سعد بن عبادة - رضي الله عنه - من الأنصار ، فقال : " يا
رسول الله ، إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم ، لما فعلت في هذا
الفيء الذي أصبت ، قسّمت في قومك ، وأعطيت عطايا عظاما في قبائل العرب ، ولم يك
في هذا الحي من الأنصار منها شيء " ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - :
((فأين أنتَ من ذلك يا سعد ؟ )) ، قال : " يا رسول الله ، ما أنا إلا من قومي "
، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ((فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة)) فلما
اجتمعوا أتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه
بما هو أهله ، ثم قال : ((يا معشر الأنصار : مقالة بلغتني عنكم ، وجِدَةَ عتاب
وجدتموها عليَّ في أنفسكم ؟ ألم آتِكم ضُلالاً فهداكم الله ، وعالة - فقراء -
فأغناكم الله ، وأعداء فألف الله بين قلوبكم ؟)) قالوا : " بلى ، الله ورسول
الله أمن - أكثر نعمة - وأفضل " ، ثم قال - صلى الله عليه وسلم - : ((ألا
تجيبونني يا معشر الأنصار ؟)) قالوا : " بم نجيبك يا رسول الله ؟ لله ورسوله
المنّ والفضل " ، فقال - صلى الله عليه وسلم - : ((أما والله لو شئتم لقلتم
فلصَدقتم ولصُدِّقتم : أتيتنا مكذبـًا فصدقناك ، ومخذولاً فنصرناك ، وطريدًا
فآويناك ، وعائلاً فآسيناك ، أوجدتم يا معشر الأنصار في أنفسكم فيَّ لعاعة -
بقلة خضراء ناعمة - من الدنيا تألفت بها قومـًا ليسلموا ، ووكلتكم إلى إسلامكم
؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير ، وترجعوا برسول
الله إلى رحالكم ؟ فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ،
ولو سلك الناس شعبـًا - طريقـًا بين جبلين - وسلكت الأنصار شعبـًا لسلكت شعب
الأنصار ، اللهم ارحم الأنصار ، وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار)) ،
فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم - بلوها بالدموع - وقالوا : " رضينا برسول الله
قسمـًا وحظـًا " .
ولئن كان هذا مع الأنصار عامة ، فقد كان مع بعض المسلمين ، فقد قال أحد أصحاب
النبي - صلى الله عليه وسلم - : " يا رسول الله ، أعطيت عيينة بن حصن والأقرع
بن حابس مائة مائة ، وتركت جعيل بن سراقة الضمري " ، فقال رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - : ((أما والذي نفس محمد بيده لجعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض -
ما يملأها حتى يطلع عنها ويسيل - كلهم مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس ،
ولكني تألَّفتهما ليسلما ، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه)) .
ألا ما أعظم محمدًا - صلى الله عليه وسلم - حبيبـًا محبوبـًا ، وما أعظمه
محبـًا يضع الأمور في نصابها ، ويعطي كل ذي حقٍ حقه وكل ذي قدرٍ قَدْرَه - صلى
الله عليه وسلم - .
علَّم صحبه الكرام - رضوان الله عليهم - الحب بحبه لهم فأحبوه ، وكان هذا الحب
منهم علامة إيمانهم ، وشعلة عقيدتهم ، وطريقهم لرضوان ربهم .
وصدق الله العظيم إذ يقول سبحانه : (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ
فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ
غَفُورٌ رَحِيمٌ)(آل عمران/31) .
ماذا نقول بعد هذا إنني أقول وبكل ثقة لو ما في هذه الدنيا نعيماً إلا التلذذ
بحب المصطفى صلى الله عليه وسلم لكفى المرء سعادة أيُّما سعادة ، وأقصد هنا
الحب الحقيقي بمتابعته وترسم منهجه ، والعمل بسنته ، والدفاع عنها ، وتبليغها
للخلق ، وليس حبُّ المبتدعة من الصوفية وغيرهم ممن يرون حبَّ المصطفى صلى الله
عليه وسلم في التمسح بآثاره وإقامة الموالد المبتدعة ، والتغني بعشقه مما يربأ
العاقل أن يُخاطب النبي الكريم بذلك نسأل الله لهم الهداية ، فقد ضلوا وما
كانوا مهتدين والحمد لله على نعمة الهداية ونسأله أن يزيدنا حباً واتباعاً
لنبينا حتى نلقاه غير مبدلين ولا مغيرين آمين.