التواصلُ الحرفيُّ بين الناسِ كلٌّ يُتقنه إبداءً و إظهاراً ، و لا يغيبُ
إلا عن أخرس لا يستطيع لسانه ليَّ بكلامٍ ، أو مُعجَّمُ اللغةِ غريبها ، و
سواهما فارسُ النطقِ ، و ما كلُّ ناطقٍ صوتاً باسقٌ صِيتاً ، فمن الناطقينَ
مَن كلامُه كالِمُه ، و منهم مَن حرفهُ حاتفه ، و نُطْقُه ناطِقُه ، و
هؤلاء ليسوا بشيءٍ سوى مظهراً صوتياً ، و لا يَعني شيئاً في الوجود البشري
إلا قيمةُ التميُّزِ عن غير الناطقِ أو العجماويِّ .
حين تكون حروفنا سائقاتنا نحو حضارةٍ تعمُرُ الأرضَ ، و تنهضُ بالدنيا ، و
تبني عقولاً ، فإنها تكون لها قيمةُ التمايُز التي خُصَّتْ به ، و إلا فليس
النطقُ شيئاً إلا حينَ يكون لمعنى ناهضٍ من قلبٍ نابضٍ بعُرى الكمالِ قابضٌ
.
في حينِ سارَ قليلٌ ، و القليلُ منزلةً لا منزلاً ، في إظهارَ أصواتِ
حروفهم ، مُهملينَ و جافِيْنَ المعاني المُضمَّنَة تكوُّن الحروفِ اجتماعاً
، كانتْ لنا حُصَّةً من غيابِ الوصولِ إلى صُنعِ الحضارةِ ، و التكاسُلُ
عَن مواصلة مسيرة الكمالِ ، لأننا " نسمع جعجعةً و لا نرى طحناً " ، و تلك
التي أقصتْ بنا في أواخر المراكب ، ففادحتنا الغرائب العجائب .
الصوتُ بِلا إتقانِ الفَوتِ يزول مع الهواء الذي يصحبُه ، فلا قيمة لسهمٍ
في كنانةٍ ، و لا قيمةَ له في هواءٍ ، إلا لفتَ النظرِ بالبصرِ ، و حين
يُضربُ به هدفٌ فإنه يُلفتُ نظرَ البصيرةِ .
الحروفُ تصنع حضاراتٍ كبرى ، كما صنعتها قبلُ ، و لكن لا تكون تلك إلا حينَ
تكون رُسُلَ المعاني ، فالحروفُ مبانٍ لكلِّ معنى في القلبِ و العقلِ ، و
أما حين تكون ليست إلا مبانيَ خاوية على عروشها ، فالكثيرون ملءَ الأرضِ
يُحسنون قولاً و صوتاً .
الحضارات مهما كانت آلاتُ صُنعها فإنَّها كانتْ بحروفٍ منثورة لا مغمورة ،
و الحروفُ معرفة ، و الغلبةُ للأقوى ، و لا أقوى من المعارف ، و حين لا
تكون ثمَّةَ معارف فلا حضارات ستقوم ، و الحروفُ ستكون من الحُتوفِ .