|
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده , والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ,, وبعد
إن الدنيا قد جبلت على كدر وهم , وضيق وغم , أوجاعها لا تنقضي , ومآسيها لا
تنتهي , والإنسان فيها بين آلام مرض وهموم دين , وبين جفوة قريب وفقد حبيب
, وبين معاناة سفر ومكابدة سهر .
أسرة هنا تحت سلطة أب ظالم أو تمرد زوجة ناشز أو عقوق أبناء منحرفون .
بلد هناك يئن من احتلال كافر , وبلد يشكو من سلطان جائر , فتن متلاطمة ,
ومحن متتابعة .
ولله ما يقدر ويفعل , وله في كل شي حكمة .
والناس مع هذه الأحداث على قسمين , فمنهم من يجزع ويسخط ويعترض على قضاء
الله وقدره , وأولئك الذين ضعف إيمانهم واضطرب يقينهم , فهم عطفاً على
تبرمهم وتسخطهم تعظم مصائبهم وتتفاقم همومهم وتثقل عليهم أوجاعهم حتى
يعجزوا عن حملها أو مواجهتها , فيخسروا بذلك أجر الصبر والرضا بأقدار الله
تعالى من وجه , ويعجزوا عن حل مشاكلهم ومعالجة أوضاعهم من وجه آخر .
ومنهم من يصبر على قضاء الله وقدره ويرضى به , فلا يأتون من الأعمال
والأقوال إلا ما يرضي ربهم ويساهم في مضاعفة أجرهم ويسكن الطمأنينة والأمن
في قلوبهم , متطلعين إلى ما عند ربهم من الأجر والمثوبة التي كتبها الله
للصابرين الشاكرين قال تعالى : " والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس
أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون ".
إن خلق الصبر من أفضل فضائل الأعمال , وأجل أخلاق الكرام , وأحد أهم أسباب
التوكل الصادق على الملك العلّام , جاء بيان فضله في القرآن الكريم في نحو
تسعين موضعا , وهو واجب بإجماع الأمة , وهو نصف الإيمان , فإن الإيمان
نصفان نصف صبر ونصف شكر , ذكر ذلك ابن القيّم رحمه الله في كتابه مدارج
السالكين .
وهو مذكور في القرآن على أنواع عدّة : ومنها :
الأول : أن الله جل وعلا قد أمر به فقال
تعالى : " يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة " وقال : "
واستعينوا بالصبر والصلاة " وقال : " اصبروا وصابروا " وقال : " واصبر وما
صبرك إلا بالله " ونهى جل وعلا عن إتيان العبد كل ما هو ضده ( أي ضد الصبر)
, فقال تعالى : " فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم " ،
وقال : " فلا تولوهم الأدبار " ، فإن تولية الأدبار : ترك للصبر والمصابرة
. وقوله : " ولا تبطلوا أعمالكم " فإن إبطالها ترك الصبر على إتمامها .
وقوله : " ولا تهنوا ولا تحزنوا " فإن الوهن من عدم الصبر .
الثاني : ثناء الله جل وعلا على الصابرين وهذا كثير في القرآن
الكريم ، كقوله تعالى : " والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك
الذين صدقوا وأولئك هم المتقون " ومن صور ثناءهم عليهم أن الله قد أوجب
محبته و معيته لهم فقال في محبته لهم : " والله يحب الصابرين " وقال في
معيـّته لهم : " واصبروا إن الله مع الصابرين" وقال " والله مع الصابرين "
وهي معية خاصة تتضمن حفظهم ونصرهم وتأييدهم .
الثالث : أوجب الله للصابرين مآلات عدة وخيرات متعددة , ومنها أن
منحهم الجزاء بأحسن أعمالهم فقال تعالى : " ولنجزيّن الذين صبروا أجرهم
بأحسن ما كانوا يعملون " ومنحهم أيضاً الجزاء بغير حساب , فقال تعالى" :
إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب " , وأوجب لهم الخير كله إن هم حققوا
معنى الصبر وتمثلوا به , فقال تعالى : " ولئن صبرتم لهو خير للصابرين "
وقال : " وأن تصبروا خير لكم " وفي هذا المقام أيضاً أخبر جل وعلا أنّه ما
يلقى الأعمال الصالحة وجزاءها والحظوظ العظيمة عليها إلا أهل الصبر ، قال
تعالى : " ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون
" وقال تعالى " وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم "
وفيه أيضاً أن الله أخبرهم بأن الفوز بالمطلوب المحبوب ، والنجاة من
المكروه المرهوب ، ودخول الجنة ، إنما نالوه بالصبر , قال تعالى : "
والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار" ,
ومن منحه جل وعلا لهم أن ضمن لهم النصر والمدد لهم من عنده فقال تعالى : "
بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من
الملائكة مسومين " ومن منحه جل وعلا للصابرين أن أطلق لهم البشرى دون تحديد
في وقت أو مكان أو أمر , فقال تعالى : " ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع
ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين " , ومن مآلات الصبر التي
تعتبر من منح الله تعالى لعباده الصابرين أنه يورث صاحبه درجة الإمامة ,
قال ابن القيم رحمه الله : سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه -
يقول : بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين , ثم تلا قوله تعالى : "
وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون "
الرابع : أخبر الله جل وعلا في كتابه الكريم بأن أهل الصبر هم أهل
العزائم , وهم أهل جادة الحق والهمم العالية وأهل التضحية من أجل الله
تعالى ومن أجل التقرب إليه بفعل الطاعات وترك المعاصي , ومن أجل محمد صلى
الله عليه وسلم ورسالته وسنته وسيرته , ومن أجل ابتغاء ما عند الله من
الأجر والثواب ومن أجل دعوة الناس إلى الحق والإحسان إليهم , فقال تعالى :
" لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن
الذين أشركوا أذى كثيرا وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور" وقال
تعالى : " يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما
أصابك إن ذلك من عزم الأمور " وقال تعالى : " ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم
الأمور" .
الخامس : بيّن الله تعالى أن أهل الصبر أهل تفكر وتدبر , وأصحاب نفع
من الآيات والعبر , قال تعالى لموسى : " أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور
وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور " ، وقوله في أهل سبأ : "
فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور " , وقوله
: " ومن آياته الجواري في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد
على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور "
السادس : قرن الله الصبر بمقامات الإسلام والإيمان ، كما قرنه الله
سبحانه باليقين وبالإيمان ، والتقوى والتوكل , وبالشكر والعمل الصالح
والرحمة , ولهذا كان الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ولا إيمان
لمن لا صبر له كما أنه لا جسد لمن لا رأس له , وقال عمر بن الخطاب رضي الله
عنه : خير عيش أدركناه بالصبر , وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث
الصحيح أنه ضياء , وقال" : من يتصبر يصبره الله" , وفي الحديث الصحيح : "
عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن , إن
أصابته سراء شكر فكان خيرا له وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " وقال
للمرأة السوداء التي كانت تصرع فسألته أن يدعو لها : " إن شئت صبرت ولك
الجنة ، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك " فقالت : إني أتكشف فادع الله أن لا
أتكشف فدعا لها , وأمر الأنصار - رضي الله تعالى عنهم - بأن يصبروا على
الأثرة التي يلقونها بعده حتى يلقوه على الحوض , وأمر عند ملاقاة العدو
بالصبر , وأمر بالصبر عند المصيبة , وأخبر أنه إنما يكون عند الصدمة الأولى
, وأمر صلى الله عليه وسلم المصاب بأنفع الأمور له ، وهو الصبر والاحتساب ,
فإن ذلك يخفف مصيبته ، ويوفر أجره . والجزع والتسخط والتشكي يزيد في
المصيبة ، ويذهب الأجر , وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الصبر خير كله ، فقال
: ما أعطي أحد عطاء خيرا له وأوسع من الصبر .
والحمد لله رب العالمين
حسين بن سعيد الحسنية
30/1/1437هـ