|
في أحد الأيام الخوالي كنت عند شيخنا عبدالله بن غديان ـ حفظه الله ـ ، فسأله
أحد الطلبة : ما الفرق بين "العمل " و " الفعل " عند الأصوليين ـ وهي من دقيق
المباحث ـ ؟ ، فأجاب الشيخ : " هذه مسألة أبحث عن جوابها منذ أربعين سنة " فيا
لله العجب !
وقد أذكرني جواب الشيخ كلاماً للقرافي شهاب الدين ، فقد ذكر هذا الأخير أنه
أقام ثمان سنين يبحث في الفرق بين " الشهادة " و " الرواية " ، وهو أول فرق
افتتح به كتابه الماتع " الفروق ".
وما لنا نعجب من القرافي ، وهذا إمامه "مالك بن أنس " يقول :" إني لأفكر في
مسألة منذ بضعة عشر سنةً ، فما اتفق لي فيها رأي إلى الآن .[ الديباج 1/111]
وأصحابنا في هذا الزمان على طرائق متعددة : إما مصنفٌ لم يتأهل ، أو متأهلٌ لم
يصنف ، وقليلٌ من جمع بينهما ، وهذا الأخير و إن كان بحمد الله موجوداً ، إلا
أننا نضرع إلى الله أن يزيد سواده.
وليس مقصود هذه المقالة سوى تشجيع المتأهلين من طلبة العلم على التصنيف ، مع
غاية التحري ، وحسن الضبط ، وحث غيرهم على الاستئناء والتمهل ، فرب عجلة تهب
ريثاً، وكم من إمام سلفيّ غسل كتبه بالماء ، أو دفنها في دهناء، فإياك وما
يعتذر منه.
وقد حفلت كتب السير بأحوال العلماء في تآليفهم ، وكثيراً ما يذكر أن فلاناً
ألّف سفره الفلاني في خمسين عاماً ، أو ما يقاربها .
قال في كشف الظنون بعد أن ذكر أقسام المصنفين :
" ومنهم من جمع وصنف للاستفادة لا للإفادة ، فلا حجر عليه ، بل يرغب إليه إذا
تأهل ، فان العلماء قالوا :
" ينبغي للطالب أن يشتغل بالتخريج والتصنيف فيما فهمه منه ، إذا احتاج الناس
إليه ..........مبيناً مشكلة ، مظهراً ملتبسه ، كي يكتسبه جميل الذكر وتخليده
إلى آخر الدهر .
فينبغي أن يفرغ قلبه لأجله إذا شرع ، ويصرف إليه كل شغله ، قبل أن يمنعه مانع
عن نيل ذلك الشرف ، ثم إذا تم لا يخرج ما صنفه إلى الناس ، ولا يدعه عن يده إلا
بعد تهذيبه وتنقيحه وتحريره وإعادة مطالعته ، فإنه قد قيل : "الإنسان في فسحة
من عقله ، وفي سلامة من أفواه جنسه ، ما لم يضع كتاباً ، أو لم يقل شعراً ، و
قد قيل : من صنف كتاباً فقد استشرف للمدح والذم ، فان أحسن فقد استهدف من الحسد
والغيبة ، وان أساء فقد تعرض للشتم والقذف ..."
إلى أن قال :" ومن الناس من يكره التصنيف في هذا الزمان مطلقاً ، ولا وجه
لإنكاره من أهله ، وإنما يحمله عليه التنافس والحسد الجاري بين أهل الأعصار ،
ولله در القائل في نظمه :
قل لمن لا يرى المعاصر شيئا........ ويرى للأوائل
التقديما
إن ذاك القديم كان حديثاً.......... وسيبقى هذا الحديث قديما
واعلم أن نتائج الأفكار لا تقف عند حد ، وتصرفات
الأنظار لا تنتهي إلى غاية ، بل لكل عالم ومتعلم منها حظ يحرزه في وقته المقدر
له ، وليس لأحد أن يزاحمه فيه ، لأن العلم المعنوي واسع كالبحر الزاخر ، والفيض
الإلهي ليس له انقطاع ولا آخر ، والعلوم منحٌ إلهية ، ومواهب صمدانية ، فغير
مستبعد أن يدخر لبعض المتأخرين ما لم يدخر لكثير من المتقدمين ، فلا تغترّ بقول
القائل : ما ترك الأول للآخر ، بل القول الصحيح الظاهر : كم ترك الأول للآخر
......"
إلى أن قال :" ويقال ليس بكلمة أضرّ بالعلم من قولهم : ما ترك الأول شيئاً ،
لأنه يقطع الآمال عن العلم ، ويحمل على التقاعد عن التعلم ..." اهـ [ كشف
الظنون ]
خالد بن عبد الله المزيني
9 محرم الحرام 1424