|
بسم الله الرحمن الرحيم
إن من دلائل الإخلاص وعلامات المخلصين اتهامهم لأنفسهم بالتقصير في حق الله
، وعدم القيام بالعبودية لملك الملوك ، بل ومقتهم لأنفسهم ولا يرونها أهلاً
لأي فضل ، قال تعالى : \" وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ
وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُوْلَئِكَ
يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) سورة المؤمنون
.
والتزكية التي يذم عليها المرء أن يدل بعمله على ربه ويمدح، وكأنه يمن على
الله، يقول: صليت، وتصدقت، وصمت، وحججت، وجاهدت، وبريت والدي وما أشبه ذلك،
فلا يجوز للإنسان أن يزكي نفسه, قال تعالى : \" أُمَّهَاتِكُمْ فَلا
تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) سورة النجم .
والصالحون لهم أحوال وكلام في اتهام النفس وعدم تزكيتها , فها هو الصديق
رضي الله عنه يمسك لسانه ويقول: هذا الذي أوردني المهالك .
وهذا عمر رضي الله عنه يقول لحذيفة : هل أنا منهم ؟ – يعني من المنافقين –
أَوَ سمّاني لكَ رسول الله ؟ .
وكان عبد الرحمن بن هرمز الأعرج كثيراً ما يعاتب نفسه ويوبخها ويقول لها :
إن المنادي ينادي يوم القيامة : يا أهل خطيئة كذا قوموا ، فتقوم يا أعرج
معهم ، ثم ينادي : يا أهل خطيئة كذا قوموا ، فتقوم يا أعرج معهم ، ثم ينادي
يا أهل خطيئة كذا قوموا ، فتقوم يا أعرج معهم ، فأراك يا أعرج تقوم مع كل
طائفة .
وقال شعيب بن حرب : بينا أنا أطوف بالبيت إذا رجلٌ يشدُ ثوبي من خلفي
فالتفت فإذا بفضيل ابن عياض ، فقال : لو شفعَ فيّ وفيك أهل السماء كنا
أهلاً ألا يشفع فينا .
وكان الشافعي يقول :
أحب الصالحين
ولست منهم *** لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي *** وإن كنا سواءً في البضاعة
وعن يونس بن عبيد قال : إني
لأعد مائة خصلة من خصال البر ، ما فيَّ منها خصلةُ واحدة .
وكان الربيع بن خثيم يبكي حتى يبل لحيته ويقول : أدركنا أقواماً كنا في
جنبهم لصوصاً .
وقال الفضيل بن عياض عن نفسه : كيف ترى حال من كثرت ذنوبه ، وضعف عمله ،
وفنى عمره ، ولم يتزود لمعاده ، ولم يتأهب للموت ، ولم يتزين للموت ،
وتزيّن للدنيا ، هيه ، وقعد يحدث – يعني نفسه – واجتمعوا حولك يكتبون عنك ،
بخ فقد تفرغّت للحديث ثم قال : هاه – وتنفس طويلاً – ويحك أنت تحسن تحدّث؟؟
أو أنت أهلٌ أن يحمل عنك ؟ استحي يا أحمق بين الحمقان ! لولا قلة حيائك
وصفاقة وجهك ما جلست تحدث وأنت أنت ، أما تعرف نفسك ؟ أما تذكر ما كنت ؟
وكيف كنت ؟ أما لو عرفوك ما جلسوا إليك ولا كتبوا عنك ، ولا سمعوا منك
شيئاً أبدا .
وعن جعفر بن برقان قال : بلغني عن يونس بن عبيد فضلٌ وصلاح ، فكتبت إليه :
يا أخي ، اكتب لي بما أنت عليه ، فكتب إليه :أتاني كتابك تسألني أنا أكتب
إليك بما أنا عليه ، وأخبرك أني عرضتُ على نفسي أن تحب للناس ما تحب لها
وتكره لهم ما تكره لها ؛ فإذا هي من ذاك ببعيد ، ثم عرضتُ عليها مرةً أخرى
ترك ذكرهم إلا من خير ؛ فوجدت الصوم في اليوم الحار الشديد الحر بالهواجر
بالبصرة أيسر عليها من ترك ذكرهم . هذا أمري يا أخي والسلام .
وقد روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : لا يفقه الرجل كل
الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشد مقتا .
وقال مطرف بن عبدالله : لولا ما أعلم من نفسي لقليت الناس .
وقال مصرف في دعائه بعرفة : اللهم لا ترد الناس لأجلي.
وقال بكر بن عبدالله المزني : لما نظرت إلى أهل عرفات ظننت أنهم قد غفر لهم
لولا أني كنت فيهم .
وقال أيوب السختياني : إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل .
ولما احتضر سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب وحماد بن سلمة فقال له حماد :
يا أبا عبدالله أليس قد أمنت مما كنت تخافه وتقدم على من ترجوه وهو أرحم
الراحمين فقال : يا أبا سلمه أتطمع لمثلي أن ينجو من النار قال : إي والله
إني لأرجو لك ذلك .
وذكر عن مسلم بن سعيد الواسطي قال : أخبرني حماد بن جعفر بن زيد : أن أباه
أخبره قال : خرجنا في غزاة إلى كابل وفي الجيش : صلة بن أشيم فنزل الناس
عند العتمة فصلوا ثم اضطجع فقلت : لأرمقن عمله فالتمس غفلة الناس حتى إذا
قلت : هدأت العيون وثب فدخل غيضة قريبا منا فدخلت على أثره فتوضأ ثم قام
يصلي وجاء أسد حتى دنا منه فصعدت في شجرة فتراه التفت أوعده جروا فلما سجد
قلت : الآن يفترسه فجلس ثم سلم ثم قال : أيها السبع طلب الرزق من مكان آخر
فولى وإن له لزئيرا أقول : تصدع الجبال منه قال : فما زال كذلك يصلي حتى
كان عند الصبح جلس فحمد الله تعالى بمحامد لم أسمع بمثلها ثم قال : اللهم
إني أسألك أن تجيرني من النار ومثلي يصغر أن يجترىء أن يسألك الجنة قال :
ثم رجع وأصبح كأنه بات على الحشايا وأصبحت وبي من الفترة شىء الله به عالم
.
وقال يونس بن عبيد : إني لأجد مائة خصلة من خصال الخير ما أعلم أن في نفسي
منها واحدة .
وقال محمد بن واسع : لو كان للذنوب ريح ما قدر أحد يجلس إلي .
وذكر ابن أبي الدنيا عن الخلد بن أيوب قال : كان راهب في بني إسرائيل في
صومعة منذ ستين سنة فأتي في منامه فقيل له : إن فلانا الإسكافي خير منك
ليلة بعد ليلة فأتى الإسكافي فسأله عن عمله فقال : إني رجل لا يكاد يمر بي
أحد إلا ظننت أنه في الجنة وأنا في النار ففضل على الراهب بإزرائه على نفسه
.
وذكر داود الطائي عند بعض الأمراء فأثنوا عليه فقال : لو يعلم الناس بعض ما
نحن فيه ما ذل لنا لسان بذكر خير أبدا .
وقال أبو حفص : من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها في جميع
الأحوال ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أوقاته كان مغرورا ومن نظر إليها
باستحسان شىء منها فقد أهلكها.