إن رمضان فرصة عظيمة لإحداث التغيير المنشود من خلاله ، لقد غيّر رمضان بطبيعته
روتين الحياة ككل ، وأضفى على حياة الواحد منا برنامجاً جديداً ، فكثير من
الناس قد لا يتصوّر أن يصوماً يوماً واحداً في حياته كلها ، بل قد يرى أن هذا
الصوم حلماً قد عجز عن تحقيقه ، وربما حاول وهو يسمع حديث النبي صلى الله عليه
وسلم : من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفاً ، لكنه
لم يستطع تطبيق ذلك على مستوى يوم واحد ، فجاء رمضان فقلب هذه النفس ، وطمس
معالم الرهبة فيها ، وجعلها لا تراهن على يوم واحد ، بل على أيام الشهر كلها .
وترى ذلك الضعيف في الانتصار على ذاته يوماً واحداً الأمس وقد حطّم ما كان يراه
مستحيلاً ، فصام الشهر كله . بعض الناس من الذين وقعوا أسرى لعادة التدخين
مثلاً قد يصعب عليه أن يترك شرب سيجارة واحدة في زمن الساعة والساعتين ، وقد
تراه وهِنَ العزيمة لدرجة أنك لا تفلح في إقناعه أن يتنازل بضع دقائق عن هذه
العادة السلبية ، يأتي رمضان فيخلق لديه عزيمة صلبة ، وإرادة قوية ، ويبقى
يوماً كاملاً لا يحدث نفسه بهذه العادة ناهيك أن يقع فيها . والأمثلة على هذا
أكثر من أن تُحصر ، فكان بحق رمضان فرصة للتغيير ، لقد أكّد الله تعالى في
كتابه الكريم أن التغيير مهما كان بسيطاً لا يأتي إلا من خلال الإرادة الشخصية
عند الإنسان نفسه ، قال تعالى : ( إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما
بأنفسهم ) وأكّدت تجربة رمضان أن كثيراً من السلبيات التي نقارفها بحجة ضعف
الإرادة ، ووهن العزيمة دعوى لا رصيد لها من واقع الحقيقة . ومن هذا المنطلق
فإن الواجب أن يكون رمضان فرصة لبناء الذات ، والوصول بها إلى أفضل ما يمكن .
إنه من خلال هذا الشهر يمكن لنا أن نضع لنا أهدافاً ونختبر أنفسنا في تحقيقها ،
نجرّب خطوات عملية في التحدي ، نبحث عن أكثر من ميدان لنخوض التجربة فيه . إن
بإمكاننا أن نضع لأنفسنا في هذا الشهر جملة من الأهداف ، ونخوض التجربة الحقيقة
في اختبار قدارت الذات مع هذه الأهداف ، إن المحافظة على صلاة الجماعة ،
والحفاظ على ورد معيّن من الراتبة والنافلة هدف عظيم يمكن أن نحيا من أجله في
هذا الشهر . كذلك من الأهداف التي يمكن أن نجربها في رمضان ألا نغتاب أحداً
مهما كان الداعي إلى ذلك ، ويمكن كذلك خوض التجربة الحقيقية مع النفس في هذا
الشهر أن نلتقط كل فضيلة ، ونحرص على جماع أبواب البر الممكنة في رمضان بدءاً
من إجابة المؤذّن ، وانتهاء بإماطة الأذى عن الطريق . إن من لا يمكنه بالأمس
ختم القرآن يمكن أن يجرب اليوم ، ومن لم يمكنه أكثر من ختمة واحدة بإمكانه أن
يجرّب اليوم مرة أخرى ، شريطة أن يجرّب وعنده النية الصادقة لتحويل أمنيات
الأمس إلى تجارب حية في هذا العام . إن بعضنا يقع تحت وطأة العادات السلبية ،
ويمكن لو تأملت حياة الواحد منا تجده مجموعة من هذه العادات ، وهو مدعو هذا
العام أن يجرّب التخلّص من هذه العادات كلها إن استطاع أو بعضها ، وتحقيق
الانتصار في التغلّب على بعض العادات طريق للأمل في التغلّب على كل العادات
السلبية . إن النجاح يدعو لنجاح آخر ، والتجربة الإيجابية تزرع طريقاً من
التفاؤل للتجارب القادمة عبر الزمن في حياة الواحد منا . شريطة أن نبدأ بإرادة
صلبة ، وعزيمة قوية ، ونبدأ ونحن مفعمون بالتفاؤل . فلئن يعيش الواحد منا وهو
يناضل في بناء ذاته خير له من أن يرحل وهو مأسور تحت وطأة شهوة عاجلة ، أو عادة
ذميمة . إن رمضان فرصة أن نرمم ذواتنا ، ونشذّب الأخلاق التافهة في حياتنا ،
ونخرج قليلاً من التمحور حول الذات إلى بناء علاقات إيجابية مع الآخرين .
أيها الصائم الحبيب :
مواقف الرحمة التي تنتظرك عند الله تعالى عظيمة ، وما عليك سوى البحث عنها
ويمكن لك بإذن الله تعالى أن تحلّق في عالم المرحومين ، تعلم يارعاك الله ما ذا
فعل فرعون في تلك الأمة التي استولى عليها ، لقد وصل به الحال إلى أن قتّل
رجالهم ، واستحيا نساءهم ، ووقف في يوم من الأيام إلا أن يقول وبأعلى صوته :
أنا ربكم الأعلى ، ووقف في يوم آخر ليعلن هذه الرسالة : أليس لي ملك مصر وهذه
الأنهار تجري من تحتي . ووقف في يوم ثالث ليوجه رسالة أسوأ من تلك الرسالتين
فيقول : يا هامن ابني لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب ، أسباب السموات فأطلع إلى
إله موسى وإني لأظنه من الكاذبين . ومع ذلك حين دخل البحر خلف موسى وأطبق الله
تعالى عليه البحر ، قال الله تعالى حاكياً ضعفه : ( حتى إذا أدركه الغرق ، قال
آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين * فقال الله
تعالى له : ( آلئن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ) الشاهد من هذه القصة كلها ،
وهي هي مكمن سر هذا الحديث أن الإمام أحمد رحمه الله روي من حديث ابن عباس أنه
قال : قال صلى الله عليه وسلم لما قال فرعون : (قال آمنت أنه لا إله إلا الذي
آمنت به بنوا إسرائيل ) قال : قال لي جبريل : لو رأيتني وقد أخذت حالاً من حال
البحر ، فدسسته في فيه مخافة أن تناله رحمة الله . فإذا كان فرعون مع كل ما قال
: أوشكت رحمة الله تعالى أن تناله ، فوالله لأنت بهذه العبادة عظيم عند الله
تعالى ، إذا كان الله تعالى مع كل سرف فرعون كادت رحمة الله تعالى أن تصل إليه
فأنت بصيامك هذا أعظم ما يمكن أن تصوّر لك رحمة الله تعالى في موقف كهذا !
أيها الصائم الكريم :
أبو لهب الاسم الذي لجلج في القرآن الكريم : (ى تبت يدا أبي لهب وتب ) وما ذكره
الله تعالى في القرآن إلا في مقام الذم والتحقير ، ظل هذا الرجل يركض في سبيل
إلغاء دعوة الله تعالى ، وقف في وجه مبلغ الدعوة صلى الله عليه وسلم ، وظل
يطارد دين الله تعالى ، وما ترك سبيلاً من سبيل الغواية ، وبث الرذيلة ، وصد
الدعوة إلا فعله ، هذا الرجل في يوم من الأيام لما بلغه ولادة النبي صلى الله
عليه وسلم وبلغته بذلك ثويبة مولاته في يوم الاثنين أعتقها لخبرها ذلك ، ولكم
أن تتصوّرون تم هذا أيام الجاهلية قبل الإسلام ، ومع ذلك حفظ الله تعالى هذا
العمل مع زهادته ، ولم يرجو به وجه الله تعالى ، حفظه الله تعالى له ، فقد روى
البخاري في صحيحه أن هذا الرجل لما توفي رآه أهله بشر حيبة فسألوه عن ذلك فقال
: إنني في مثل هذه الحالة من السوء كما ترون في نار جهنم إلا أن الله تعالى
أسقاني من هذا النقرة كل يوم اثنين تبضّ على ّ بضيضاً يسيراً بسبب إعتاقي
لثويبه في لك اليوم ، فإذا كان الله تعالى حفظ هذا العمل مع زهادته لأبي جهل
إلى يقول القيامة فكيف لا يحفظ لك أيها الصائم صيامك لوجهه تعالى . وإذا كان
الله تعالى جازى أبا لهب بهذا الجميل فأنت والله لأكرم مخلوق عنده سبحانه وأوفى
مسلم بالمجازاة العظيمة على هذه العبادة الشريفة !
إن رمضان سيرحل كما رحل كل عام ، وليس ثمة شك في عوده ، وإنما الشك في بقائنا
للقياه ، فكما أننا لا نملك الرؤية الواضحة في عوده مرة أخرى علينا يمكن أن
نستغله قبل أن يرحل ، ونكتب من خلال لقائه هذا العام صورة من صور تشبثّ الأنفس
بأمنياتها العظيمة ، وقد وعد الله تعالى من يجاهد فيه بالهداية إلى طرق الخير
والفلاح ، قال تعالى : ( والذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا ) . وفقني الله
وإياك إلى استثمار الفرصة ، واستغلال الحدث في ما يعود علينا بالنفع في الدنيا
، والفوز في الآخرة . والله يتولاك برعايته .