بعد سنين طويلة من الغياب الجماهيري عن المشاركة الجادة ، والمستمرة في شتى
وسائل الإعلام خصوصا المقروء منها ، أنفجر صبح الشبكة العنكبوتية ، وفتحت
ملايين المواقع ، وأقبلت الجماهير الغائبة طوال تلك السنين في المشاركة في كل
كبير ، وصغير ، وبدأت هذه المشارك بطابع التستر تحت الأسماء المستعارة في غالب
المشاركين = لتعطيهم هامشا من الحرية ، والجرأة في معالجة ما يريدون ..
ولما كانت المشاركة في هذه الشبكة متاحة للجميع ضمت بين جنبيها أمما من الناس
بشتى ، نحلهم ، ومذاهبهم ، ومشاربهم ، وتوجهاتهم ..
وهؤلاء الكتاب على درجات متفاوت في : التعليم ، والتربية ، والفهم ، والخلق ..
وغيرها.
وهذا البون الشاسع في نوعية الكتاب ، وقدراتهم ، وأخلاقهم ، ومصداقيتهم .. ،
والممارسات الخاطئة لكثير منهم في معالجة القضايا المختلفة = حجب ثقة معظم
الناس في كثير من الكتاب !
وأعطى الثقة لجماعة من الكتاب استطاعوا مع تصرم الأيام أن يثبتوا تقدمهم الفائق
في الطرح المثمر الجاد البناء المصاحب للأدب ، والمصداقية ، والوضوح..
وحيث إن هذا الوضع هو المتاح الآن = وجب السعي بكل قوة للرقي بمستوى ، ومحتوى
المطروح .. ، وتدارس ، ونشر أدبيات الإعلام ، ولغة الخلاف ، و الحوار ..
وحتى يتضح الأمر أكثر لا بد أن تحدد معالم ، وأدبيات يجب على الجميع الالتزام
بها = ليكون الحوار مثمرا وبناء وممتعا ..
ومن أهم هذه المعالم :
* حسن الخلق : ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :" إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه
درجة الصائم القائم ". رواه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم.
وعن أسامة بن شريك قال:" قالوا يا رسول الله ما أفضل ما أعطي المرء المسلم ؟
قال: حسن الخلق". رواه أحمد وصححه ابن حبان.
وفي الصحيحين عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم فاحشا ، ولا
متفحشا ، وكان يقول:" إن من خياركم أحسنكم أخلاقا".
وأحسب أن مدح حسن الخلق من الأمور المتفق عليها بين العقلاء في جميع الأمم ،
فلا بد أن تكون حواراتنا على مستوى من الأدب ، ومجانبة للفحش و البذاء ؟!
* الجدية في الطرح والحرص على المفيد:
تخلفت الفائدة في كثير من المواضيع ؛ لأنها دارت على : قيل وقال ..! ، و بئست
المطية ، وقد جاء الزجر عن هذا ؛ فقال رسول الهدى صلى الله عليه وسلم :" إن الله كره لكم ثلاثا:
قيل وقال.. "الحديث . متفق عليه.
ولذا أوصيك أخي في الله ، ونفسي أن تنتبه لما تكتب ، وتوازن بين المصالح
والمفاسد ، ولا تكن مهذار ثرثارا ، متكثرا ، غير مكترث بما تقول وتنقل ، وكأنك
قد برئت من تبعة ما تكتب ، وضمنت السلامة في الدارين .
و أذكرك ـ وأنت اللبيب الفطن قبل أن تكتب عن أحد ، أو تطعن فيه ـ أن حقوق
العباد مبنية على المشاحة ، ومن كان منهم في دائرة الإسلام = فهو محرم العرض ،
محمي الجناب ، معظم الحرمة ، تحرم الوقيعة فيه إلا بالضوابط الشرعية المقررة
عند العلماء ، مع مراعاة المصالح ، والمفاسد ، وحسن قصدك حين الكتابة .
قال الإمام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله : .. وإذا كان مبتدعا يدعوا إلى
عقائد تخالف الكتاب والسنة ، أو يسلك طريقا يخالف الكتاب والسنة ، ويخاف أن يضل
الرجل الناس بذلك = بين أمره للناس ؛ ليتقوا ضلاله ، ويعلموا حاله ، وهذا كله
يجب أن يكون على وجه النصح ، وابتغاء وجه الله تعالى ، لا لهوى الشخص مع
الإنسان مثل أن يكون بينهما عداوة دنيوية ، أو تحاسد ، أو تباغض ، أو تنازع على
الرئاسة ؛ فيتكلم بِمَسَاوِيْهِ مظهرا للنصح ، وقصده في الباطن الغض من الشخص ،
واستيفاؤه منه ! = فهذا من عمل الشيطان ، و" إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل
امرئ ما نوى" ، بل يكون الناصح قصده أن الله يصلح ذلك الشخص ، وأن يكفى
المسلمين ضرره في دينهم ، ودنياهم ويسلك في هذا المقصود أيسر الطرق التي تمكنه
. مجموع الفتاوى 28/221.
وقال أيضا عند قوله تعالى: .. (ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم
أخيه ميتا فكرهتموه) فجعل جهة التحريم كونه أخا أخوة الإيمان ، ولذلك تغلظت
الغيبة بحسب حال المؤمن ؛ فكلما كان أعظم إيمانا كان اغتيابه أشد ، ومن جنس
الغيبة الهمز ، واللمز فإن كلاهما فيه عيب الناس ، والطعن عليهم كما في الغيبة.
مجموع الفتاوى 28/225.
ومما يلحظ من بعض الناس تسرعه في الأحكام على عباد الله ، وتصنيفهم ، وتبديعهم
لأدنى احتمال يلحظه من كتابته ، وهذه جرأة عظيمة ، وتقحم على المهالك ،
والمتحري لدينه في اشتغاله بعيوب نفسه ما يشغله عن تفحص سقطات غيره ، ونشرها ،
ولا جرم أن تمزيقَ أعراضِ العباد حمق لا يقع من متيقظ.
وإن لم يكن بد من الكلام في شخصٍ ما لسبب شرعي ، فلا بد من العدل ، والإنصاف ،
والأمانة ، والصدق ؛ فالكذب على الناس حرام كله سواء كان الرجل مسلما أو كافرا
، برا أو فاجرا .
وإن كان المتكلم فيه من أهل العلم و (علم منه الاجتهاد السائغ فلا يجوز أن يذكر
على وجه الذم ، والتأثيم له فإن الله غفر له خطأه ، بل يجب لما فيه من الإيمان
والتقوى موالاته ، ومحبته والقيام بما أوجب الله من حقوقه من ثناء ، ودعاء ،
وغير ذلك .
وإن علم منه النفاق.. فهذا يذكر بالنفاق .
وإن أعلن بالبدعة ، ولم يعلم هل كان منافقا ، أو مؤمنا مخطئا = ذكر بما يعلم
منه ، فلا يحل للرجل أن يقفو ما ليس له به علم ، ولا يحل له أن يتكلم في هذا
الباب إلا قاصدا بذلك وجه الله تعالى ، وأن تكون كلمة الله هي العليا ، وأن
يكون الدين كله لله ، فمن تكلم في ذلك بغير علم ، أو بما يعلم خلافه كان آثما
... ثم القائل في ذلك بعلم لابد له من حسن النية ، فلو تكلم بحق لقصد العلو في
الأرض أو الفساد كان بمنزلة الذي يقاتل حمية ، ورياء ، وإن تكلم لأجل الله
تعالى مخلصا له الدين كان من المجاهدين في سبيل الله من ورثة الأنبياء خلفاء
الرسل) . مجموع الفتاوي 28/234-235.
وقال الإمام مالك رحمه الله : بلغني عن القاسم بن محمد كلمة أعجبتني ، وذاك أنه
قال: من الرجال رجال لا تذكر عيوبهم . تاريخ أبي زرعة الدمشقي ص193.
قال الإمام عبد الله بن المبارك: إذا غلبت محاسن الرجل على مساوئه = لم تذكر
المساوئ ، وإذا غلبت المساوئ عن المحاسن = لم تذكر المحاسن. سير أعلام النبلاء
8/398
واحذر أن تعيش في وهم القوامة ، والتدبير للعبادِ ، والبلاد ، والتدخل فيما لا
تحسن ! ..
فمن القبيح المزري بالمرء كلامه فيما لا يعرفه ولا يعنيه .
ومن أهم مقومات الرقي بالكتابة مراعاة :
العدل ، والإنصاف ، والصدق ، والأمانة ، الورع ، والتثبت ، وإحسان الظن ،
والحلم على الجاهل ، وحسن الفهم ، ومعالجة القضايا بحكمة ، والرفق بالمخطئ ،
والصبر على الأذى ، وتلمس حاجات الناس ، ونصر قضاياهم ، ومحاولة رفع الظلم عنهم
، وتبيين الحق لهم ، وتحذيرهم مما يكاد لهم ، والبعد عن نشر خصوصيات الناس ..
وغيرها ..
وفق الله الجميع وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وسلم.