|
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين ، وعلى آله وصحبه
أجمعين ، أما بعد :-
فكتاب ( ابن القيم وموقفه من التفكير الإسلامي ) ، لعوض
الله حجازي ، من الكتب القيمة ، والرسائل العلمية الراقية ، التي ظهرت فيها
شخصية الباحث بشكل كبير ، وظهر فيها جهده وعناؤه في البحث والتنقيب ، ولي على
هذا الكتاب القيم عدة ملحوظات ، منها :-
1- أنه ذكر الخلاف في فهم السلف لنصوص الصفات ؛
فذكر أن الرازي وابن خلدون ذهبا إلى أنهم لم يكونوا يفهمون معناها الحقيقي ؛
ولهذا فوضوا العلم بهذا المعنى ، وأما ابن القيم والمقريزي فذهبا إلى أنهم
كانوا يفهمونه ، ويعتقدون المعنى المتبادر من ظاهر نصوص الصفات ، ثم إنه رجح
القول الأول ، ورأى أن الصابوني في كتابه عقيدة السلف على هذا القول .
وهذا غير مسلم ، فالصابوني على عقيدة السلف ، والسلف لم يفوضوا العلم بالمعنى
وإنما فوضوا علم الكيف ؛ ولهذا قالوا : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول . وهذه
الكلمة عندهم أصل مطرد ، وقاعدة ملتزمة في جميع الصفات ؛ سئل الترمذي عن كيفية
نزول الله تعالى إلى سماء الدنيا ؟ فقال : النزول معقول ، والكيف مجهول ،
والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .
2- القول بأن ابن القيم اضطر إلى التأويل الذي أنكره ؛ فأول نصوص المعية
ليستقيم مذهبه في العلو . وهذا ليس بصحيح ؛ فالمعية لا تدل على الحلول كما ظن ،
وإنما تدل على المصاحبة التي لا تنافي العلو ، وأيضا فآية المجادلة السابعة
بينة في تفسيرها بالعلم ؛ وبذلك فسرها أئمة السلف ، وفسرها ابن القيم تبعا لهم
.
3- القول بأن الأدلة التي ذكرها ابن القيم لا تكفي في الدلالة على رأيه في
حقيقة الروح . وهذا غير مسلم كذلك ، فقد ذكر ابن القيم أدلة على ذلك تزيد على
المائة ، ومن طالعها في كتاب الروح اقتنع بصواب رأيه في ذلك .
4- أن ابن القيم يستدل على مذهبه بأحاديث ضعيفة ، ويمثل على ذلك بحديث : ( فجحد
آدم وجحدت ذريته ) ؛ ثم قال : يغلب على الظن أنه من الأحاديث الموضوعة . وهذا
ليس بصحيح فابن القيم حريص على الاستدلال بالأحاديث الثابتة ومنها هذا الحديث ،
فهو حديث صحيح كما نص على ذلك الألباني في تعليقاته النافعه على شرح الطحاوية .
5- أنه تحامل على المنطق بغير حق ، ولم يقم أي دليل على تناقض المنطق وفساده .
وهذا غير مسلم أيضا ؛ فتحامله على المنطق بحق ، وقد رأى كتب ابن تيمية في نقض
المنطق التي لم يؤلف مثلها ، وظهر لطلبة شيخ الإسلام مافي المنطق من مناقضة
الشرع ، فبنوا على ما قال شيخهم ، وأعظم من تبين له ذلك ابن القيم ؛ فقد كان
بشهادة تلاميذ ابن تيمية أعلمهم بالعلوم العقلية.
6- أن ابن القيم أعرض عن الطرق المنطقية في الاستدلال على وجود الله ،
واستدل بطريقة لاهي طريقة الإمكان ولاطريقة الحدوث . وهذه الطريقة ليست من
ابتكاره وإنما أخذها عن الجاحظ وابن رشد . وهذا القول إن كان المراد به أنه أخذ
أصل الفكرة عنهم فهو غير صحيح ؛ فالاستدلال بالخلق على الخالق طريق فطري عرفه
العام والخاص من قبل الجاحظ وابن رشد ، وإن كان المراد به أنه اقتبس من
عباراتهم فهذا وارد ، ولا ضير في ذلك ، فما زال العلماء يقتبس بعضهم من بعض .
7- ذكر أن مذاهب الناس في الصفات خمسة مذاهب ؛ ( الجهمية ، والمعتزلة ،
والفلاسفة ، والأشاعرة ، والكرامية ) ، ثم استعرض مذاهبهم بإيجاز ليصل من ذلك
إلى أن ابن القيم تأثر بالأشاعرة والكرامية في إثبات الصفات ، وانتخب مذهبا
ملفقا من المذهبين ، وإن كان مذهب الكرامية أكثر المذهبين تأثيرا في آرائه في
إثبات الصفات . وهذا خطأ بلا شك ، أساسه ما نبه عليه شيخ الإسلام في مواضع من
مؤلفاته أن المتكلمين يذكرون مذاهب الناس في أصول الدين إلا مذهب السلف ؛ فلا
يعرفونه ولا يذكرونه ، وهذا الباحث يعول على كتبهم كثيرا ، ويتابعهم في حصر
المذاهب ، وإلا فمن طالع في كتب السلف ، ودرسها دراسة وافية علم أن ابن القيم
يسير على طريقتهم في إثبات الصفات ، التي تخالف طريقة الأشاعرة ، والكرامية ،
وسائر المذاهب التي ذكرها في الصفات .
8- انتقد الباحث ابن القيم في القول بأن المعطلة تعلقوا بالمتشابه
وأهملوا النصوص المحكمة التي دلت على إثبات الصفات الخبرية ، ورأى أن الأمر
بعكس ما قاله ابن القيم ؛ فقد تعلقوا بالمحكم ؛ كقوله تعالى : ( قل هو الله أحد
) ، وقوله : ( ليس كمثله شيء ) ، وأولوا نصوص الصفات الخبرية لأنها من المتشابه
؛ فالنصوص الدالة على اليد مثلا تحتمل معان كثيرة ؛ كالقدرة والنعمة . والجواب
عن هذا أن يقال : إن اليد وردت بلفظ التثنية ؛ قال تعالى : ( ما منعك أن تسجد
لما خلقت بيدي ) ، وقال : ( بل يداه مبسوطتان) ، وهذا نص في معناها لا يحتمل
إلا إرادة اليد الحقيقية ، وهو يبطل تفسيرها بالقدرة ؛ لأن قدرة الله واحدة لا
تثنية فيها ، ويبطل كذلك تفسيرها بالنعمة ، لأن نعم الله ليست محصورة في نعمتين
؛ قال تعالى : (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ) . وأما قوله تعالى : ( قل هو
الله أحد ) فلا يعارض إثبات الصفات الخبرية بحال كما ظن الباحث ، لأن اسم
الواحد يطلق في لغة القرآن على ما كان قائما بنفسه متصفا بالصفات ، مباينا
لغيره ، ولا يطلق ألبتة على المعنى الذي يريده الباحث ومن قبله من المتكلمين ،
وهو الواحد المجرد الذي لا يتميز منه شيء عن شيء ، ولا يقبل الإشارة الحسية ؛
لأن هذا المعنى لاوجود له إلا في أذهان المتكلمين والفلاسفة ، لا في لغة العرب
التي نزل بها القرآن ، وبهذا يمكن بسهولة نقض التعليق الذي ذكره على كلام ابن
القيم أثناء عرض آرائه في الصفات الخبرية ؛ فخالف ابن القيم قائلا : إثبات الرب
لا يستلزم إثبات المباينة ؛ لأن المباينة والاتصال من عوارض الأجسام ، والله
ليس جسما ؛ فليس داخل العالم ولا خارجه !! فإن هذا كله مبني على هذا الخطأ في
فهم وحدانية الرب ، وأنها وحدة مجردة لا تقبل المباينة ولا الانفصال ! وبناء
على هذا الفهم الفلسفي يعطل المتكلمون ومن وافقهم عشرات بل مئات النصوص الدالة
على مباينة الرب ، وعلوه على خلقه ! وكذلك قوله تعالى : ( ليس كمثله شيء ) فإنه
لا يعارض إثبات الصفات الخبرية ؛ لأن نفي المثل إذا ورد في سياق المدح دل على
التفرد بصفات الكمال المطلق ، يقال : فلان عديم المثل إذا لم يكن له مثل في
صفاته ؛ ولهذا جمع الله بين نفي المثل وإثبات الصفات في نص واحد ؛ فقال : (ليس
كمثله شيء وهو السميع البصير ) . وهذا الباحث إنما ظن أن هذه الآية تعارض إثبات
الصفات بناء على فهم المتكلمين للآية ؛ فظنوا أنه لو قامت به الصفات ، أو كان
على العرش لكان جسما ، والأجسام متماثلة ! والقرآن يبطل هذا الفهم ، ويدل على
انتفاء التماثل بين الأجسام ؛ قال تعالى : ( وما يستوي الأعمى والبصير ) ، وقال
: ( وما يستوي الأحياء ولا الأموات ).
9- في حكمة الله تعالى انتقد الباحث ابن القيم في ثلاثة أمور :-
أ- أن ابن القيم لما عرض لحكمة وجود الشر تكلم عن حكمة خلق إبليس كلاما جمليا ،
ولم يجر على عادته المعروفة في التفصيل والتوضيح .
وهذا غريب من هذا الباحث لأنه ذكر الجوانب الكثيرة التي ذكرها ابن القيم لحكمة
خلق إبليس ؛ كظهور كمال القدرة على خلق المتقابلات ، وظهور آثار الأسماء الحسنى
، وحصول العبادات المتنوعة التي لولا خلق إبليس وجنوده لما وجدت ، وغير ذلك مما
ذكره الباحث ومما لم يذكره مما يعتبر بيانا كافيا شافيا في هذا الباب .
ب- أن ابن القيم ذكر أن الأشاعرة ينكرون الحكمة ، مع أنهم في الواقع ونفس الأمر
لا ينكرونها ، وإنما قالوا : إن أفعال الله تعالى لا تعلل بالأغراض ، بمعنى أنه
لا يعود على الفاعل منها مصلحة . وهذا لا يسلم للباحث فالأشاعرة يرون أن أفعال
الله لا تعلل بالحكم والمصالح الباعثة على الأفعال ؛ لأن التعليل بها يستلزم
الافتقار والاستكمال بالغير ، ولهذا يقولون بحصولها في أفعال الرب بطريق الوقوع
لا القصد ، ولو سلمنا أن الأمر كما ذكره فالحكمة في خلق الله وأمره تعود إلى
الرب وإلى العباد ، وعودها إلى الرب أعظم الجانبين ؛ فالله إنما خلق الخلق
ليعرف ، ويعبد ، ويذكر ، ويمدح ، وتظهر آثار أسمائه ، وشواهد وحدانيته ، وكذلك
إنما شرع الشرائع لأنها موجب إلهيته ودليل كماله ؛ قال الرسول ــ صلى الله عليه
وسلم ــ : ( من أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا شخص أغير
من الله ، ولا شخص أحب إليه العذر من الله من أجل ذلك بعث المرسلين مبشرين
ومنذرين ، ولا شخص أحب إليه المدحة من الله ، من أجل ذلك وعد الجنة) ؛ فهذا
الحديث الصحيح نص في التعليل بالحكم العائدة إلى الله تعالى .
ج- أن ابن القيم في حكمة وجود الشر اتبع مذهب الفلاسفة ، وهو مذهب مقبول لاغبار
عليه ولا يتنافى مع نصوص الشرع ! وهو يريد أن يصل من ذلك إلى القول بأنه لم يأت
بجديد وإنما قلد الفلاسفة في الحكمة والتعليل ! وهذا ناشئ عن عدم الاستقراء
التام للمذاهب في الحكمة ؛ فقد حصر الناس في هذا الباب في ثلاث طوائف ،
الفلاسفة ، والمعتزلة ، والأشاعرة ، ولم يذكر مذهب السلف الذي يناصره ابن القيم
. ولا أريد أن أقول إنه ناشئ أيضا من عدم الاستقراء التام لكلام ابن القيم في
هذا الباب ، فالباحث لاشك في جهده وسعة اطلاعه على كلام ابن القيم ، ولهذا عجبت
من عدم ظهور الفرق له بين مذهب ابن القيم ومذهب الفلاسفة ، فابن القيم نفسه بين
ما في مذهب الفلاسفة من مخالفات للشرع ، وذكر أنهم أخطؤوا في مواضع كثيرة ؛
كجعل الشرور والآلام من لوازم الطبيعة من غير أن تكون متعلقة بفاعل مختار ،
وكالتناقض البين بين القول بالإيجاب الذاتي وما أثبتوه من الحكمة ، لأنه لا
يعقل وجود رب حكيم ولا اختيار له في فعله ! فكيف يقال إذن : إن ابن القيم وافق
الفلاسفة في هذا الباب ، بل كيف يقال : إن قول الفلاسفة لا غبار عليه ، ولا
يتنافى مع نصوص الشرع !!
10- في التحسين والتقبيح عرض رأي ابن القيم عرضا مفصلا ، وعرض المذاهب
في هذه المسألة ، ولم يعلق بأكثر من انه مذهب منتخب من المذاهب التي عرضها ،
وشهد له في أثناء عرض مذهبه بالقوة والبراعة ، ولكن ماذكره في الخاتمة من انه
في هذه المسألة على مذهب الماتريدية محل نظر ؛ فالتقارب بين المذهبين لا يعنى
التماثل في كل التفاصيل .
11- في مباحث المعاد عرض آراء ابن القيم عرضا حسنا ، وأهم ما يؤخذ عليه في هذا
الباب هو القول بأن ابن القيم على رأي المتكلمين في حقيقة النفس ، وفي القول
بالمعاد الجسماني ، وفي أن المعاد جمع بعد تفريق ، وذلك لأن قول المتكلمين
بالمعاد الجسماني ليس مبنيا على أن الروح جسم لطيف قائم بنفسه كما ذهب إلى ذلك
ابن القيم ، وإنما هو مبني على أن الروح إما نفس البدن ، أو صفة من صفاته ، أو
جزء من أجزائه ، وهذا يعني إنكار بقاء النفس بعد الموت ، وهو قول مبتدع لم يذهب
إليه أحد من السلف ، كما نص على ذلك شيخ الإسلام في الصفدية ج 2 ص 267 . وكذلك
قولهم بأن المعاد جمع بعد تفريق مبني القول بالجوهر الفرد ؛ فالبعث عندهم إما
جمع للجواهر المنفردة بعد التفرق أو إعادة لها بعد الإعدام . وابن القيم كشيخه
كلاهما ينكران أن يكون الجوهر الفرد أصلا لثبوت شيء من أمر الدين أو انتفائه ،
وإنما ذهبا إلى أن البدن حال الحياة في تحلل مستمر ، فإذا فارقته الروح تحلل
كله ، وهذه الاستحالة لا تنافي إعادة البدن بعينه ؛ لأنه يبقى منه عجب الذنب ،
الذي منه خلق ، وفيه يركب .
12- في أبدية الجنة والنار ، عرض رأي ابن القيم في هذه المسألة ، وبين
أن كلامه في حادي الأرواح وغيره يوهم بأنه يقول بفناء النار ، ولكنه لم يسلم
بذلك ، بل نافح عن رأي ابن القيم بحرارة ، وذكر نصوصا صريحة قالها ابن القيم ،
أو نقلها وارتضاها ، وكلها تدل على أنه يقول بأبدية النار ، واستحالة دخول
أهلها الجنة ، ثم ذكر أنه بعد البحث والتنقيب جزم يقينا بأن القول بفناء النار
ليس رأيا له ، وإنما هو رأي عرضه لبعض من ذهب إلى القول بفناء النار ، وأنا
أميل إلى رأيه في هذه المسألة ، لأن ابن القيم من أكثر الناس تعظيما لنصوص
الشرع ، وهي صريحة في أبدية النار .
وختاما فالباحث جاد في بحثه ، وافر الأدب ، محب لابن القيم ومكبر له ،
ومقر بفضله وعلمه ؛ فيذكر أنه استفاد منه استفادة علمية ودينية ، وجلس منه مجلس
التلميذ من أستاذه ، وهو أيضا يسلم بصحة منهج ابن القيم في البحث والتأليف ، بل
إنه يدعو إلى ترسم خطاه في النقد العلمي الجاد لآراء أهل العلم ، ثم اختيار
القول الصحيح نقلا وعقلا ، ولكنه خالف ابن القيم في مسائل كثيرة ، رأيت أن الحق
فيها مع ابن القيم فأحببت التنبيه على ذلك ، والله الموفق والهادي إلى سواء
السبيل .
كتبه
د / عيسى بن عبد الله السعدي
أستاذ في العقيدة / الطائف