" المعرفةُ القوةُ "
وظيفة الإنسان في الوجود عمارةُ الأرض و إصلاحها ، و لا يُرشده لذلك إلا
العقل ، لما له و فيه من وظائف لا تتناسَب إلا معه وحده ، و لا يتحصَّل
للعقل إدراك ذلك إلا بالمعرفة ، ووظيفة العقل تحقيق وظيفة الوجود البشري .
تحقيق تلك الوظيفة العقلية بالمعرفة و العلم من خلال عملين :
العمل الأول : التأهيل ، بأن يتأهل العقل بالمعارف الموجودة في الحياة ،
فيكتسبها من قوانين التجارب أو التأمُّلات ، و لا قانون إلا من واقع ، و
عندما يتأهل العقل يكون بصيراً بأحوال الحياة ، خبيراً بالتعامل معها ، و
هذا كفيلٌ بأن يكون تأهُّلُه فاتحاً له أفق إدراك وظيفته لخدمة الإنسان
العامر الصانع .
و حين يتأهل العقل بالمعارف الحياتية ، و يُدرك قوانينها و تعاليمها ينتقلُ
إلى :
العمل الثاني : التفعيل لدوره في الحياة ، و تحصيل مقاصد و رسالة تلك
المعرفة التي اكتسبها و تأهَّل بها ، و التفعيل المبني على عدم التأهيل
تفعيل فاشل سلبي ، و التفعيل بقدر التأهيل قوةً و ضعفاً سعةً و ضيقاً ،
شمولاً و حصراً ، حكمةً و طيشاً ، ثمرةً لبذرةٍ ، لأنها مشهد عملي لمقصد
علمي .
وظيفة العقل واسعة المساحة ، كبيرة المحتوى ، لا تنتهي عند حد إلا حد
المستحيل ، فإذا كانت كذلك فإن وضع قيود لقدرة العقل من الجرائم المرتكبة
ضدَّه ، و التي تحرم في قانون البشرية و لا ترتضيها حكمة الخالق ، على أنه
ليس كل قيد قيداً ، و ما كل من وضع القيود مُصيباً لأن مدارها على الخلفية
المعرفية و الفهمية و المقصدية ، و تبقى القيود تصرفاً بشرياً ، و البشر
ليسوا سواءً .
تقييد العقل في تأهيله و تفعيله للمعارف نتيجة فهم خاطيء لقدرته و قوته ، و
من لم يعرف الشيءَ لا يُقدِّره قدره ، و هذا التقييد عاد بالأثر السيء على
تحصيله لتلك المعارف فحصَّلها العقلُ في حدود ضيقة ، و جداً غالباً ، و
المعرفة لا تحدُّها حدود في تكوينها و إنما في توظيفها و تفعيلها .
و عندما تضيق المعارف تضيق معها آفاق نظر الإنسان ، و في ضيق الأفق ضيق
النظر و الأثر ، فيضعف دور الإنسان في صناعة الحياة و إحداث عمارتها .
باستطاعة العقل أن يحوي الكثير من المعارف و المعلومات ، فقط حين يُعطى
إشارة الرغبة المُلحَّة في ذلك ليستعدَّ ، مع السعي في تحصيلها ليتحرك ،
عندها يبدأ بمَلء خزانته شيئاً فشيئاً ، و الأكثر معرفة أكثر قوة .
الزمان يتجدد ، و لكل زمان ما يناسبه ، و العاقل يتناسب مع زمانه و يتواكب
في مراكبه ، ليُحقق وظيفة وجوده في تفعيل وظائف العقل و المعرفة .
من هنا كان لزاماً الانفكاك من القيود التي كبحت العقل البشري عن إدراك
المعرفة ، بشتَّى أنواعها ، ليعيش متطلبات زمنه ، و ضروريات الحال ، و يتم
تفعيل دور العقل في توظيف المعارف و العلوم التي حصَّلها ، و من هنا
تتكوَّن بذرة الإبداع في المعارف المواكبة للزمن و يبدأ الإنسان في مرحلة
عمارة جديدة ، و هكذا تُبنى حضارة الوجود حين لا قيود .