|
هاهي أصوات الملبين بدأت تلج إلى مسامع الناس من كل حدب وصوب ، وهاهم الراحلون
إلى بيت الله يتجهون إلى هناك ، ولكأنني اليوم أرقب هذه الجموع وهي في طريق
سيرها ، أو كأني بهم اليوم في شعاب مكة ، وفي جنبات الحرم ، وهم ما بين محرم
يعيش يوم التروية ، أو على ضفاف عرفات ، أو حتى يعيش أيام التشريق مع جموع
الناس هناك . وهذا المشاهد بالذات عندما ترتفع أصواتها بالتلبية أو بالتكبير
إنما تبعث في نفسي الأمل ، وتحدو في روحي بحادي الشوق ، أن أشاركها هذه
الشعارات الربانية في حجها المبارك لهذا العام ، وقبل أن أبدأ حديثي معك أخي
الحاج أدعو الله لك بالتوفيق والسداد وهنيئاً أيها الحاج بالحج.
أخي الحاج : أحييك بتحية أهل الجنة تحيتهم يوم يلقون ربهم سلام فسلام الله عليك
ورحمته وبركاته ، سائلاً المولى أن يحقق لك حجك ، ويغفر لك ذنبك ، ويبارك لك في
عمرك . ولتسمح لي يارعاك الله بهتاف أجترته مشاعر سفرك إلى أرض مكة هناك .
أخي الحاج : إن الرحلة تشرُف كثيراً بمن سترحل إليه ، ورحلة الحج بالذات إنما
هي رحلة إلى رب العالمين ، رحلة إلى بيت لا أعظم منه على وجه الأرض ! رحلة
إلى مآثر الأنبياء ومواطئ أقدام الرسل هناك . رحلة هي النجاح بكل ما تعنيه هذه
الكلمة ، وحينما ترحل إلى هناك تكون بإذن الله تعالى في عداد من بلغهم صوت
النبي الكريم إبراهيم الخليل عند ندائه بالحج من على مشارف مكة . وهنيئاً بهذه
التلبية ، وأنت مع كل ذلك وقبله وبعده من وفد الله تعالى وقد صح في الحديث أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( وقد الله ثلاثة وذكر منهم الحاج والمعتمر ) .
فمن ياتُرى أحسن حالاً منك في هذه الأيام المباركة . لقد بدأ إبراهيم الخليل
وابنه اسماعيل يجهدان في البناء في هذا البيت العظيم ، غير أنهم يلبّون أمر
الله تعالى لكن لايرون أحداً من البشر حولهم ، فالأرض مجدبة ، والصحراء متباعدة
، والقوم في ذلك الزمان يبحثون عن أرض معشبة فمن يحج هذا البيت ياترى ؟ فجاء
التوجيه الرباني لإبراهيم : (( وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر
يأتين من كل فج عميق )) قال ابن كثير رحمه الله تعالى : (( أي ناد في الناس
بالحج ، داعياً لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه ، فذكر أنه قال
: يارب وكيف أبلّغ الناس وصوتي لا ينفذهم ؟ فقال : ناد وعلينا البلاغ ، فقام
على مقامه وقال : يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه فيقال : إن الجبال
تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض ، وأسمع من في الأرحام والأصلاب ، وأجابه كل
شيء سمعه من حجر وشجر ومدر ، من كتب الله أن يحج إلى يوم القيامة : لبيك اللهم
لبيك . وهذا مضمون ما روي عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد
من السلف والله أعلم . اهـ رحمه الله . ولعلك أيها الحاج أحد من ولجت أذنيه هذه
الدعوة المباركة من نبي الهدى فتحقق عظيم الخير والإحسان فهنيئاً بالتلبية
وحجاً مبروراً ، ولا حرمك الله تحقيق هذه الاستجابة . وليس هذا فقط حفظك الله
فلقد جاء رسولك صلى الله عليه وسلم بذكر شيء من الفضائل لهذه الرحلة المباركة
فقال: (من حج هذا البيت فلم يرفث ، ولم يفسق ، رجع كما ولدته أمه ) متفق عليه
من حديث أبي هريرة . وللبخاري : ( رجع كيوم ولدته أمه ) . وقال صلى الله عليه
وسلم في حديث أبي هريرة العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما والحج المبرور ليس
له جزاء إلى الجنة ) متفق عليه . وروى الإمام مسلم في صحيحيه من حديث عائشة أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من
النار من يوم عرفة . وإنه ليدنوا ثم يباهي بهم الملائكة . فيقول : ما أراد
هؤلاء ؟ ) . وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم
: ( تابعو بين الحج والعمرة ، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث
الحديد والذهب والفضة وليس للحجة المبرورة ثواب إلا الجنة ) رواه الترمذي
والنسائي وصححه الألباني . وقال صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة : ( وفد
الله عز وجل ثلاثة : الغازي والحاج والمعتمر ) رواه النسائي وصححه الألباني .
وهذه الفضائل قل أن تجتمع في عبادة من العبادات . لذا حق لمن يسّر الله تعالى
له الحج أن يعد ذلك نعمة من نعم الله تعالى .
أخي الحاج : في كل طريق تسعاه من المهم جداً أن تختار رفيق السفر المبارك ، ذلك
الذي يعينك على الحق ، ويكون عوناً لك على لأواء السفر ، ومشقة الرحلة ، ورحلة
الحج بالذات تحتاج منك إلى دقة في اختيار رفيق الرحلة ، وتمعّن في اصطفاء
الأوفياء والصالحين ، وكيف لايكون ذلك وقد قال رسولك الكريم صلى الله عليه وسلم
: ( مثل الجليس الصالح والسوء كحامل المسك ونافخ الكير ) ولتعلم يارعاك الله أن
الحج عبادة جليلة يترتّب عليها بعد توفيق الله تعالى مغفرة الذنوب ، وتكفير
السيئات ، وعود الإنسان من تلك الديار كيوم ولدته أمه ، وفضل مثل هذا ينبغي أن
تحرص فيه على رفيق صالح يدلك على الخيرات ، ويعينك على أداء هذه العبادة على
وجهها الصحيح . فإذا عزمت على الانضمام إلى إحدى الحملات على كثرتها فتخيّر
منها ما تعينك على أداء هذه العبادة وفق ما جاء بها الشارع الكريم .
أخي الحاج : تذكر وأنت على مشارف السفر أو في ثنايا طريق الرحلة أو حتى في
جنبات مكة أنه ينبغي التخلّص من حقوق المخلوقين أياً كانت هذه الحقوق سواء كانت
حقوقاً مالية ، أو حقوقاً معنوية . فأي حج هذا وللمخلوقين في ذمتك أموالاً
مغصوبة أو مسروقة أو مأخوذه على غير وجهها الشرعي . وأي حج هذا وبينك وبين
المسلمين خصومة مزمنة ، وتقاطع طويل ، وتهاجر تعاقبت عليه الأزمان دون أن تنجح
في تغيبه من واقع الحياة . إن من يريد الحج اليوم لمغفرة الله تعالى هو أحوج ما
يكون إلى مراجعة نفسه قبل أن يحزم حقائب السفر . وليتذكّر في سفره حديث النبي
صلى الله عليه وسلم حين قال : من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله
منه اليوم قبل أن لايكون دينار ولا درهم ، إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر
مظلمته ، وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحُمِل عليه )) رواه البخاري
من حديث أبي هريرة . أو قوله صلى الله عليه وسلم : ( لعن الله آكل الربا وموكله
وكاتبه وشاهيدة وقال هم سواء ) رواه مسلم من حديث جابر بن عبد الله . أو حديثه
صلى الله عليه وسلم : هجر المسلم سنة كسفك دمه ، وقوله صلى الله عليه وسلم :
تعرض الأعمال إلى الله في كل اثنين خميس فيغفر الله لكل عبد لايشرك بالله شيئاً
إلا المتخاصمين فيقول انظروا هذين حتى يصطلحا ) . وغير ذلك من الحقوق التي
يحتاج الحاج من أمثالك إلى تسويتها ، وسدادها ، والتخلّص منها قبل أن يطأ حرم
الله تعالى إن أراد موعود رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي مر معنا في بداية
الحديث .
أخي الحاج : هاهو بيت الله تعالى بين ناظريك فتمعّن في هذا البناء ، وتأمّل فيه
كثيراً ، وتذكّر أن إبراهيم وابنه اسماعيل شيّدا هذا البناء على أمل أن تصل أنت
وإخوانك إليه . وتذكر وأنت تجوب المشاعر المقدسة بدءاً بالحرم وإنطلاقاً إلى
منى ، وانتظار يوم العمر في عرفات ، والمبيت بمزدلفة ، والعودة إلى منى من جديد
تذكّر رحلة نبيك صلى الله عليه وسلم حينما حج حجة الوداع ، فأي رحلة أعظم من
رحلة على آثار ومواطئ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام . إن هذا البيت يارعاك
الله بيت الله ، وهذه الرحلة التي تشهدها اليوم إنما تسير فيها على مواطئ
الأنبياء وقد حجوا هذا البيت مثلما تحج أنت هذا العام ، فلكأنك اليوم تسير على
أقدام القوم . ولعل في حديث النبي صلى الله عليه وسلم ما يشعر بذلك حينما -
مرَّ بوادي الأزرق" فقال لأصحابه: "أي واد هذا؟" قالوا: هذا وادي الأزرق. قال:
"كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطًا من الثنية، وله جؤار إلى الله تعالى
بالتلبية". ثم أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - على ثنية يقال لها: ثنية هَرشى
فقال: "أي ثنية هذه؟" قالوا: "هذه هَرشى" قال: "كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه
السلام على ناقة حمراء جعدة - يعني مجمعة الخلق شديدة -، عليه جبة من صوف، خطام
ناقته خُلبة - يعني من الليف- وهو يلبي . وهنيئاً بهذه القدوة ، وهذه الآثار ،
وقريباً ستصل بإن الله تعالى إلى الاجتماع بالقوم لا حرمنا وإياك رؤيتهم والأنس
بهم في ظلال الجنان .
أخي الحاج : لك أن تتأمّل في من حولك من الحجيج أمم من أقطار الدنيا كلها ولك
أن تتساءل تُرى ماالذي جاء بالقوم من هناك ؟ ولماذا اجتمعوا هنا جميعاً ؟ هاهي
أرض مكة اليوم بمشاعرها المقدسة تحتظنكم جميعاً دون أدنى فارق ، بل لاترعي
الفوارق أي اهتمام مهما كانت . ولك أن تدرك أن هذه الجموع كلها إخوانك على
الطريق ، جاءوا للغاية التي جئت أنت من أجلها فيالله العجب ما أعظم الهدف ! وما
أرقى الغايات التي تتنافس على الحج إلى بيت الله تعالى ! ولتعي أن بين هؤلاء
فقير تلمس في عينيه حاجته إلى الطعام والشراب ، وبين هؤلاء مريض يجهد على عناء
حاله وضعف جسده وماله ، وبينهم كذلك جاهل بأحكام شرعه فلأول مرة تطأ قدمه على
تراب مكة فما واجبك تجاه هؤلاء القوم ؟ إن مثلك لايخفى عليه إن شاء الله أن
الجود والسخاء في المشاعر المقدسة من أعظم القربات فالله الله لتطعم ذلك الفقير
، وليهنأ بخدمتك ذلك المريض ، وليرى منك ذلك التائه حسن المعاملة ، وروعة
الأخلاق ، وليشعر من حج لأول مرة أو من يجهل بدينه أنهم أمام من يريد لهم الخير
فتراة توزّع مطوية ، وثانية تهدي شريطاً ، وثالثة توجّه بكلمة دافئة حديث معروف
إلى من يجانبه ، ورابعة أراك في جنبات الطريق تهدي ضالاً ، أو تعين منكوباً ،
أو تجود بالخير لمن يستحقه . وحين يؤذن منادي الرحيل بالعودة إلى الديار تكون
أنت من أسعد الناس بالرحلة ، ومن خير الحجاج أثراً ورفعة . ولك مني ومن غيري
دعاء بظهر الغيب أن يرفع ذكرك ، ويعلي شأنك ، ويكتب أجرك . وهنيئاً إن شاء الله
بالعود كيوم ولدتك أمك .
وأخيراً : هذي رسالتي بين يديك في أي مكان كنت هي جزء من بعض الواجب الذي
حدّثتك عنه وأعتقد أنه غير كافٍ لأداء الواجب العظيم ، مؤملاً أن نلتقي وإياك
في رحاب مكة ، وأن توقفنا الرحلة على أداء بعض الواجب مما ذكرت ، ولن أنسى لك
هذا العمل العاجل . وعسى أن يجعل الله تعالى في أيام الدنيا فسحة لنا لنرى
الواقع بالخير ماثلاً ، وبالنجاح متحققاً . والله يتولاك برعايته . وحج مبرور .
المشرف التربوي بإدارة التربية والتعليم بمحافظة
القنفذة
مشعل بن عبد العزيز الفلاحي