خبرة الإمام أبي
الحسن الأشعري بكلام المعتزلة ، وقلة خبرته بكلام السلف
عبد الرحمن بن صالح السديس
الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ، وصلى الله على محمد
وآله وسلم تسليما . أما بعد :
فهذه عدة نقول من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فيها بيان لقيمة نقل
الإمام أبي الحسن الأشعري لأقول أهل السنة ، ومكانه من هذا العلم ، ومدى تأثره
بالمعتزلة وابن كلاب ، وما بقي معه من هذه الأحوال ..
قال شيخ الإسلام في درء تعارض العقل والنقل 7/35:
ومن الناس من له خبرة بالعقليات المأخوذة عن الجهمية ، وغيرهم ، وقد شاركهم في
بعض أصولها ، ورأى ما في قولهم من مخالفة الأمور المشهورة عند أهل السنة :
كمسألة القرآن ، والرؤية ، فإنه قد اشتهر عند العامة ، والخاصة أن مذهب السلف ،
وأهل السنة ، والحديث: أن القرآن كلام الله غير مخلوق ، وأن الله يرى في الآخرة
، فأراد هؤلاء أن يجمعوا بين نصر ما اشتهر عند أهل السنة ، والحديث ، وبين
موافقة الجهمية في تلك الأصول العقلية التي ظنها صحيحة ، ولم يكن لهم من الخبرة
المفصلة بالقرآن ، ومعانيه ، والحديث ، وأقوال الصحابة ما لأئمة السنة ،
والحديث ، فذهب مذهبا مركبا من هذا ، وهذا ، وكلا الطائفتين ينسبه إلى التناقض
وهذه طريقة الأشعري ، وأئمة أتباعه كالقاضي أبي بكر ، وأبي إسحاق الإسفراييني ،
وأمثالهما ، ولهذا تجد أفضل هؤلاء كالأشعري يذكر مذهب أهل السنة ، والحديث على
وجه الإجمال ، ويحكيه بحسب ما يظنه لازما ، ويقول: إنه يقول بكل ما قالوه ،
وإذا ذكر مقالات أهل الكلام من المعتزلة ، وغيرهم حكاها حكاية خبير بها عالم
بتفصيلها ، وهؤلاء كلامهم نافع في معرفة تناقض المعتزلة ، وغيرهم ، ومعرفة فساد
أقوالهم .
وأما في معرفة ما جاء به الرسول ، وما كان عليه الصحابة ، والتابعون ، فمعرفتهم
بذلك قاصرة ، و إلا فمن كان عالما بالآثار ، وما جاء عن الرسول ، وعن الصحابة ،
والتابعين من غير حسن ظن بما يناقض ذلك لم يدخل مع هؤلاء ، إما لأنه علم من حيث
الجملة أن أهل البدع المخالفين لذلك مخالفون للرسول قطعا ، وقد علم أنه من خالف
الرسول فهو ضال ، كأكثر أهل الحديث ، أو علم مع ذلك فساد أقوال أولئك وتناقضها
كما علم أئمة السنة من ذلك ما لا يعلمه غيرهم كمالك .. الخ
وقال أيضا 7/462:
وكان الأشعري أعظم مباينة لهم في ذلك من الضرارية حتى مال إلى قول جهم في ذلك
لكنه كان عنده من الانتساب إلى السنة والحديث وأئمة السنة كالإمام أحمد وغيره ،
ونصر ما ظهر من أقوال هؤلاء ما ليس عند أولئك الطوائف ، ولهذا كان هو وأمثاله
يعدون من متكلمة أهل الحديث ، وكانوا هم خير هذه الطوائف ، وأقربها إلى الكتاب
والسنة ، ولكن خبرته بالحديث ، والسنة كانت مجملة ، وخبرته بالكلام كانت مفصلة
.
فلهذا بقي عليه بقايا من أصول المعتزلة ، ودخل معه في تلك البقايا ، وغيرها
طوائف من المنتسبين إلى السنة ، والحديث من اتباع الأئمة من أصحاب مالك وأبي
حنيفة والشافعي وأحمد ..
و أشار إلى أن عنده بقايا من الاعتزال في 2/99 و7/99 .
وقال في منهاج السنة 5/276-279:
وأما معرفة ما جاء به الرسول من الكتاب ، والسنة ، وآثار الصحابة ؛ فعلم آخر لا
يعرفه أحد من هؤلاء المتكلمين المختلفين في أصول الدين ، ولهذا كان سلف الأمة ،
وأئمتها متفقين على ذم أهل الكلام فإن كلامهم لا بد أن يشتمل على تصديق بباطل ،
وتكذيب بحق ، ومخالفة الكتاب ، والسنة ، فذموه لما فيه من الكذب ، والخطأ ،
والضلال ، ولم يذم السلف من كان كلامه حقا ، فإن ما كان حقا ، فإنه هو الذي جاء
به الرسول ، وهذا لا يذمه السلف العارفون بما جاء به الرسول ، ومع هذا فيستفاد
من كلامهم نقض بعضهم على بعض ، وبيان فساد قوله ، فإن المختلفين كل كلامهم فيه
شيء من الباطل ، وكل طائفة تقصد بيان بطلان قول الأخرى ، فيبقى الإنسان عند
دلائل كثيرة تدل على فساد قول كل طائفة من الطوائف المختلفين في الكتاب ، وهذا
مما مدح به الأشعري ، فإنه من بين من فضائح المعتزلة ، وتناقض أقوالهم ،
وفسادها ما لم يبينه غيره ، لأنه كان منهم ، وكان قد درس الكلام على أبي على
الجبائي أربعين سنة ، وكان ذكيا ، ثم إنه رجع عنهم ، وصنف في الرد عليهم ، ونصر
في الصفات طريقة ابن كلاب ؛ لأنها أقرب إلى الحق والسنة من قولهم ، ولم يعرف
غيرها ، فإنه لم يكن خبيرا بالسنة والحديث ، وأقوال الصحابة والتابعين ، وغيرهم
، وتفسير السلف للقرآن ، والعلم بالسنة المحضة إنما يستفاد من هذا ، ولهذا يذكر
في المقالات مقالة المعتزلة مفصلة يذكر قول كل واحد منهم ، وما بينهم من النزاع
في الدق ، والجل كما يحكى ابن أبي زيد مقالات أصحاب مالك ، وكما يحكي أبو الحسن
القدوري اختلاف أصحاب أبي حنيفة ، ويذكر أيضا مقالات الخوارج ، والروافض ، لكن
نقلة لها من كتب أرباب المقالات لا عن مباشرة منه للقائلين ، ولا عن خبرة
بكتبهم ، ولكن فيها تفصيل عظيم ، ويذكر مقالة ابن كلاب عن خبرة بها ، ونظر في
كتبه ، ويذكر اختلاف الناس في القرآن من عدة كتب فإذا جاء إلى مقالة أهل السنة
، والحديث ذكر أمرا مجملا يلقى أكثره عن زكريا بن يحيى الساجي ، وبعضه عمن أخذ
عنه من حنبلية بغداد ، ونحوهم ، وأين العلم المفصل من العلم المجمل ، وهو يشبه
من بعض الوجوه علمنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم تفصيلا ، وعلمنا بما
في التوراة ، والإنجيل مجملا لما نقله الناس عن التوراة ، والإنجيل ، وبمنزلة
علم الرجل الحنفي ، أو الشافعي ، أو المالكي ، أو الحنبلي ؛ بمذهبه الذي عرف
أصوله ، وفروعه ، واختلاف أهله ، وأدلته بالنسبة إلى ما يذكرونه من خلاف المذهب
الآخر ، فإنه إنما يعرفه معرفة مجملة ، فهكذا معرفته بمذهب أهل السنة ، والحديث
مع أنه من أعرف المتكلمين المصنفين في الاختلاف بذلك .
وهو أعرف به من جميع أصحابه من: القاضي أبي بكر ، وابن فورك ، وأبي إسحاق ،
وهؤلاء أعلم به من : أبي المعالي ، وذويه ، ومن الشهرستاني ، ولهذا كان ما
يذكره الشهرستاني من مذهب أهل السنة ، والحديث ناقصا عما يذكره الأشعري ، فإن
الأشعري أعلم من هؤلاء كلهم بذلك نقلا وتوجيها ، وهذا كالفقيه الذي يكون أعرف
من غيره من الفقهاء بالحديث ، وليس هو من علماء الحديث ، أو المحدث الذي يكون
أفقه من غيره من المحدثين ، وليس هو من أئمة الفقه ، والمقرىء الذي يكون أخبر
من غيره بالنحو والإعراب ، وليس هو من أئمة النحاة ، والنحوي الذي يكون أخبر من
غيره بالقرآن ، وليس هو من أئمة القراء ونظائر هذا متعددة .
وقال في منهاج السنة 8/8:
وأما الأشعري فلا ريب عنه أنه كان تلميذا لأبي علي الجبائي لكنه فارقه ، ورجع
عن جمل مذهبه ، وإن كان قد بقي عليه شيء من أصول مذهبه لكنه خالفه في نفي
الصفات ، وسلك فيها طريقة ابن كلاب ، وخالفهم في القدر ، ومسائل الإيمان
والأسماء والأحكام ، وناقضهم في ذلك أكثر من مناقضة حسين النجار ، وضرار بن
عمرو ، ونحوهما ممن هو متوسط في هذا الباب كجمهور الفقهاء ، وجمهور أهل الحديث
حتى مال في ذلك إلى قول جهم ، وخالفهم في الوعيد ، وقال بمذهب الجماعة ، وانتسب
إلى مذهب أهل الحديث والسنة كأحمد بن حنبل وأمثاله ، وبهذا اشتهر عند الناس ،
فالقدر الذي يحمد من مذهبه هو ما وافق فيه أهل السنة والحديث كالجمل الجامعة ،
وأما القدر الذي يذم من مذهبه فهو ما وافق فيه المخالفين للسنة والحديث من
المعتزلة والمرجئة والجهمية والقدرية ونحو ذلك .
وأخذ مذهب أهل الحديث عن زكريا بن يحيى الساجي بالبصرة ، وعن طائفة ببغداد من
أصحاب أحمد وغيرهم ، وذكر في المقالات ما اعتقد أنه مذهب أهل السنة والحديث ،
وقال بكل ما ذكرنا من قولهم نقول وإليه نذهب .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في الاستقامة 1/212
[عن ابن كلاب وأبي الحسن الأشعري] : كانا يخالفان المعتزلة ويوافقان أهل السنة
في جمل أصول السنة . ولكن لتقصيرهما في علم السنة ، وتسليمهما للمعتزلة أصولا
فاسدة = صار في مواضع من قوليهما مواضع فيها من قول المعتزلة ما خالفا به السنة
، وإن كانا لم يوافقا المعتزلة مطلقا .